سابعًا الوفاء
لما حضرتْ عبدَ الله بن عمر الوفاةُ، قال: إنه كان خطب إليَّ ابنتي رجل من قريش، وقد كان مني إليه شبه الوعد، فوالله لا ألقى اللهَ بثلث النفاق، أُشْهِدُكم أني قد زوجته ابنتي
[77].
- حُكِيَ أن الخليفة المأمون لما وَلَّى عبد الله بن طاهر بن الحسين مصر والشام وأطلق حكمه، دخل على المأمون بعض إخوانه يومًا، فقال: يا أمير المؤمنين،
إن عبد الله بن طاهر يميل إلى ولد أبي طالب، وهواه مع العلويين، وكذلك كان أبوه قبله. فحصل عند المأمون شيء من كلام أخيه من جهة عبد الله بن طاهر، فتشوَّش فكره، وضاق صدره، فاستحضر شخصًا وجعله في زيِّ الزهَّاد والنسَّاك الغزاة، ودسَّه إلى عبد الله بن طاهر، وقال له: امضِ إلى مصر، وخالط أهلها، وداخل كبراءها، واستَمِلْهُمْ إلى القاسم بن محمد العلوي، واذكر مناقبه، ثم بعد ذلك اجتمع ببعض بطانة عبد الله بن طاهر، ثم اجتمع بعبد الله بن
طاهر بعد ذلك، وادْعُهُ إلى القاسم بن محمد العلوي، واكشف باطنه، وابحث عن دفين نيَّته، وائتني بما تسمع.
ففعل ذلك الرجل ما أمره به المأمون، وتوجَّه إلى مصر ودعا جماعة من أهلها، ثم كتب ورقة لطيفة ودفعها إلى عبد الله بن طاهر وقت ركوبه، فلمَّا نزل من الركوب وجلس في مجلسه خرج الحاجب إليه، وأدخله على عبد الله بن طاهر وهو جالس وحده، فقال له: لقد فهمت ما قصدت، فهات ما عندك. فقال: ولي
الأمان؟ قال: نعم. فأظهر له ما أراده، ودعاه إلى القاسم بن محمد، فقال له عبد الله: أَوَتنصفني فيما أقوله لك؟ قال: نعم. قال: فهل يجب شكر الناس بعضهم لبعض عند الإحسان والمنَّة؟ قال: نعم. قال: فيجب عليَّ وأنا في هذه الحالة التي تراها من الحكم والنعمة والولاية ولي خاتم في المشرق وخاتم في المغرب، وأمري فيما بينهما مطاع، وقولي مقبول، ثم إني ألتفت يمينًا وشمالاً فأرى نعمة هذا الرجل غامرة وإحسانه فائضًا عليَّ، أفتدعوني إلى الكفر بهذه النعمة،
وتقول: اغدر وجانب الوفاء، والله لو دعوتني إلى الجنة عيانًا لما غدرت، ولما نكثت بيعته وتركت الوفاء له. فسكت الرجل، فقال له عبد الله: والله ما أخاف إلاَّ على نفسك، فارحل من هذا البلد. فلما يئس الرجل منه وكشف باطنه وسمع كلامه رجع إلى المأمون، فأخبره بصورة الحال، فسَرَّه ذلك، وزاد في إحسانه إليه، وضاعف إنعامه عليه
[78].
- يُذْكَرُ أن النعمان كان قد جعل له يومين: يوم بؤس مَنْ صادفه فيه قتله وأرداه، ويوم نعيم من لقيه فيه أحسن إليه وأغناه. وكان هذا الطائي قد رماه حادث
دهره بسهام فاقته وفقره، فأخرجته الفاقة من محلِّ استقراره ليرتاد شيئًا لصبيته وصغاره، فبينما هو كذلك إذ صادفه النعمان في يوم بؤسه، فلمَّا رآه الطائي علم أنه مقتول، وأن دمه مطلول، فقال: حيَّا الله الملك، إن لي صبية صغارًا وأهلاً جياعًا وقد أرقتُ ماء وجهي في حصول شيء من البلغة لهم، وقد أقدمني سوء الحظِّ على المَلِكِ في هذا اليوم العبوس، وقد قربت من مقرِّ الصبية والأهل، وهم على شفا تلف من الطوى، ولن يتفاوت الحال في قتلي بين أول النهار
وآخره، فإن رأى الملك أن يأذن لي في أن أُوَصِّل إليهم هذا القوت وأوصي بهم أهل المروءة من الحيِّ لئلاَّ يهلكوا ضياعًا، ثم أعود إلى الملك وأسلِّم نفسي لنفاذ أمره. فلمَّا سمع النعمان صورة مقاله، وفهم حقيقة حاله، ورأى تلهُّفه على ضياع أطفاله، رقَّ له ورثى لحاله، غير أنه قال له: لا آذن لك حتى يَضْمَنَكَ رجل معنا، فإن لم ترجع قتلناه، وكان شَرِيكُ بن علي بن شُرَحْبِيل نديم النعمان معه، فالتفت الطائي إلى شريك، وقال له:
يا شريك بن عدي ***- ما من الموت انهزام[79]
من الأطفال ضعاف ***- عدموا طعم الطعام
بين رجوع وانتظار ***- وافتقارا وسقام
يا أخا كلِّ كريم ***- أنت من قوم كرام
يا أخا النعمان جُدْ لي ***- بضمان والتزام
ولك الله بأني ***- راجع قبل الظلام
فقال شريك بن عدي: أصلح الله المَلِكَ، عليَّ ضمانه.
فمرَّ الطائي مسرعًا، وصار النعمان يقول لشريك: إن صدر النهار قد ولَّى ولم يرجع. وشريك يقول: ليس للمَلِكِ عليَّ سبيل حتى يأتي المساء.
فلما قرب المساء قال النعمان لشريك: قد جاء وقتك، قم فتأهب للقتل.
فقال شريك: هذا شخص قد لاح مقبلاً، وأرجو أن يكون الطائي، فإن لم يكن فأَمْرُ الملك ممتثل.
قال: فبينما هم كذلك وإذ بالطائي قد اشتد عَدْوُه في سيره مسرعًا، حتى وصل، فقال: خشيت أن ينقضي النهار قبل وصولي. ثم وقف قائمًا، وقال: أيها الملك، مُرْ بأمرك. فأطرق النعمان، ثم رفع رأسه، وقال: والله ما رأيت أعجب منكما، أمَّا أنت يا طائي فما تركتَ لأحد في الوفاء مقامًا يقوم فيه، ولا ذكرًا يفتخر به، وأمَّا أنت يا شريك فما تركت لكريم سماحة يُذْكَرُ بها في الكرماء، فلا أكون أنا ألأم الثلاثة، ألا وأني قد رفعت يوم بؤسي عن الناس، ونقضتُ عادتي كرامة
لوفاء الطائي وكرم شريك.
فقال الطائي:
ولقد دعتني للخلاف عشيرتي ***- فعددت قولهمو من الإضلال
إني امرؤ مني الوفاء سجية ***- وفعال كل مهذَّب مفضال
[80]
فقال له النعمان: ما حملك على الوفاء وفيه إتلاف نفسك؟ فقال: ديني، فمن لا وفاء فيه لا دين له. فأحسن إليه النعمان، ووصله بما أغناه، وأعاده مكرمًا إلى
أهله، وأناله ما تمنَّاه
[81].
- لما مات امرؤ القيس سار الحارث بن أبي شمر الغساني إلى السموأل
[82]بن عادياء، وطالبه بأدراع امرئ القيس، وكانت مائة درع، وبما له عنده، فلم يُعْطِه، فأخذ الحارث ابنًا للسموأل، فقال: إما أن تسلم الأدراع، وإما قتلتُ ابنك. فأبى السموأل أن يسلَّم إليه شيئًا، فقَتَلَ ابنه، فقال السموأل في ذلك:
وفيت بأدرع الكنديِّ إنِّي ***- إذا ما ذمَّ أقوامٌ وفيت
وأوصى عاديا يومًا بأن لا ***- تُهَدِّم يا سموأل ما بنيت
بنى لي عاديا حصنًا حصينًا ... وماءً كلّما شئت استقيت
[83]
- قال الشعبيُّ: قال عمرو بن معديكرب: خرجتُ يومًا حتى انتهيت إلى حي، فإذا بفرسٍ مشدودةٍ، ورمحٍ مركوز، وإذا صاحبه في وهدةٍ يقضي حاجة له، فقلت له: خذ حذرك، فإني قاتلك. قال: ومن أنت؟ قلت: أنا ابن معديكرب. قال: يا أبا ثور، ما أنصفتني، أنت على ظهر فرسك وأنا في بئرٍ، فأعطني عهدًا أنّك لا تقتلني حتى أركب فرسي وآخذ حذري. فأعطيته عهدًا أني لا أقتله حتى يركب فرسه ويأخذ حذره، فخرج من الموضع الذي كان فيه حتى احتبى بسيفه وجلس،
فقلت له: ما هذا؟ قال: ما أنا براكبٍ فرسي ولا مقاتلك، فإن نكثت عهدًا فأنت أعلم. فتركته ومضيت، فهذا أحيل مَنْ رأيت
[84].
ثامنًا الزهد
روي عن عمر رضى الله عنه: أنه حين فُتح عليه الفتوحات، قالت له ابنته حفصة رضي الله عنها: البس ألين الثياب إذا وفدت عليك الوفود من الآفاق، ومُرْ بصنعة الطعام تطعمه وتطعم من حضر. فقال عمر: يا حفصة، ألست تعلمين أن أعلم الناس بحال الرجل أهل بيته؟ فقالت: بلى.
قال: ناشدتك الله، هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث في النبوة كذا وكذا سنة لم يشبع هو ولا أهل بيته غدوة إلا جاعوا عشية، ولا شبعوا عشية إلا جاعوا غدوة؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم لبث في النبوة كذا كذا سنة لم يشبع من التمر هو وأهله حتى فتح الله عليه خيبر؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قربتم إليه يومًا طعامًا على مائدة فيها ارتفاع فشقَّ ذلك عليه حتى تغير لونه، ثم أمر بالمائدة
فرفعت، ووضع الطعام على دون ذلك، أو وضع على الأرض؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينام على عباءة مثنية فثنيت له ليلة أربع طاقات فنام عليها، فلما استيقظ قال: "مَنَعْتُمُونِي قِيَامَ اللَّيْلَةِ بِهَذِهِ الْعَبَاءَةِ، اثْنُوهَا بِاثْنَتَيْنِ كَمَا كُنْتُمْ تَثْنُونَهَا"؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضع ثيابه لتغسل فيأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة فما يجد ثوبًا يخرج به إلى الصلاة حتى تجف ثيابه فيخرج بها إلى الصلاة؟ وناشدتك
الله، هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنعت له امرأة من بني ظفر كساءين إزارًا، وبعثت إليه بأحدهما قبل أن يبلغ الآخر، فخرج إلى الصلاة وهو مشتمل به ليس عليه غيره، وقد عقد طرفيه إلى عنقه، فصلى كذلك؟
فما زال يقول حتى أبكاها، وبكى عمر رضى الله عنه وانتحب، حتى ظننَّا أن نفسه ستخرج
[85].
- روي أن بعض الخلفاء أرسل إلى الفقهاء بجوائز فقبلوها، وأرسل إلى الفضيل بن عياض بعشرة آلاف فلم يقبلها، فقال له بنوه: قد قبل الفقهاء، وأنت تردُّ على حالتك هذه. فبكى الفضيل وقال: أتدرون ما مثلي ومثلكم؟! كمثل قوم كانت لهم بقرة يحرثون عليها، فلما هرمت ذبحوها لأجل أن ينتفعوا بجلدها، كذلك أنتم أردتم ذبحي على كبر سني، موتوا يا أهلي جوعًا خير لكم من أن تذبحوا فُضَيلاً!
[86].
- قالت امرأة أبي حازم لأبي حازم: هذا الشتاء قد هجم علينا، ولا بد لنا من الطعام والثياب والحطب. فقال لها أبو حازم: من هذا كله بد، ولكن لا بد لنا من الموت ثم البعث، ثم الوقوف بين يدي الله تعالى ثم الجنة أو النار
[87].
- رؤي فضالة بن عبيد وهو والي مصر أشعث حافيًا فقيل له: أنت الأمير وتفعل هذا! فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإرفاه
[88]، وأمرنا أن نحتفي أحيانًا
[89].
-دخل محمد بن واسع على قتيبة بن مسلم وعليه جبة صوف، فقال له قتيبة: ما دعاك إلى مدرعة الصوف؟ فسكت، فقال: أكلمك ولا تجيبني!! فقال: أكره أن أقول زهدًا فأزكي نفسي، أو فقرًا فأشكو ربي
[90].
- دخل رجل على أبي ذرٍّ فجعل يقلِّب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذرٍّ، ما أرى في بيتك متاعًا ولا غير ذلك من الأثاث. فقال: إن لنا بيتًا نوجِّه إليه مصالح متاعنا. فقال: إنه لا بد لك من متاع ما دمت ههنا. فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه
[91].
- قدم عمير بن سعيد أمير حمص على عمر رضي الله عنهما، قال له: ما معك من الدنيا؟ فقال: معي عصاي أتوكأ بها، وأقتل بها حية إن لقيتها، ومعي جرابي
أحمل فيه طعامي، ومعي قصعتي آكل فيها وأغسل رأسي وثوبي، ومعي مطهرتي أحمل فيها شرابي وطهوري للصلاة، فما كان بعد هذا من الدنيا فهو تبع لما معي. فقال عمر: صدقت رحمك الله
[92].
مر أبو تراب النخشبي بمزين، فقال له: تحلق رأسي لله عز وجل؟
فقال له: اجلس. فجلس، ففيما يحلق رأسه مرَّ به أمير من أهل بلده، فسأل حاشيته، فقال لهم: أليس هذا أبا تراب؟ قالوا: نعم.
فقال: أي شيء معكم من الدنانير؟ فقال له رجل من خاصَّته: معي خريطة فيها ألف دينار.
فقال: إذا قام فأعطه، واعتذر إليه، وقل له: لم يكن معنا غير هذه. فجاء الغلام إليه، فقال له: إن الأمير يقرأ عليك السلام، وقال لك: ما حضر معنا غير هذه الدنانير.
فقال له: ادفعها إلى المزين. فقال المزين: أي شيء أعمل بها؟
فقال: خذها. فقال: لا والله ولو أنها ألفا دينار ما أخذتها.
فقال له أبو تراب: مر إليه، فقل له: إن المزين ما أخذها، فخذها أنت فاصرفها في مهماتك
[93].