الحلقة الخامسة
رضاع الحبيب ومراضعه -صلى الله عليه وسلم-
فإن أول مرضعة تشرفت برضاعه (صلى الله عليه وسلم) والدته الشريفة العفيفة الطيبة : آمنة بنت وهب الزهرية التي رأت من آيات النبوة ما رأت.
ثم ثويبة مولاة أبي لهب التي أرضعت عمه حمزة كذلك، فكان أخاً للنبي من الرضاعة. وهو عمه صنو أبيه ، ثم أرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية من بني سعد بن بكر رضع مع ابنتها الشَّيْماء بنت الحارث بن عبد العزى.
وقد رات فى إرضاعه (صلى الله عليه وسلم ) آيات فلنتركها رضى الله عنها تحدثنا بنفسها عما شاهدت من آيات نبوته (صلى الله عليه وسلم )
إنها قالت : خرجت من بلدى مع زوجى وابن صغير لنا نرضعه فى نسوة من بنى سعد نلتمس الرضعاء وذلك فى سنة شهباء لم تبق لنا شيئا . خرجنا على أتان (معنى اتان :الحمارة ) لنا قمراء , ومعنا شارف لنا والله ما تبض بقطرة, وما ننام ليلنا اجمع من بكاء صبينا الذى معنا من الجوع , إذ ما فى ثديى ما يغنيه وما فى شارفنا ما يغذيه , ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج خرجنا نلتمس الرضعاء فى مكة فما منا امراة إلا وقد عرض عليها رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) فتأباه إذا قيل لها : إنه يتيم , وذلك انا كنا نرجو المعروف من ابى الصبى فما بقيت امراة قدمت معى الا اخذت رضيعا غيرى
فلما اجمعنا العودة الى بلدنا قلت لزوجى : والله انى لأكره ان ارجع ولم آخذ رضيعا , والله لأذهبن الى ذلك اليتيم فآخذه , فقال لى : لا عليك ان تفعلى عسى الله ان يجعل لنا فيه بركة فذهب بركة فذهبت اليه فاخذته وما حملنى على ذلك الا اننى لم اجد غيره فلما رجعت به الى رحلى ووضعته فى حجرى اقبل عليه ثدياى بما شاء من لبن , فشرب حتى روى وشرب معه اخوه حتى روى , ثم نام , وقام زوجى الى شارفنا تلك فإذا هى حافل معنى (حافل : اجتمع فيه اللبن ) فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا ريا وشبعا فبتنا بخير ليلة ,
فلما اصبحنا قال لى زوجى : تعلمين والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة , قلت : والله انى لأرجو ذلك , ثم خرجنا وركبت اتانى وحملته عليها معى فوالله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شئ من حمرهم حتى ان صواحبى قلن لى يا ابنة ابى ذؤيب ويحك اربعى معنى (ربعت الإبل : سرحت فى المرعى واكلت وشربت كيف شاءت ) علينا أليست هذه اتانك التى كنت خرجت عليها ؟ فقلت لهن : بلى , والله إنها لهى هى فقلت : والله ان لها لشأنا . ثم قدمنا منازلنا من بلاد بنى سعد , وما اعلم ارضا من ارض الله أجدب منها فكانت غنمى تروح على حين قدمنا به معنا شباعا لبنا معنى ( لبنا : كثيرة اللبن )
فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها فى ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم : ويلكم اسرحوا حيث يسرع راعى بنت ابى ذؤيب فتروح اغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن , وتروح غنمى شباعا لبنا ولم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه (اى سنتا رضاعه ) وفصلته ,
وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان , فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما خفرا "غليظا شديدا "
فقدمنا به على امه ونحن احرص شئ على مكثه فينا لما كنا نرى من بركته , فكلمنا أمه
وقلت لها : لو تركت بنى عندى حتى يغلظ فانى اخشى عليه وباء مكة , فلم نزل بها حتى ردته معنا فرجعنا به ,
وبعد مقدمنا بأشهر وإنه لفى بهم معنى ( البهم : واحده بهمة , صغار الغنم ) لنا مع اخيه خلف بيوتنا إذ اتانا اخوه يشتد
فقال لى ولأبيه : ذاك اخى القرشى قد اخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه ,
قالت : فخرجت انا وابوه نحوه فوجدناه قائما منتقعا "متغيرا " وجهه فالتزمته والتزمه ابوه
فقلنا له : ما لك يا بنى ؟ قال : جاء لى رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعانى وشقا بطنى
فالتمسا فيه شيئا لا ادرى ماهو فرجعنا به الى خبائنا وقال لى ابوه يا حليمة لقد خشيت ان يكون هذا الغلام قد اصيب فألحقيه بأهله
قبل ان يظهر ذلك به فاحتملناه فقدمنا به على امه فقالت : ما اقدمك به يا ظئر معنى (ظئر : العاطفة على ولد غيرها , المرضعة له )
وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك ؟ فقلت لها : قد بلغ الند بابنى ,
وقضيت الذى على وتخوفت الأحداث عليه فأديته إليك كما تحبين
قالت : ما هذا شأنك ؟ فاصدقينى خبرك فلم تدعنى حتى اخبرتها .
قالت : أفتخوفت عليه الشيطان ؟ قلت :نعم , قالت كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل
وان لبنى لشانا افلا اخبرك به ؟ قلت بلى قالت : رايت حين حملت به انه خرج منى نورا اضاء لى
قصور بصرى من ارض الشام ثم حملت به فوالله ما رايت من حمل قط كان اخف على ولا ايسر منه ,
ووقع حين ولدته وانه لواضع يديه بالأرض رافع راسه الى السماء دعيه عنك وانطلقى راشدة
.هكذا كان استرضاعه (صلى الله عليه وسلم ) فى بادية بنى سعد شأنه شأن أبناء سادات قريش يرضعون أولادهم فى البوادى
ليصحوا أجساما ويفصحوا لسانا ويقووا جنانا ولقد قال مرة (صلى الله عليه وسلم ) معتزا بشرف اصله واسترضاعه فى البادية :
" انا اعربكم , انا قرشى واسترضعت فى بنى سعد بن بكر
تابعوني في الحلقة القادمة