رد: السجين يهرب الجزء الاول
الفصل الثاني ..
العذاب.. الضيق..الأماني العراض التي أفترسها الفشل..كل ذلك إنحرف بمسيرته..وأهلك القناعة بداخله،وأوقد في نفسه رغبة مسعورة لتحقيق ما يريد!!
تأمل حاله المزرية..
بطالة طاغية..فقرٌ مقدع..أبوه الصياد كهلٌ متعبٌ..حطمته الأيام،ونهشه الفقر والحاجة المستديمة للمال،فأصبح يذكر الموت أكثر من ذكره ملذات الحياة..
لكنه مع ذلك زاهدٌ عفيفٌ،لم يسأل أحداً يوماً فلساً واحداً0وعمل مع والده في صباه كثيراً00 أصبح حواتاً ماهراً يصيد السمك بحربة الصيد مع أي جزء يشاء،ثم عمل حمَّالاً00ثم مزارعاً00ثم حرفياً0
لكنه ولد بنفس طموحه00 إلى المجد والجاه00 إلى الصيت الذائع،وتراكم في نفسه إعتقاد راسخ بأن مشكلته وسعادته في المال00 فسعى للبحث عن الثراء بوحشية!
مارس التجارة ففشل،ونفد كل ما معه من نقود00 جرَّب القمار فلازمته الخسارة الدائمة00ثم عمد إلى موهبته الأصلية00الشعر00 استعار جبة وعمامة عريضة00 ودخل على الولاة وكبار القادة،ونظم القصائد في المديح والتملق،فلم يظفر إلا بالقليل،فترك الشعر وعاد إلى القمار فخسر من جديد00 وأرهقته الديون وتراكم عليه البؤس وقادته الأحزان إلى الخمرة وإقداح النبيذ0
ومع الأيام القاسية إنحرف تفكيره فظن أنه خُلق حقوداً شريراَ000فصار لصاً00 يسطو على المنازل00 وشُكي إلى والده،فأمسكه الكهل وربطه إلى جذع نخلة في صحن الدار وجلده حتى بال على نفسه وخر مغشياً عليه0
وعاد إلى السرقة من جديد فقبض عليه وسجن وجلد في سجن الوالي ببغداد،وكادت يده أن تقطع ذات مرة!وهدده والده بالبراءة منه ثم طرده أخيراً0
بات يمشي حتى منتصف الليل وأدركه التعب فجلس متكئاً على صرة ثيابه، ثم أستلقى على رمل ناعم وبقي يهذي بكلام غير مفهوم،ثم غط في نوم عميق0
نام طويلاً في مكانه ذاك حتى أيقضته شمس الضحى الساخنة،فقام وتمطى ونفض ثيابه والعرق يغطي جسمه المتين،وغمس وجهه في مياه دجلة،وأروى عطشه ، ثم أستلقى من جديد تحت ظل شجرة،وعاود النوم حتى أنحسر عنه الظل فتحول إلى موضع الظل،ونام ولم يستيقظ إلا منتصف العصر!
استيقظ والجوع والعطش يستبدان به فقام وواصل مسيره بعدما شرب من دجلة الكثير0
وصل إلى إحدى القرى الواقعه على النهر، وتجول في بعض طرقها وطلب من بعض أصحاب الحوانيت إقراضه شيئاً من الطعام،فلم يعطه أحدٌ شيئاً، فمنظره الكئيب، وشعره المشعث ونظراته القاسية لم تكن تبعث على الطمأنينة، وألح في المسألة على أحدهم فنهره وطرده فخرج غاضباً وتمنى لو يحرق القرية على من فيها0
ومضى مبتعداً عن القرية متوكئاً على غصن عريض0وصادف أحد الصيادين راكباَ حماره، ومعه سلة فيها سمك فسأله عن بغداد فأخبره أنها على مسيرة نهار كامل من هنا00 تأمل غياث بن عبد المغيث الرجل وحماره بنظرات شرسة أثارت ريبة الصياد، وقبل ان ينخس حماره ليبتعد أهوى غياث بهراوته على مؤخرة رأسه فسقط عن ظهر الحمار مغشياً عليه00وبهدوء بحث غياث في ثيابه وسلب ما معه من المال وركب الحمار ومضى0
عندما حل المساء توقف على الشاطئ00 كانت الغيوم قد حجبت ضوء القمر،فعم الظلام الدامي أرجاء المكان00 وأشعل نارا وشوى بعض ما في السلة من السمك00 وجلس يأكل بشهية مفتوحة حتى شبع وعاد إلى نشاطه ، وتمنى في هذه اللحظة قدحاً من النبيذ يذهب به عن الدنيا0
كان قد بقي على بغداد مسافة ليست بالقصيرة، ومع أنه كان نشطاً إلا أنه أثر أن يكمل مسيرته في الصباح0
لم يذهب إلى بغداد إلا مرتين في حياته00 الأولى وهو صبي في صحبة والده00 والثانية عندما حُمل مكبلاً وجلد هناك لقيامه بالسرقة0 كم هالته المدينة الكبيرة العامرة00 التي تعج بمئات الآلاف من البشر من جميع الأنحاء00 في بغداد يسهل التخفي،وتكثر الأوكار الأمنه،والأرزاق والجواري وأطيب الخمور00 وهناك سيجد من يعاضده في أعمال الليل وغزوات المنازل!
ظل مستسلماً لخواطره حتى إجتذب سمعه أنين خافت!! تلفت حوله فلم يرَ شيئاً فعزى ذلك إلى توهمه00لكن الصوت عاد ثانية، وتتبعه غياث00 كان أنيناً لرجل موجوع أو مصاب00 أرخى سمعه مرة ثالثة ليجد الصوت منبعث من خلف كثيب صغير قريب منه0 فقام وذهب إلى الكثيب ليجد رجلاً في نحو الخامسة والأربعين ملطخاً بالدماء، وفي كتفه جرح بدم يابس0
كان واضحاً أنه تعرض لعراك شديد00 فثيابه ممزقة00 ورأسه حاسر مشعث الشعر 00 وكان يمسك بطنه بإحدى يديه0
ولإنقاذه حمله غياث بين يديه وأنزله إلى جانب النهر ورش وجهه بالماء وجعل يضرب خديه بخشونة حتى أستفاق0
وفتح الرجل عينيه وأدارهما في غياث ثم في الليل برعب وريبة وسأل بوجل:
- أين أنا؟وأين الجمل؟!
فأجاب غياث:
- أنت هنا على شاطئ النهر0
- والجمل؟!
- لم أرَ جملاً هنا!
ثم قال يطمئنه:
-لا بأس عليك، جرحك بسيط وسيندمل سريعاً0
ولم يعلق الرجل بغير الأنين0 فظهرت خشونة غياث وقال في ضجر:
- أنت تئن كالثكالى00 كأنك00
ولم يكمل عبارته لأن الرجل أبعد يده عن بطنه فبان تحتها جرح غائر طويل بطول الكف!! فصاح غياث:
- ويحك يارجل 00 أنت تحتاج إلى طبيب!!
فقال الرجل يائساً:
- أنا أحتاج إلى كفن0
وسأله غياث بما يشبه الزعيق:
-من أنت؟ ومن أين جئت؟!
فقال بيأسه الأول:
-سأخبرك بما تريد00 لكن أرفعني قليلاً عن الأرض0
واستجاب له غياث رافعاً ظهره عن الأرض فأدار الرجل عينيه المرعوبتين،ومسح بهما أرجاء المكان، وقال وهو يشير بيده التي ليست على الحرح إلى جهة من البر:
-هناك00 ستجد الجمل هناك00 لقد رأيته يذهب من هذه الناحية عندما سقطت من على ظهره0
وذهب غياث إلى حيث أشار الرجلُ الجريحُ ليبحث عن جمله00 تجول قليلاً في الفلاة المظُلمة وهم بالرجوع وهو يشتم الرجل:
-قتله الله00 لم تنته مصيبتي حتى أبلى به!!
لكنه وجد الجمل ملتفاً بالظلام باركاً على الأرض00 يجتر ماأكله في النهار00 هدر الجمل عندما رآه، فأقتاده غياث إلى الرجل الذي أخذه الأعياء فنام0
قذف غياث إلى النار ببعض الحطب فأرتفع اللهب متراقصاً00 مضيئاً المكان00 تأمل غياث الرجل وبدا له أنه يعرفه وحاول أن يتذكر00كان دقيق الملامح00مهزولاً00 على جانب صدغه الأيسر أثر جرح قديم،منعه بعض شعر اللحية من الظهور00 وعندما تذكره هزًّ رأسه!
وبهدوء وحذر تحسس ثيابه وجيوبه، فلم يجد غير بضعة دراهم، فسلبها ووضعها في جيبه00 وراعه أن جسد الرجل كان يفور بالحرارة!
وأحس الرجل به فاستيقظ وتكلم وهو يلهث:
-هل جئت؟
-نعم00 وقد وجدت جملك0
-إذاً أنظر هناك00 ستجد قارباً كبيراً00 أنزل به أحمال الجمل00 ولنصعد إليه ونعبر إلى الضفة الأخرى من النهر، فهناك بقايا نخل وبيت صغير مهجور00 هيا بسرعة0
-لماذا لا نبيت الليلة هنا، ونمضي إلى البيت في الصباح؟!
-لا00لابد أن نكون هناك حالاً0
-تبدو مستعجلاً00 هل هناك شيء؟!
-ستعرف فيما بعد00هيا بسرعة00
بسهولة وجد غياث القارب 00 ووجده قديماً متهالكاً00 فحمل الرجل إليه وأبقاه مستلقياً على ظهره في قاع القارب، ويده لا تفارق بطنه،وقد عاد إليه الأنين0
وعمد إلى أحمال الجمل00 فوجدها خرجين متوسطين معلقين على جانبي الجمل00 وكانا ثقيلين محكمي الإغلاق والربط0
حملهما إلى القارب ولم ينسَ صرة ثيابه00 وحل قيود الجمل والحمار وترك لهما الحرية00 وبدأ يجدف مجتازاً النهر الهادر لكي يصل إلي الجهة الغربية0
ظل يجدف حتى صاح الرجل فجأة:
- الماء!! الماء سيغمر القارب؟!
كانا في منتصف النهر، وبحث غياث في القارب فلم يجد مصدر الماء بسبب الظلام0 فجعل يتحسس بطن القارب بيديه حتى وجده فصاح بغضب:
-إنه مثقوب!كيف لم تخبرني أنه مثقوب؟!
-لم أكن أعلم00 وإلا لما تركتك تبحر به00 ربما حطمه الجمل! لم يفهم غياث شيئاً وظل يجدف بإنفعال في سباق مع المياه المتدفقة التي أبطئت بسرعة القارب، فترك غياث المجاديف، وجعل ينزح المياه من القارب بدلو وجده0
ومع الوقت عجز عن السيطرة على الماء فجلس يستريح ويدلك زنديه القويين0
فهتف به الرجل ملهوفاً:
-لاتتوقف00 أنا لا أستطيع النهوض وستغرقني المياه وأنا مستلقٍ قبل أن يغوص القارب!
فقال غياث في برم:
-قبحك الله00 وماذا أصنع بك؟ كل ماأستطيع فعله أن أخفف من حمل القارب حتى يسحل التجديف0
وقذف بالصناديق والشباك والحبال إلى جوف النهر0 وتناول احد الخرجين بسرعه وقذف به إلى الماء 0 ومد يده إلى الثاني فصاح به الرجل الجريح:
-لا 000إنه الذهب !!؟
كانت صيحته منكره00 جعلت شعر غياث يقف!
وضم الرجل الخرج الثاني إلى صدره كأنما يريد حمايته وخاطب غياث بغضب وأسى:
-لماذا قذفت به ياأحمق؟!فقال غياث بدهشة:
-أنت لم تخبرني أنه ذهب00 لقد ظننته من سائر المتاع!
وعاد ينزح المياه من القارب بالدلو00 في صراع مع النهر ثم يجدف وهو ينقل بصره مابين قعر القارب، وصفحة النهر الداكنة المخيفة0 ثم حانت منه إلتفاته إلى الرجل فوجده يذرف دموعاً غزاراً00 كان الشعور بالعجز والخسارة قد غلبه0ثم سمعه غياث يهذي:
-طعنت وقاتلت من أجله00 وهانذا أخسر نصفه00 عذبك الله ياعدي كما عذبتني!
بصعوبة وصلوا إلى الضفة الأخرى من النهر، وحمل غياث الرجل إلى حيث يوجد النخيل والبيت00وكان النخيل قليلاً00متقارباً وخاوياً00 وبداخله قامت حجرتان متداعيتان من الطين وأمامهما عريش صغير من جريد النخل 0
وضع غياث الرجل على الأرض0 لكنه صاح:
-بالداخل00 بداخل الغرفة فلا طاقة لي بالبرد!
كان الجو معتدلاً00لكن الحمى كانت تفترس الرجل00 فحمله غياث إلى الداخل وهو متشبث بالخرج المتبقي وأنزله في الحجرة المظلمة وهو يئن00 ويهتف لاهثاً:
-نار 00أوقد ناراً00 الجليد يكاد يقتلني00 أنا محموم!
ثم غاب عن رشده، وعاد إلى الهذيان وإلى شتيمة عدي00 وأشخاص أخرين00حنظلة00بكرة بن مرة00 زليط0
وسقط الخرج من يده محدثاً صوتاً أثار فضول غياث الذي قام وجمع بعض الحطب وأشعل ناراً أضائت أركان الحجرة0 ثم عمد إلى الخرج فتناوله وفتحه00 ليطلق صيحة مكتومة عندما وجده يكاد يفيض بالذهب الخالص!
إلى هنا نتوقف ونكمل فيما بعد القصة