كثيرة هي القيم والمبادئ التي أرسى دعائمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه والمسلمين من بعدهم , وقد ترسخت هذه القيم في النفوس والقلوب حتى صارت جزءا من تكوين المسلم القيمي والأخلاقي , لا يمكن أن تنفك عنه أو أن يتجرد منها رغم محاولات أعداء الإسلام الدؤوبة والمستمرة لفعل ذلك .
وعادة ما تظهر هذه المبادئ والقيم في فترات الأزمات والمحن , وذلك من خلال تصرفات وأفعال معتنقيها العفوية أوالقصدية , حيث يمثل وقت الشدة والبأس الغربال الذي لا يبقي في النفس البشرية إلا الأصيل والثابت من منظومة القيم والمبادئ التي تربى عليها الإنسان , تصديقا لقول الله تعالى : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ } (الرعد/ 17).
وإذا أراد الباحث معرفة مدى تأصل القيم والمبادئ في أمة من الأمم أو فرد من الأفراد , فلينظر إلى تصرفاتهم في أوقات الشدة والكرب , وليراقب مقدار تمسكهم بتلك المبادئ والقيم عبر قصصهم اليومية ومشكلاتهم الحياتية , التي تعتبر مقياسا دقيقا لهذا الأمر .
وفي هذا المقال سنتعرض لثبات المبادئ والقيم الإسلامية في قصة واقعية من قصص الأحداث السورية اليومية المأساوية , التي تعبر بشكل أو بآخر عن مدة تغلل القيم الإسلامية في نفوس ذلك الشعب الأصيل .
( ابنتي .... ابنتي يا جماعة ) كلمات والد سوري مكلوم قالها بعد أن سحبوه من تحت الأنقاض إثر قذيفة سقطتت على بيته في حي جوبر الدمشقي , لكن بعضه ما زال عالقا تحت الركام , فقلبه وروحه ما زالت معلقة هناك , مع ابنته التي ما زالت عالقة تحت الأرض , في زمن أصبح السوري فيها يرى هناك – تحت الأرض والركام - أكثر مما يرى على وجه الأرض والحياة .
كانت أصوات المنقذين تقوي عزيمة بعض الفتية والصبية العالقين تحت الركام , تلك العزيمة والإرادة التي قارعت وصارعت قوى البغي والظلم على مدى أكثر من عامين , ومن يستطيع كسر إرادة الإنسان وعزيمته إذا كانت مستمدة من قوة الله تعالى وقدرته , فمغالب الله مغلوب ومعاند الله مهزوم , { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } ( يوسف/21 ).
بعد الحفر والتنقيب ظهرت بعض أنامل تلك الفتاة السورية المسلمة تتحرك , إنها ما تزال على قيد الحياة رغم كل هذا التدمير والخراب , الله أكبر , إنها قدرة الله تعالى التي تجعل أمثال هذه الفتاة حية تحت أكوام من الحجارة والتراب , بينما قد تموت أخرى من زلة قدم أو سكتة دماغية أو جلطة قلبية على ظهر الأرض .
تلك كلمة السر التي تجعل المسلم لا يذل ولا يخضع لأحد إلا لله تعالى , فما دامت روحه ونفسه بيد الله تعالى , فلا يمكن لأحد أن ينتزعها منه إلا بإذنه وإرادته , فلتكن هذه الروح إذن حرة لا يستعبدها غيره سبحانه , ثم من قال أن الحياة حياة الجسد فحسب ؟؟!! إن كثيرا من الأحياء في الظاهر هم في الحقيقة أموات , ما دام ضميرهم غائب أو مغيب عن مآسي إخوانهم من المسلمين .
تحت الأرض والركام والظلمات المتراكم بعضها فوق بعض , يخيم شبح الموت في كل مكان وزاوية , وحينها لا يفكر الإنسان عادة إلا بالنجاة والخروج , خاصة بعد أن يسمع بعض الأصوات من فوق الأرض , فترنو نفسه لها وتشرئب , وتتعلق روحه بالأمل والحياة , دون تكلف أو تظاهر , فالنفس البشرية جبلت على حب الحياة والتعلق بها , فلا يفكر العقل حينها إلا بهذا الأمر , ولا تنشغل النفس إلا بهذا الجانب , وهو أمر مفهوم ومعلوم ولا يجادل فيه أحد .
بيد أن المسلم الذي ملأ الإسلام قلبه , وتشربت عروقه تعاليمه وهداه , بشر ولكنه ليس كالبشر , فمبادئ الإسلام التي تربى عليها , وأوامره التي طبقها ونفذها في حياته , لا يمكن أن تنسلخ من نفسه وسلوكه حتى في أشد الظروف وأقساها , وهذا ما جعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضربون أروع الأمثلة في هذا الجانب .
وذلك كان صنيع بطلة قصتنا الواقعية هذه , فما إن أزيح بعض الركام والتراب من على ظهر الأرض , وما إن ظهرت بعض أشعة الشمس على ذلك المكان المظلم , حتى نطقت الفتاة العفيفة بلسان دينها وأخلاقها وعفتها , قبل أن ينطق به لسان فمها الذي في وجهها : ( عمو لا تصوروني ماني محجبة ) .
وإذا كان اللسان يعجز عن تفسير هذه الظاهرة الفريدة الرائعة , وإذا كانت ألفاظ العربية بأجمعها غير قادرة على شرح معنى هذه العبارة القصيرة المباني العظيمة القيمة والمعاني , فإنها على كل حال ذكرتني بتلك المرأة المسلمة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , والتي جاءت تشتكي له حالة الصرع التي تنتابها بين الفترة والأخرى , فخيرها الرسول صلى الله عليه وسلم , بين أن يدعو الله لها فتشفى , وبين أن تصبر فتؤجر , فاختارت الأجر والثواب على المشقة والعذاب , ولكنها فطنت لأمر هو أكثر ما يشغل بالها , وأشد أذى وإيلاما في ما تلاقيه من ساعة الصرع التي تنتابها , فالألم والعذاب المصاحب لحالة الصرع يهون أمام هذا الأمر ويضمحل ,إنه أمر العفاف والستر الذي ربما ينخدش أثناء حالة الصرع , فتسارع المرأة المسلمة بطلب الدعاء من الرسول صلى الله عليه وسلمكي لا تتكشف .
جاء في صحيح البخاري عن عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ : قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ : أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ , قُلْتُ : بَلَى , قَالَ : هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي , قَالَ : (إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ فَقَالَتْ : أَصْبِرُ , فَقَالَتْ إِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ , فَدَعَا لَهَا ) صحيح البخاري 7/116 برقم 5652.
فهل في قاموس العالم عفاف كهذا العفاف ؟ وهل يمكن لدين من الأديان غير الإسلام أن يرقى بأخلاق المرأة وعفافها إلى هذه الرتبة السامية وهذه المنزلة الرفيعة ؟
إن قصة هذه الفتاة السورية العفيفة ستكون وشاحا على تلك العائلة التي ربت أمثال هذه الفتاة , ودلالة بارزة لحقيقة طبيعة المعركة القائمة بين العفاف المأمور به في الإسلام , وبين العهر الذي يدعو له الغرب وزبانيته في كل مكان , ومنهاجا سيدرس للأجيال القادمة , بأن العفة والطهر كان وما يزال علامة فارقة للمرأة المسلمة أينما كانت , وأن المبادئ والقيم الإسلامية التي رسخت في نفوس المسلمين , من لدن محمد صلى الله عليه وسلم وإلى قيام الساعة , لا يمكن أن تضمحل أو تنمحي , مهما تراكمت فوقها الأغشية والأتربة وأكوام الحجارة والأبنية , لأنها ببساطة شديدة ستخرج من بين الركام , معلنة أن أمثال هذه المبادئ لا تموت , وأن أمثال هذه القيم لا تنمحي .