يدعوننا إلى "التسامح"، فهل فهموا معنى "التسامح" قبل الدعوة إليه؟
هل معنى التسامح أن أترك الظالم يأخذ حقي وأتصبر على أذاه -طمعاً بثواب الله- وأنا أعلم أنه سيضر الآخرين كما ضرني؟! هل أعفو عنه -وأترك المطالبة بما سلبه مني- وأنا بحاجة إلى أشيائي؟ وهل أصمت وأتستر عليه وأنا أعلم أنه سيسرق الآخرين كما سرقني؟!
هل أتسامح مع المحارب والعدو والكافر؟ ومع الفئات المضلة المؤذية... والله أمرنا بمحاربة من حاربنا واتخاذه عدواً؟!
هل يتسامح المسلم مع القاتل؟ أو المغتصب والمختلس؟ وأمثالهم من البغاة الفسقة؟ والله أمرنا بإقامة الحد عليهم وألا تأخذنا بهم رأفة ولا رحمة في دين الله؟!
وهل يتسامح المسلم مع الكذاب؟! أو الغشاش الذي باع بضاعة فاسدة فمرض الناس منها؟! أو الذي غش في الامتحان فتفوق وصار طبيباً فأخطأ وسبب موتاً أو عاهة للآخرين؟ وهل يسامح من استعمل الواسطة ففاز بوظيفة هو دونها في التحصيل العلمي والقدرات الفكرية والجسدية، وأنا أو أنت أحق بها منه مادياً ومعنوياً؟! وهل نسامح من يجمع المال للصدقات ثم يأخذها لنفسه ويبني القصور ويترك الجياع والحفاة العراة والمرضى والأرامل... وقد جمع ثروته باسمهم؟!
الدعوة اليوم إلى "التسامح" عامة لا تفرق بين أجناس الناس المختلفة! ولو تسامحنا مع هؤلاء لفقدنا الأخلاق والقيم في مجتمعاتنا الإسلامية، ولساد الشر وفاز وهذا ما نراه الآن. فلا تجوز مسامحة من ثبت عليهم الكفر أو العدوان أو الإيذاء والإساءة والسرقة والاختلاس. ومن يتسامح مع هؤلاء يساهم معهم في الظلم ويساعد على سلب الحقوق، وسيعاقبه الله يوم القيامة، والساكت عن الظلم شيطان أخرس.
إذن ما معنى قوله تعالى: { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }؟! ألا يشمل كل إنسان؟ أوليس الأجر لمن اتقى فسامح؟! ألم يقل الله تعالى ما من حسابهم عليك من شيء؟! وأن حساب الظالمين على الله؟!
أنا أرى "التسامح" و"المسامحة" كلمات واسعة المعنى وتحتاج لتعريف وتقنين وإيضاح.
وكمقدمة إلى الموضوع أذكر قصة خفيفة: عدَّل رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ صفوفَ أصحابِه يومَ بدرٍ وفي يدِه قدحٌ يعدِّلُ به القومَ فمرَّ بسوادِ بنِ غَزيَّةَ حليفَ بني عدي بنِ النَّجارِ وهو مُسْتنتِلٌ من الصفِّ فطعن في بطنِه بالقدحِ وقال استوِ يا سوادُ فقال يا رسولَ اللهِ أوجَعْتَني وقد بعثك اللهُ بالحقِّ والعدلِ فأقِدْني.
قال فكشف رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عن بطنِه وقال استقِدْ قال فاعتنقَه فقبَّل بطنَه فقال ما حملكَ على هذا يا سوادُ قال يا رسولَ اللهِ حضَر ما ترى فأردتُ أن يكون آخرُ العهدِ بك أن يمَسَّ جلدي جلدَك فدعا له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بخيرٍ وقال له استوِ يا سوادُ".
الحادثة طريفة والحديث صحيح، وفيه فوائد سلوكية جميلة:
1- جواز الشكوى والاعتراض على أي أمر ولو كان يسيراً.
2- شرعية المطالبة بالحق ولو كان بسيطاً.
3- طلب القود حلال ولو كانت من رسول الله أعدل الخلق (فكيف مع بقية الخلق؟!)
هذا ما استخلصته من الحديث، وفي اللغة وفي الشرع وفي القانون تفصيل كل شيء وبيان كل أمر، وللتسامح شروط، وإليكم بعض ما رأيته منها:
التسامح مطلوب من المسلم تجاه أمه وأبيه ومع أخته وأخيه، ورحمه وقرابته وجيرانه، وإخوته في الله، ومطلوب من المسلم -أيضاً- الأخذ على يد الظالم منهم ولو كان من قرابته، فانتبهوا.
التسامح لمن أدرك خطأه فتوقف عنه فوراً، ثم تاب حقاً، وأقسم على عدم العودة إلى مثله أبداً، وأظهر الندم الصادق، وأبدى أسفه لضحاياه وحاول تعويضهم، واعتذر منهم بالكلام، ورد حقوقهم بالفعل، وطلب منهم السماح وحرص على إرضائهم.
هذه الشروط الواجب توفرها في الظالم، فإذا تحققت تسامح المظلوم وعفا. ولا ينبغي للمظلوم أن يكون خباً غافلاً يسهل خداعه ببعض الكلمات (والظالم مستمر في ظلمه)، فلا يسامح المظلوم الظالم ولا يعفو عنه ولا يتنازل له حتى يتأكد من تحقق الشروط كلها.
ومن استقراء الحياة أصبحت أفتي بأن السكوت عن الظلم -بدعوى المسامحة- مد للظالم ومساهمة معه في الإساءة والإيذاء لعباد الله الصالحين، بدليل قوله تعالى عن فرعون: "فاستخف قومه فأطاعوه"، وأنت أيها المسلم إن رضيت بالظلم وسكت عنه وصبرت عليه... أوجدت ظالماً طاغية يتجبر، وأعنته على التسلط على عباد الله بغير حق. وإذا كنت أنت صبوراً على أذاه وقادراً على احتمال ضيمه فإن غيرك قد لا يحتمله ويسقط تحت تعسفه وغيه.
أيها المسلمون إن الدفاع عن النفس وعن العرض وعن المال مطلوب ومحبب، والظالم يمد يده لشخصك ويتعدى على حرماتك بوقاحة، ويأخذ منك شيئاً من الضرورات الأساسية ويحرمك منها (أنت وأسرتك) ويتمتع بها، فلا ينبغي لك أن تسكت وترضى. بل ادفع عن نفسك ما استطعت، وإن التسامح بالأمر الهين يجر الظالم للتمادي بالأمر القيم.
وإذا كان لديكم أي شك في صحة كلامي فإني أختم بما يلي:
لماذا أوجد الله القضاء والمحاكم ونظم الشهود...؟! أليس لنصرة المظلوم؟
ولماذا جعل الله القسم والخلع والحضانة....؟! أليس للمحافظة على الحقوق؟
وإن الوعد بإجابة دعوة المظلوم والقسم على ذلك لأكبر دليل على وجوب محاربة الظلم ودفعه بأي وسيلة ولو بالدعاء