ولكني أريد الذهاب يا أمي ".. قالتها جميلة ذات التسعة عشر ربيعا ,
قالتها وهي تتأفف وتلاحق أمها من غرفة إلى أخرى .
-إذا علم والدك بخروجك المتكرر سيغضب.
-ومتى كان لأبي شأن بي أو بنا جميعا , إننا لا نكاد نراه في المنزل
وتلك اللحظات التي يمكث فيها معنا يقضيها في الصياح والخصام معك .
-قالت الأم بغضب : كفي عن هذا الكلام واذهبي لمذاكرة دروسك .
- ولكن حنان تنتظرني لنذاكر سويا في منزلها .
وبعد إلحاح من جميلة ظفرت بما تريد والتقطت مجموعة من الكتب وخرجت.
لم تكن وجهتها الحقيقة بيت صديقتها حنان إنما هو مكان آخر يحلو لجميلة زيارته دائما .
أنه أحد مستشفيات المدينة التي كانت تعيش فيها .
مكان لا يُتصور أن يكون مرتعاً لأصحاب القلوب المريضة من البشر ,
القلوب المريضة في إيمانها وعلاقتها بربها .
لا ترى في ذلك المكان إلا مريضاً يئن ,أو طفلاً يصرخ في غرفة
الجراحة من مشرط الطبيب, أو بقايا دماء على السرير الأبيض
في غرفة الطوارئ ,أو وجوه شاحبة مترقبة أمام باب قسم العمليات ,
لكن قلوباً تائهة أحكم الشيطان وثاقها فقادها إلى ذلك المكان حيث لا تُثار حولها الشكوك.
وارتبطت بأمجد موظف الاستقبال في علاقة يسمونها زوراً" حب من أول نظرة"
أحياناً تأتي جميلة بأختها الصغيرة المصابة بالحمّى وأحياناً تقترح على
صديقتها المتوعكة بضرورة الذهاب للمستشفى وتتطوع
بمرافقتها وأحيانا كثيرة كانت تدعي المرض للقاء أمجد.
هذه صورة للقلوب حينما تفقد أسمى معاني الحياة والحياء .
انطلقت جميلة للقاء أمجد و ضمَّختْ ملابسها بأزكى أنواع العطور
لاسيما عطرها المفضل الذي أحبته كثيراً لأنه كما قال أمجد أول خيط شده إليها .
كثرت لقاءات جميلة مع أمجد في المستشفى وكان
أمجد يتملص من عمله كلما ظفر بلقاء جميلة مدعيا أنها
قريبته ولابد من مساعدتها حتى تدرك حاجتها .
-لن أستطيع الحضور للمستشفى بعد اليوم .
-قالتها جميلة بدلال ممزوج بأسىً مصطنع .
وبادلها أمجد رجفةَ فزعٍ ودهشةٍ ملفقةٍ قائلاً:
لماذا أرجوك لا تحرميني من حياتي .
ردتْ بدلال: أخشى من أمي فقد فرغتْ جعبتي من الأعذار
ولست أدري ماذا سيحلُّ بي لو علم أخي بما يجري.
-ما رأيك في الزواج ؟
-طار قلب جميلة فرحاً, ثم أطرقت مبتسمة وقد أحست
بصدق أمجد فيما يقول. تابع أمجد خداع فريسته قائلا :
لقد أعطاني المستشفى إجازة سأعمل خلالها في التجهيز
لزواجنا لكن لابد لنا من لقاء أخير نتفق فيه
على كل ما يخصنا من أمور الخطبة والزواج
وسأنتظرك يوم الجمعة عصراً بسيارة ابن
عمي ونقطة انطلاقنا من هنا من أجمل مكان في العالم والذي ظفرت فيه بأجمل فتاة .
وافقت دون تفكير فقد خدرها أمجد بسحر كلماته الزائفة إذ مالفرق بين لقائهما هنا
أو لقائهما في السيارة إن هي إلا دقائق ثم تظفر بأمجد زوجاً لها .
عاشت جميلة طوال الأسبوع في حلم جميل , تحلم فيه بالزفاف
وكانت تتواصل مع أمجد عن طريق الجوال وفي نهاية كل اتصال يذكرها أمجد قائلا :
" لا تنسي لقاءنا يوم الجمعة لا تنسي يوم اللقاء الحبيب"
اطمأنت جميلة إلى عدم وجود أي شكوك نحوها من أفراد أسرتها فالكل بعالمه منشغل .
الوالد في عمله وإن حضر فيغطُّ في نوم عميق أو يستعد للخروج مرة أخرى ,
والأم المسكينة في بحر هموم المنزل ورعاية الأسرة ,
أما الأخ الأكبر فلم يختلف عالمه عن عالم جميلة كثيراً,
فكان لاهياً عابثاً مع حنان وكانتا كالكف والساعد, وبالساعدين تبطش الكفان .
وجاء يوم اللقاء الحبيب كما أسماه أمجد ,
وتعلقت تلك التسمية بشغاف قلب جميلة فأحكمت تعلقها به وانقيادها له.
وكان لجميلة ما أرادت فالوالد مسافر لبعض مشاغله ,
والأم لا حول لها ولا قوة , أما الأخ فهو " رجل "
لا يستطيع أحد محاسبته وأغلب وقته مع شلة بائسة من أصدقاء السوء
طلبتْ جميلة من حنان الاتصال بأمها والإدعاء بأنها مريضة وتحتاج لوجود
جميلة معها طوال اليوم , وبعد حياكة المؤامرة بمهارة -كعادتهما في ذلك –
خرجت جميلة واستقرت في سيارة الأجرة منطلقة إلى طريقها المعهود.
كان أمجد قد اتفق مع ابن عمه على الظفر بتلك الفريسة وتقاسم الصيد الثمين معاً,
وما أن رأى جميلة تدلف من باب المستشفى حتى ارتسمت
على محياه ابتسامة ماكرة فقد جاءه الحمل الوديع يمشي على رجليه .
تصنَّع الفرح قائلا : لقد كاد قلبي يطير من بين أضلعي خوفاً من عدم حضورك .
ردت بسذاجة : وكيف أنسى يوم اللقاء الحبيب.
لكن عدني أن تأتي يوم الخميس مع عائلتك لتنفيذ اتفاقنا .
_ أجل .أجل , طبعا أو تشكين في ذلك ؟
انطلقا معا ...
ولكن , تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن , بينما هما يهمّان بالخروج وقعت
عينا جميلة على أخيها الأكبر يدخل المستشفى مع مجموعة من أصدقائه
الذين تعرضوا لحادث سير وأتوا بصديقهم المصاب .
ما أن وقعت عينه عليها حتى جن جنونه ونسي أمر يده التي أصيبت في الحادث ,
سار إليها والغضب يغلي بين جنبيه وقد اكفهر وجهه:
جميلة ماذا تفعلين هنا ؟
أحست وكأنها سقطت من شاهق, ولم تنبس ببنت شفة.
-تكلمي ! ماذا تفعلين هنا ؟
تراجع أمجد للوراء وعاد إلى كرسي موظف الاستقبال مبتعدا عن عيني سالم .
استفاقت جميلة من دهشتها وتحرك لسانها بعد أن ألجمه الخوف قائلة :
ماذا !! سالم !! نعم , لقد أتيت .. لقد أتيت نعم , نعم ,
أحسست بألم شديد في صدري , وكان قلبي في وجيب شديد ,
وتعاورتني وخزات مؤلمة كالسكين فأتيت لمراجعة الطبيبة ,
وقد طلبت من موظف الاستقبال أن ألقى الطبيبة بيد أن عيادتها مزدحمة
بالمرضى فكنت أنتظر دوري هنا .
_ ولماذا أتيت دون والدتك .
_ لم أشأ أن أخيف والدتي حفاظا على صحتها أنت تعلم أنها مريضة بالسكر .
أحكمت البارعة في الأكاذيب خطتها واطمأنت إذ لاحظت اقتناع سالم بكلامها .
أومأت جميلة لأمجد فقال :
هذا هو الملف تفضلي .
سالم : اجلسي أمام عيادة الطبيبة ريثما أذهب لمداواة يدي من إصابتها وأعود إليك إياك أن تتحركي .
ألقت جميلة بنفسها على الكرسي أمام عيادة الطبيبة وشعرت بخيبة أمل كبيرة , وانطلق الذئب خارجاً من
المستشفى يعض أصابعه غيظا, فقد خسر فريسة كانت على بعد خطوة من الهدف.
عاد سالم وحان دور جميلة ولم تدر ما تقول للطبيبة لكنها واصلت نسج رداء الكذب الذي ترتديه دائما :
أشعر بارتفاع في درجة الحرارة و وخزات عنيفة متقطعة و...و...و...
أجرت الطبيبة فحصا لها وقالت:
أنت بخير , لاشيء ظاهر لكن لدي شك في أمر ينبغي التأكد منه .
جميلة : ماذا! من ماذا تتأكدين ؟
الطبيبة : بعض الفحوصات الروتينية ونتأكد إن شاء الله .
رضخت جميلة لأمر الطبيبة حتى لا تحرك الشك في قلب أخيها
وحددت الطبيبة موعداً في اليوم التالي لأخذ نتائج الفحص.
وكانت المفاجأة التي نزلت على رأس جميلة :
"لديك ورم في أحد القنوات اللبنية في الثدي الأيمن ولابد من
إجراء عملية للحد من الورم ومعرفة نوعه".
صعقت جميلة مما تسمع وارتمت على السرير الأبيض وهي
في حالة ذهول وخوف وقد انعقد لسانها عن الكلام .
وبعد أيام تأكد الأمر : إنه الخبيث , إنه السرطان ولابد من الخضوع لعلاج متواصل له للحد من انتشاره.
أصيبت الأم بالهلع والذهول وكل الأسرة والصديقات وأصابت جميلة حالة عصبية وهذيان :
لا.. ماذا تقولون , لابد أن هذا كذب , أنا لست مريضة , لست مريضة وانفجرت بالبكاء .
أُدخلت إلى مستشفى متخصص في الأورام وبدأت رحلة الصراع مع السرطان .
رأت جميلة شريط حياتها يمر سريعاً أمام عينيها وهي ترقد
في العناية المكثفة بعد إجراء استئصال للورم إلا أنه عاود الظهور
في الأشهر التالية واكتسح كل المضادات الحيوية .
جاءت حنان لزيارة جميلة ورأت أمامها شخصاً آخر غير جميلة التي عرفتها ,
خاطبتها جميلة قائلة :
أرأيت يا حنان ما حلَّ بي ! بعد الجمال , وتورد الخدود,
وعنفوان الشباب أرقد هنا لا أستطيع حراكاً قد شحب لوني,
وهاجمني المرض, وانتشر وأنا لاهية غافلة و أصبحت رهينة هذه الأجهزة .
بكت الصديقتان اللتان طالما تعاونتا على الإثم والعدوان .
واستمرت جميلة في رحلة العلاج ومرت الأيام تلو الأيام وحالتها تزداد سوءا.
وبخطىً منهكة وجسد هزيل مشت في غرفتها وحيدة ,
وقفت أمام النافذة تنظر إلى الحياة خارج أسوار المستشفى وحدثت نفسها قائلة :
هذه أنا , تلك الأمة التي عصت الله تعالى وبارزته بالمعصية
في مكان أضعف ما يكون الإنسان وهو فيه , صيرتُه مرتعاً لشهوات نفسي ,
أين أمجد؟ أمجد الذي كان ينوي افتراسي لو نظر إليَّ الآن لأصابه
الهلع كم ملكت لبه برائحة عطري , وكحل عيني , ودلال صوتي , وجمالي..
ماذا فعلت في نفسي أهلكتها , لم أراقب مالك الملك أدعيت المرض
هرباً من بطش أخي وما خفت من بطش خالقي فابتلاني ,
قلبي الآن تائب عائد.. عائد يا رب فهل تقبله ؟
خلصي نفسك يا جميلة من حبائل الشيطان وأنيبي إلى الرحمن فلن يضيعك.
كانت وحيدة فقد منعت عنها الزيارة لانتشار المرض في جسدها
حتى تمكن من عظام صدرها فعاشت خلوة مع الله مع كتاب
الله قراءة وتفهما وهو ما لم تفعله وهي صحيحة البدن من
غفلة المعصية وذلها .
طلبت رؤية حنان وخاطبتها قائلة :
هذه النافذة هي صلتي بالعالم الخارجي انظري يا حنان إلى
تلك الشجرة أمام النافذة فيها عش عصافير يأتون أمام نافذتي
بعد صلاة الفجر فأطعمهم من فتات طعامي الذي عافته نفسي لمرضي ,
بعد أن أصلي الفجر ,,نعم صلاة الفجر التي كم ضيعتها أمشي
بخطوات متثاقلة فأطعم طيوري الجميلة هل تعلمين يا حنان
أحس براحة ولم يبق لي من رفيق غير كتاب الله تعالى ,
أصبحت أحب لقاء الله وسيكون يوم موتي يا حنان هو يوم اللقاء الحبيب ,
انهمرت دموعها وواصلت كلامها قائلة :
نعم ليس يوم اللقاء الحبيب , يوم لقاء العبد لشهواته ونزواته إنما
هو يوم أن يلقى الله تعالى وهو راض عنه .
عاشت مع المرض أياما ًوشهوراً مترعة بالألم ,
وكانت أمها تقوم بتمريضها ومرافقتها في المستشفى .
ذات يوم ..
وفي أحد أروقة المستشفى جاءت حنان لزيارة جميلة
وأصرت على الدخول إلى غرفتها فقالت
والدة جميلة : أدخلي إليها بالأمس عانت من آلام مبرحة
لكنها الآن بخير لقد تركتها تقرأ وسأذهب لاستدعاء الممرضة فقد حان وقت جرعة الدواء .
دخلت حنان إلى غرفة جميلة فلم تحس جميلة بوجودها إذ كانت نائمة وقد أسندت
كتاب التفسير إلى صدرها وغطت في نوم هادئ لكن حنان لاحظت على
وجنتي جميلة دموعا غزيرة فاقتربت منها وأيقظتها لكن ... لم تستيقظ فقد رحلت إلى ربها.
أخذت حنان كتاب التفسير من على صدرها وطبعت قبلة الوداع على
جبين جميلة وزاد من ألمها وبكائها كلمات كتبتها جميلة على هامش كتاب التفسير ,
كانت قد توقفت عند سورة الحديد وأشارت بخطوط بقلمها تحت قوله تعالى
" ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق .."
كانت تلك آخر آية قرأت تفسيرها وعلى هامشها كتبت
" قد آن يا ربي بفضلك وكرمك فاقبلني ".
طوت حنان كتاب التفسير ودموعها أشد ما تكون انهماراً وقد وقفت
أمام نافذة جميلة ورأت عصافيرها ولكن رحلت جميلة ..فقد حان يوم اللقاء الحبيب.
...
في امان الله
راقت لي