عقد بين الخالق والمخلوق
قال تعالى:
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
هذا عقد بين المسلم وربه، وميثاق بين العبد ومولاه، أن يصرف العبد كل عبادته لله -عز وجل- ولا يشرك معه غيره، وألّا يستعين إلا بربه جل في علاه، فمن العبد العبادة والمسألة والطلب، ومن الله العون والتأييد، وهذه الآية كما قال الله -عز وجل- في الحديث القدسي:
((هذا بيني وبين عبدي ولعبد ما سأل)) وهي ملخص دعوة الأنبياء وموجز رسالة الرسل -عليهم السلام-.
ومعاني القرآن مجموعة في هذه الآية، فالله أوجب حقه على الخلق، وهو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وأوجب على نفسه لهم حقا إذا فعلوا ذلك وهو أن لا يعذبهم.
والعبادة التي يريدها الله من الخلق هي: فعل كل ما أوجب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- من الأقوال والأفعال الظاهرة والخفية، واجتناب ما نهى الله عنه ورسوله -صلى الله عليه وسلم- من ذلك، والاستعانة طلب العون من الله في كل أمر لا يستطيع عليه المخلوق ولا يقدر عليه إلا الخالق، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لابن عباس:
((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)).
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وثيقة مقدسة يعلنها المسلم في كل ركعة من صلاته فريضة كانت أو نافلة ليذكر نفسه دائما بهذا العهد العظيم، الذي من أجله خلق الإنسان، ومن أجله أرسلت الرسل ونزلت الكتب، وقام سوق الجنة وسوق النار، ومدّ الصراط، ونصب الميزان، وبعث الخلق من قبورهم، وحُصِّل ما في صدورهم، وعرضت عليهم صحفهم، وأقيم عليهم شاهد من أنفسهم.
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) هي قضية الخلاف بين المسلمين والمشركين، وهي معاني لا إله إلا الله، ومن أجلها وقع القتال بين أولياء الله وأعدائه، وحصلت الحروب مع حزب الشيطان، فما بعث الرسل عليهم السلام إلا من أجل أن يعبد الله وحده لا شريك له، وما سالت دماء الشهداء إلا ليوحد الله ويفرد بالعبادة ويختص بالتوجه دونما سواه -جل في علاه-.
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) سعادة أبدية ونجاة سرمدية بها يتم الصلاح وينال الفلاح وتسهل الأمور وتدفع الشرور، ولا ينال رضي الله ورحمته وعفوه ومغفرته وعونه وهدايته وتسديده إلا بإياك نعبد وإياك نستعين.
ولا تحصل النعم ولا تدفع النقم ولا يحصن من المتالف ويسلم من الصوارف ويحفظ من الكوارث والفتن والمحن إلا بإياك نعبد وإياك نستعين، وهي عاصمة لمن قام بحقوقها من الزلل والتخبط العقدي والهوج الفكري والضلال العلمي والسّفه الأخلاقي والانحطاط السلوكي والشطط العلمي؛ لأن في إياك نعبد وإياك نستعين عناية ربانية ورعاية إلهية، وولاية إيمانية، وبركة القرآن.
وهي أعظم فتح يُفتح به على الإنسان، فيكرم ويجتبي من عالم الطين، ويصطفي من دنيا الانحلال والتمزق والاضطراب والضياع والانحراف والذل والخنوع والخيبة
فيرتقي هذا الإنسان بإياك نعبد وإياك نستعين مكرماً في معارج القبول عند ربه، وفي سلم الوصول إلي مولاه، وفي درجات الفوز إلي خالقه
وهذا أعظم مجد وأجل رفعة وأحسن منـزلة وأشرف رتبة
ويهون معها المجد الدنيوي المؤقت المنقطع الزائل الفاني من منصب أو جاه أو مال أو ولد أو شهرة، فيصبح المسلم بهذه الكلمة عزيز الجانب، قوي الرّكن، عامر القلب، مطمئن النفس، منشرح الصدر،منبلج الخاطر نير البصيرة؛لأنه اتصل بالله، ودخل في نسب العبودية، ولبس تاج الخدمة للأحد الصمد، وحمل راية الولاية، وتشرف بالانضواء تحت علم
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) صلة بين الأرض والسماء، وبين الضعف والقوة، والفقر والغنى، والبقاء والفناء، وصلة بين العبد الضعيف الفاني وبين الله القوي الغني الحي القيوم
فيها يحرر الإنسان من الرّق للطاغوت، والعبودية للوثن والاستسلام للشهوات، والوقوع في براثن الغواية، والسقوط في مهالك الرّدى، وبها يغسل الإنسان من رجس الشّرك ونجاسة الجاهلية، وخبث الكفر وأدران الفسق، وأوساخ المعصية، وبها يطهر ضمير العبد من الخواء، وقلبه من النفاق، وعمله من الرياء، ولسانه من الكذب، وعينه من الخيانة، ونفسه من الظلم، فيصبح بإياك نعبد وإياك نستعين عبداً لله مخلصاً مبرأ من الشرك نقياً من الوثنية، معصوماً من نزغات الشيطان محفوظاً من فتنة الشهوات والشبهات.
الشيخ عائض بن عبد الله القرنى حفظه الله