اختلست النظر الى ساعة فضية اللون تزين معصمها قبل أن ينهي المدرس محاضرته، تبقى دقائق قلائل لرؤية فارس الأحلام، إنه ينتظرها بنفس الموعد كالمعتاد، يتأملها بعمق بعينيه السوداء، وهي تمشي على استحياء أمامه، فتغرق في بحر من الأحلام الوردية،أُعجبت بنظراته، وأدبه ، وصون لسانه بنقيض الشباب الطائشين ، بجعبتها الكثير عنه ، أنهى دراسته الجامعية بتفوق، لكن قدره أنه لم يوفق بوظيفة تتنتشله من الفقر، انجذبت اليه من النظرة الأولى.. وكانت نظراتهما توحي بما في قلوبهما من شعور متبادل.
كان متسكعاً في الشارع كالمعتاد منتظراً عودتها، وفجأة لاح طيفها من بعيد، تقدم صوبها واثق الخطوات، بوجه البشوش وابتسامته العذبة، وبصوت هادئ رزين نطق بما أثلج صدرها ، إنه يود الارتباط بها، طارت من الفرحة ولم تحملها قدماها، وهرولت إلى منزلها، وأغلقت باب غرفتها، وقفزت فوق سريرها بسعادة وفي مخيلتها ظل فتى الأحلام، فأخيراً حقق القدر منالها.
كان الشاب من عائلة متواضعة، يتمتع بأدب وأخلاق عالية، وهو ما زاد اعجاب والديها به، فالفقر ليس عيباً، عيبه أنه لا يعمل بشكل دائم، لانه لا يتقن حرفة ما، نال شهادة جامعية، وظلت معلقة على الحائط .. وافق والدها على مهر بسيط، و لم يحمل العريس أكثر من طاقته، سيما وأن ابنته لم تعترض عليه مطلقاً، يكفي أنهما سيعيشان معاً بشقة لوحدهما في بيت العائلة، وأقيم عرساً بسيطا، وانتهى الحفل مبكراً، ليعود العريسان إلى عش الزوجية، ويسدل الستار على قصة حب من النظرة الأولى.
استيقظت العروس على شعاع الشمس الذي تسلل إلى غرفتها في "الصبحية"، وهمت بالذهاب إلى المطبخ لإعداد الإفطار لزوجها قبل أن يصل المهنئين، لكنها سرعان ما صرفت نظر لأن الثلاجة شبه خاوية، ظنت أن زوجها انشغل مؤخراً بقصة الزفاف، ، ومطالبه الجمة، ولم يجد متسعاً من الوقت ، وخرجت من تساؤلاتها بعد أن تناهى إلى مسامعها رنين جرس المنزل ووصول عائلتها محملين بالهدايا.
عادت التساؤلات تطرق ذهن الزوجة بعد أيام، والبيت لا يزال خاوياً من الطعام، وزوجها مطروحاً بالمنزل بلا عمل، اقتربت منه تحثه الذهاب إلى السوق، لشراء ما ينقص البيت، وقف مترنحاً، وقال لها باستغراب ودهشة "السوق.. ما ينقصك حبيبتي"..شعرت بغصة شديدة، وقالت بصوت متحشرج" ألا تدرك أن المنزل خاوياً من جنس الطعام، رد عليها ببرود أربك تفكيرها " أعلم عزيزتي، إذا أردت شيء فإذهبي إلى والدتي".
إنحدرت دمعة ساخنة من مقلتيها وهي تغادر حجرتها تجر أذيال الخيبة، بعد أن فشلت في اقناعه بالاستقلال عن والدته، وبناء مستقلبهما دون الركون لأحد، ونزلت سلالم المنزل المؤدية لشقة حماتها التي استقبلتها قاطبة الجبين، قائلة بعجرفة " كيف حالك يا كنتي"، أجابت بهدوء" الحمد لله يا عمتي"، قالت الحماة بامتعاض " ماذا تريدين"، ردت عليها منكسرة الجناح" جئت أطلب شيئاً من الطعام كما قال "أمجد"، صعقت الفتاة عندما طلبت منها أن تكنس البيت، وتنظف المطبخ حتى تلبي طلبها، واستمرت تأكل من طبق حماتها باهانة ومذلة دون أن يفكر زوجها بالبحث عن عمل، لا سيما أنه غارق بالديون.
كانت الحياة في بيت الزوج لا تطاق، ففي كل يوم تهان إما من الزوج أو حماتها التي تود رؤية حفيدها وتطالبها بالذهاب إلى الطبيب، فالحمل تأخر بنظرها.. بعد جهود مضنية قرر الزوجان اجراء فحوصات طبية لطمأنة الحماة، وبعد يومين عاد الزوج وبيده تقرير عن النتائج السليمة لفحص زوجته الطبي، لم ينبس ببنت شفه وابتلع لسانه عندما سألته عن نتائج فحصه، وقال متلعثماً" لقد أخبرني الطبيب أن نتائجي سليمة، وجلبت أوراقك حتى ترتاحي من زن والدتي".
لم تمض ستة شهور على ارتباطهما حتى تكالبت المشاكل من كل حدب وصوب لتهدم عشهما، فجلوسه في المنزل وعدم الاستقلال عن والدته فاقم من معاناة زوجته، والحفيد لم يأت بعد، ونفذ صبر الحماة، واتسعة رقعة المشاحنة مع الزوج الذي بدأ يكيل لها اللكمات والضربات.
ضجرت الزوجة من حياتها البائسة، وقررت الرحيل لبيت والدها، وبينما كانت تجمع ملابسها من الدولاب وجدت كيساً يحتوي على أوراق طبية تعود لزوجها، لم تع شيئاً من النتائج، وساورها القلق لاخفاء زوجها لتلك الأوراق، وضعتها في حقيبتها، وطرقت الباب بعصبية تلعن حظها العاثر.
فاض الكيل بوالدها، لأنها أخفت الحقيقة عنه طيلة الفترة الماضية، وعزم على الثأر لابنته، واستشار أمهر الأطباء لابلاغه بنتائج تقرير الزوج الطبي، وكانت مفاجأة مذهلة، فالزوج عقيم، واحتمالات الانجاب تحت الصفر.
صدمت الزوجة عند سماعها الخبر، واستحقرت زوجها الذي كان يراوغها، وأصرت على الطلاق، فزوجها هدم أول لبنة من مستقلبهما بعزوفه عن العمل، ولن تعود للجثو تحت ركبتي حماتها من أجل الطعام، وباءت الجهود المتضافرة من كلا العائلتين للاصلاح بينهما بالفشل، وأخيراً قررت التخلي عن جميع حقوقها الشرعية، وخلعه لتطوي صفحة أُمنيتها الحزينة.