جلست في مقعدها من القطار وبيدها راحت تقلب دفتر محاضراتها.. غاصت نظراتها في شيء خلف الكلمات المرصوصة.. تذكرت كلمات أمها: نسمة.. فكري جيدًا .. هيا.. أبو العريس طلب الرد سريعا
كان الرضا يرقص مع الفرحة في عيون أمها.. وكذا قسمات وجه أبيها الجادة كانت تحمل موافقة مع مرتبة الشرف.. لكنها كانت تعلم أنها أبدا لن تناسبه كما هو لن يناسبها.. نزلت من القطار بآلية .. سارت في طريقها للبيت .. تعلم ما إن تدخل حتى يباغتها وجه أمها طلباً للإجابة..
حسنا .. وضعت المفتاح في ثقب الباب اضطربت يدها .. كما أنها بدلت المفتاح عدة مرات أيضاً.. أخيرا فتح.. تنهدت .دلفت للداخل.. أمامها مباشرة كان وجه أمها البشوش..
كتمت قلقاً في داخلها.. كادت تهتف (لا كنت آمل في بعض الوقت).. لما الوقت أنت تدرين قرارك؟
هل يصعب عليك أن تخبو أنوار السعادة التي صارت تشع من عيني أمك؟
هل أعجبك الرضا علي وجه والدك؟
حسنا لكن على أي حال هما لا يرضيا بتعاستك ..
إذن لننهِ الأمر ..
الأم: (هل فكرت يا حبيبتي؟) قالتها بهدوء..وعيناها مثبتتان علي وجهها في انتظار كلمة تروي غليلها منذ الأمس..
هزت نسمه رأسها بالإيجاب ..
فاستبشرت الأم أكثر.. وقالت مبتسمة : ( ثم؟)
تسمرت الكلمات علي حافة لسانها.. بدا الهواء ثقيلا.. والوقت توقف.. وكأن صورته ارتسمت أمامها بأمل.. ووجه أمها وأبيها..
نسمه: (أنا غير موافقة.. أنا أعرف أنه شاب طيب وسيوَفق لمن هي أفضل مني إن شاء الله..)
قالت كلماتها بسرعة كأنها شيئاً ثقيلاً نفضته عن كاهلها دفعة واحدة..
سكتت أمها للحظة.. كانت مازلت مبتسمة .. لا بأس مازالت الفتاة صغيرة .. لا داعي للعجلة..
انصرفت بهدوء.. وأبلغت الأمر للوالد .. تعجب للرفض لكنه لم يعلق.. وأبلغ والده حين جاء .. وتمنى الجميع أن يوفق الله كلا منهم للخير..
أغلقت نسمه باب الحجرة وأسندت جسدها عليه .. أخيرا انتهى الأمر..
ترى هل انتهى؟
ألقت بجسدها علي السرير .. تحتاج للنوم عندها محاضرات في الغد..
كانت تعلم أن ما فعلته هو الصحيح.. ولكن شيئا بداخلها كان يؤنبها.. هل هي الشفقة؟ هل تعاطفت معه رغم إصرارها علي رفض طلبه؟
كان وجهه يلاحقها و عيناه تصرخان باللوم.. كانت في كل مرة تتخيل وجهه ترى فيه العتاب.. وربما الكره...
سينسى .. قالتها لنفسها مرارا..
مر الليل ببطء ورفض النوم أن يأتيها .. ولكنه على أي حال جاء في النهاية بعد طول صراع ..
وفي الصباح كانت خطواتها النشيطة تقطع المسافة بين بيتها وبين موقف الحافلة.. كانت تفكر في يومها المكتظ بالمحاضرات.. رفعت عيناها ترقب كم المسافة الباقية للموقف لكنها اصطدمت به.. كان آتيا من الجهة المقابلة .. توترت للحظة.. التقت عيناهما .. كانت عيناه تحمل كثيرا من القسوة أهي القسوة أم الكره أم اللوم؟ لا تدري.. ربما مزيجا مخيفا منهما .. صرف بصره للأرض وأسرع في خطواته متجاوزا إياها..
كانت تعرف..
نعم .. لقد جرحته.. و لكن أليس هذا أفضل من أن أخدعه ليعيش مع زوجة يدرك بعد فوات الأوان أنها لن تسعده؟
أخيرا الحافلة.. جلست علي مقعدها المفضل بجوار النافذة..
أخذت تشغل نفسها بمراجعه الدروس وبيدها قلم تخط به خطا أو تكتب به ملاحظة.. وبعد فترة توقف القلم.. فتحت صفحة بيضاء .. سار القلم ليخط اعتذارا...
ما هذه السخافة؟
هذا لن يزيد الأمر إلا تعقيدا .. ثم إن الأمر انتهي .. قرارها لن يتغير ..
مزقت الورقة فاصلة إياها عن الدفتر .. قسمتها نصفين.. ثم ألقت بها من النافذة وعيناها تراقبانها .. إنه اعتذار لن يصل أبداً!!