عطر الحب
للكاتبة القصصية الدكتورة/ هيفاء البيطار
قوبل القرار الذي اتَّخذته زينب بالاستهجان والاستغراب معاً، لدرجةٍ شعرت أنها مطوّقة بنظراتِ أولادها وزوجها السَّاخطة، لكنَّها في أعماقها شعرت بشيءٍ من السّخرية من استيائهم، فلن تتراجع عن قرارها حتى لو اكتشفوا كِذبَتها.
اتخذت قراراً بأن تأخذ إجازة من المؤسسةِ الزَّوجيةِ لعدةِ أيَّامٍ، لم تكن تستطع أن تقول لهم بصراحةٍ: "اسمعوا، أنا على شفير الانهيار من الإرهاق، وأشعرُ كما لو أنَّني حمار الطَّاحون، فمنذ خمسة عشر عاماً أعمل على خدمتكم بشكلٍ متواصلٍ..". ياه، أريد أن أرتاح، أن أفرَّ منكم بضعة أيامٍ كي أرمِّم نفسي وأشحذ بطاريتي.". ما كانوا ليقتنعوا بكلامها، فاضطّرت لاختلاق كذبةٍ، بأن زوج أعزِّ صديقاتِ طفولتها قد توفيَ وعليها أن تسافرَ إليها في بيروت، تحديداً في قريةٍ قريبةٍ من بيروت.
حاكت كذبتها دون أن تهتمَّ بأمر افتضاحها، تحدّت زوجها الذي تعتقد أن متْعَتهُ الوحيدة في الحياة هي إدانة الناس وتقصَّى عثراتهم، كانت تتخيل ببرودٍٍ نظرَتَهُ الشامتةٍ وهو يقولُ لها: "يا سلام، المُربّية الفاضلة تكذب!"..
بدون أسف باعت السَّوار الذهبيّ الوحيد الذي تملكه، والذي قدمَّه لها زوجُها يوم عقدِ القران، سوارٌ مؤلَّفٌ من حلقاتٍ ثخينةٍ متشابكةٍ مع بعضها. فكَّرت وهي تقبض ثمن السَّوار، دون أن تشعر بذرّةِ ندم، أنّ حلقات ذلك السَّوار المتداخلةِ مع بعضها تشبه سنواتِ حياتِها التي تتلاحق في خدمة أحبّائها. شعرت براحةٍ وهي تتخلص من ذلك السِّوار كأنَّها تقطع آخر رباطٍ لها مع المؤسسةِ الزوجيةِ.
لم تكن تعرف بيروت إلا من خلال التلفاز، وبمساعدةِ صديقتها الوحيدة في العمل، اتفقت مع سائق تاكسي ليمرَّ بها فجراً لتسافر إلى مدينةٍ أهم مافيها أنها لا تعرف فيها أحداً ...دلَّتها صديقتها على عنوان فندق...
لم تصدِّق أنَّ كِذْبَتها نجحت إلا حين جمعت بعض ثيابها في حقيبةٍ وأولادها متحلِّقين حولها ينظرون إليها بافتقادٍ وعتابٍ. ابنها الصغير ماكان يستطيع أن يغفو إن لم يلامس جسدُهُ جسدَها، طوَّق عنقها، والتصق جسدُهُ النحيلُ بجسدِها، قائلاً:
ـ "ماما، أوِّل مرَّةٍ تتركينا...".
قبَّلت خدَّيه بنهمٍ كعادتِها، قُبُلاتٍ يسمّيها أولادها "كاسات هوا"، قالت له:
ـ "لن أغيب سوى أيّام قليلة وسأشتري لك هدايا كثيرة"...
نجحت خطَّتُها بيسرٍ لم تتوقعه، ورغمَ أنَّ كل شيء مرَّ بسلام، فإنها شعرت بذعرٍ حقيقيٍّ حين انطلقت بها السيَّارة مبتعدةً، شعرت أنَّ قرارها بالسَّفَرِ كان متهوِّراً وتمنَّت بحماسٍ أن تنال عقابها لتكفِّر عن ذنبها بترك أولادها، وكي لا تأسرها مشاعرُ الإثمِ وتأنيبِ الضميرِ تجاهَ أولادِها ذكَّرت نفسَها بأنَّها طبخت لها سلفاً عن ثلاثةِ أيامٍ، وغسلت ثيابهم وكوتها، لمَّعت الزجاج ومسحت الأرض، فلن يرهقهم أيُّ عملٍ...
كان الطريق إلى بيروت موازياً للبحر، ظلَّ نظرها معلَّقاً بالبحر طوال ساعات السفر، وحين عبرت الحدود غاص قلبُها في أسىً عميق وهي تعي أنَّها لم تسافر أبداً طوال حياتها. بل زاد في أساها إحساسها أنَّه كان يمكن لعمرها أن يمضي على الوتيرةِ ذاتِها لو لم تخترع كذبة لتسافر خارج سجن الحب، عند هذه العبارة همدت أفكارُها، أجل، ما الأسرةُ، سوى سجن الحب؟!.. مطلوبٌ منها أن تعطي وتعطي وتعطي، محرّمٌ عليها أن تتعب، يجب أن تكون كالإسفنجة التي تمتصُّ حتى لو اختنقت من السائل..
كانت متكوِّمة في مقعدِها، تسند جبينها على زجاج النافذة؛ تحبس نَفَسَها في الصمتِ كما لو أنها في درعٍ، لم ترغب في تبادل الحديث مع الرّكابِ مكتفية بحوارها الصامت الحميم مع البحر. لم تحدد طبيعة مشاعرها، وهي تتعرَّف للمرّة الأولى على طبيعة لبنان الساحرة، أحسَّت أن مشاعرها عميقةٌٍ مختنقةٌ داخلها ومتشابكة لدرجةٍ يصعب عليها تحديد ماهيتها، لم يغادر أطفالها ذهنها لحظة واحدة، كانت معهم في كلِّ تحرُّكاتهم، أثناء فطورهم، واغتسالهم وذهابهم إلى المدرسة، شعرت بغرابةٍ ودهشةٍ حقيقيَّتين وهي تتنبهُ لأوَّلُ مرّةٍ في حياتِها كيف أنها حاضرةٌ في كلِّ شيءٍ في حياتهم..
أصابتها تلك الحقيقة التي داهمتها متكثِّفة عبر خمسة عشر عاماً بدوار حقيقيٍّ، أغمضت عينيها مستسلمةً لدوار العاطفةِ العاصفةِ التي تربطها بأسرتها، وَعَتْ بكلِّ كيانها المتهالك من التعبِ أنها صرحُ هذه الأسرةِ، حجرُ الأساس فيها، وبأنَّهم لا يكونون إلاَّ بها.
أنهكتها انفعالاتِها طوال الرحلةِ، فوصلت إلى الفندق منهكة، بقلبٍ ثقيلٍ ومشاعرَ متضاربة تُثقلُ كاهلها وتجبرها على إحناءِ كتفيها قليلاً. الغرفةُ مريحة، نظيفة، ومن الشرفةِ يُطلُّ بحرُ بيروت ليزيدَ من إغوائها بالحريَّةِ، أسدلت الستائر الداكنة المضاعفة، واستلقت على سرير هروبها، مُسلِّمة نفسها للعتمةِ الرطبةِ اللطيفةِ تجرِّدُها شيئاً فشيئاً من طبقاتٍ متراكمةٍ من القلق والتَّوتُر، وصور أولادها التي تخزها دوماً بمشاعر تأنيب الضميرِ. عاودها إحساسها بذاتها، اكتشفت فكرةً أدهشتها، وتمنَّتْ لو تملك الهمة لتقاوم استرخائها وتسجلها: "الحب أفقدني إحساسي بذاتي".. هذا ما أكَّدته لنفسها وهي تعي كيف أنَّ الأمَّ مجرّدُ صدىً لأولادِها، تفرح لفرحهم وتحزنُ لحزنِهم، أمَّا هي فَتَفْرغُ، تصيرُ قربة جوفاء... أجل خمسة عشر عاماً من الحياةِ في جنَّةِ الحبِّ الأسريِّ فرَّغتها تماماً، إنها تُشبهُ بئراً جفَّ. غرقت في النوم بعكس توقعاتِها بأنَّها ستأرق ولن تتمكن من النوم في سريرٍ غير سريرِها، لكن حين أيقظها شعورٌ بالجوع أدركت أنَّها نامت بعمقٍ كما لو أنَّها ضحيّة سباتٍ، نظرت في ساعتِهَا، الرابعة والنصف بعد الظهر، اتّصلت بعاملة الاستعلامات لتسألها إن كان المطعم لا يزالُ يقدِّمُ وجبة الغداء.
أجابتها الموظفة بلطفٍ دافئ: "أجل"..
بدَّلت ملابسَها. كان المطعمُ في الطابق التاسع، اختارت زاويةً مطلَّةً على البحر، وتأمّلت بيروت المسترخيةِ على الشاطئ والمتسربلةِ بضبابٍ خفيفٍ، تفجَّرت فجأةً حيويّةً هائلةً في روحِها، حيوية مختزنة منذ سنواتٍ وسنواتٍ. طلبت بيرة وأكلت بشهيةٍ، مازحت نفسها بدعابةٍ: كم مرَّةً يا زينب تناولت طعامك دون أن تقومي عن كرسيِّكِ مراراً لتلبِّي طلباتِ زوجكِ وأولادكِ؟ أسعدها أن تُخدم، تذكَّرت أنَّها وعدتُهم أن تتصل بهم لتطمئنهم عن وصولها، كادت تنسى كذبتَّها، ذكرت نفسها أنَّها في قريةٍ قرب بيروت لتعزيةِ صديقةٍ بوفاةِ زوجها.
حين أتاها صوتُ ابنتِها البكرِ أحسّت أنها ترتدُّ إلى سجنِ أسرتِها، أرادت ابنتَها أن تقحمها في تفاصيل شجارها مع أخيها، حدَّثت نفسها: "يريدون إشراكي بمشاكلهم حتى لو كنت بعيدة، "ابنها الأكبر طلب رقم صديقتها فراوغت وادَّعت أنَّ الاتصالَ صعبٌ، أمّا!.. صغيرها حين حان دوره وانتزع السمّاعة فقال لها جملة وحيدة: "هيّا عودي. "ارتعش قلبُها وهي تعي كم يحتاجها، حاولت أن تطمئنه أنَّها ستعود قريباً محمّلةٍ بالهدايا، لكنَّه قالَ بحزمٍ: "أريد الماما ولا أريد هدايا"..
ابتدأت رحلةُ الحريةِ بالتسكُّع في شارع الحمرا، تتوقفُ طويلاً عند الواجهاتِ مفتتنة بالمعروضات، تقارن بين الأسعار هنا وهناك، وكلَّما مشت عدَّة أمتار تستدير للخلفِ لتذكِّر نفسَها بطريقِ الفندقِ. كانت نشوتها عميقة وغامضة في آن، وأحسَّت أنَّ جناحين نبتا لها في ظهرها، وأنَّها خفيفة كفراشة، تنبّهت بعد ساعتين من تسكُّعِها أنَّ هناك شيئاً لا يقلُّ روعة عن الحب وهو الحريّة، شعرت كما لو أنَّ روحَها أرضٌ مشققة بالجفافِ، والحريةُ أشبه بمطرٍ يملأ تلك الشقوق، وجدت نفسها أمام سينما روكسي، وبدون تردُّدٍ اشترت بطاقةً لتحضر فيلم العاصفة ليسرا ممثلّتها المفضَّلة، تذكَّرت بأسىً كيف أنها محرومة من السينما في مدينتِها الكئيبةِ، وتمنّت لو كان أولادها معها. تأثرت بقصّةِ الفيلم، وبتمثيل يسرا المتفجِّرةِ بالأحاسيس، لكنَّ بكاءها المتواصل طوال الوقت لم يكن بسبب انفعالِها بالفيلم، بل لأشياء كثيرة في حياتها ضاعت في الإهمال وفي زحمةِ اهتماماتِها الأسرية. خرجت من السينما متورِّمة العينين، مندهشة من عاصفةِ بكائها، جلست في مقهى رصيف أمَّاً وحيدةً بحاجة أن ترمم ذاتها وتحاور نفسها، طلبت كأساً من عصير الجزر، فيما لا تزال تبتلع دموعها للداخل متسائلة عن سرِّ عاصفةِ بكائها، لكن كم من الأشياءٍ تستحقُّ أن تبكي عليها، كم تشعرُ أنَّها ضيَّعت أجمل مافي روحِها في سبيل أسرتِها؟!..
هدأت بعد أن رشفت كوب عصير الجزر البارد الذي أطفأ لهيبَ روحِها، رغبت أن تتمطّى بقوَّةٍ أمام كلّ الناس، أن تتثاءب بعمقٍ وتقولَ بصوتٍ عالٍ ياه ما أحلى الحريَّة، وفي ساعةٍ متأخرةٍ من الليلِ عادت إلى الفندق، قلَّبت محطاتِ التِّلفاز بلا مبالاةٍ، استحمَّت وهي تغنِّي طوال الوقت مستعيدةً تلك الصفة التي كانت تتمتَّع بها أيَّام العزوبية، لم ترتد ملابسِها في الحمّام كعادتِها، بل خرجت إلى الغرفة تحيط جسدها بمنشفةٍ، أسقطت المنشفة أرضاً وتفرّجت على جسمها في المرآة الكبيرةِ للمدخلِ، صدمها عُريُّها، ورغم أنها لا تزال محتفظةٍ برشاقتِها إلاَّ أنَّها أحسَّت بحزن عظيم وهي تتأمل نهدَيها، أمسكت نسيجَهما الرَّخو، عصرتهما براحتَّيها، يالطعم المرارة الذي تشعره، وهي تتذكر كم كانا شامخين ومتينين، تذكَّرت سنواتِ زواجها الأولى التي قضتها مسممة بالغيظ بسبب تحوُّلاتِ جسدِها المنتفخِ بالحمل والمترهِّل بعد الولادةِ، واحتقان ثدييها المؤلم بالحليب، ثمَّ تهدُّلهما وارتخائهما. كان زوجها يضاعف غيظها. لأنّ لا شيء تبدّل في جسدهِ بعد الزواج، إنَّ الطبيعة ظالمة حقاً ومنحازة للذكور.
أفاقت في ساعةٍ متأخرةٍ من صباح اليوم التالي، طلبت الفطور إلى غرفتِها وتناولت قهوتّها على الشرفة متأمِّلةً النَّاس في سعيهم الدؤوب، فكَّرت أنّ البشر يتشابهون في كلِّ مكان، كانت تتذوق مع قهوتِها طعمَ الحريَّةِ، شعرت أنها ستعيش حالة سمَّتها "فتنة الحريةِ"..
مرَّ أطفالها بمخيَّلتها غارقين في الضباب، حيَّتهم بحب لكنَّها رجتهم أن يتركوها مستمتعة بوحدتها. تنبَّهت لمتعة الصمت، حيث يمكنها أن تسمع صوت أعماقها. حاولت أن تفحص مشاعرها تجاه زوجها، عجزت، لتعترف أنها لم تشتق لـه، وبأنَّها لم تعد تُحبُّهُ، مابالها مرتبكة هكذا؟.. فهو لن يتمكَّن من محاسبتها على أفكارها، تذكَّرت بمرارةٍ كيف تهبه جسدها كحقٍّ له، كما لو أنها مدينة له بتلك الممارسة الفارغة... لولا الأولاد لهجرتْهُ...
تنبَّهت لنظرات نزيل في الفندق تراقبها، كان يدخن الغليون في الشرفةِ، ورغم نظّارته الشمسيةِ السَّوداء فإنها شعرت أنَّ نظراته مثبتة عليها، تذكَّرتْ أنَّها التقته مساء البارحةِ عند باب المصعد وبأنه حيَّاها بإيماءةٍ من رأسِه. قدّرت أنه على أعتاب الخمسين، وأسعدها أنها لا تزال قادرةً على إدارة الرؤوس إعجاباً، وجدت أنَّها تفكَّر به في تسكُّعها الجميل بعد الغداء كاحتمال غواية.. استعادت بذاكرتها لقطاتٍ بعيدةٍ لرحلاتِ صيدٍ كان زوجها يقوم بها مع رفاقه تستمرُّ ليومين أو ثلاثة أيَّام، ترى هل كانت رحلات صيد؟.. أكانوا يلاحقون الخنازير والطيور أم النِّساء؟! وإلاَّ ما معنى الأحاديث الغامضة والتعليقات الجنسيّةِ والغمزات المبطَّنة التي كان الأصدقاءُ يتبادلونها، إنها واثقة أنَّه يخونها، وقد ساعدتها الصدف أن تكتشف كذبات كثيرة لفقها أمامها، لكنها لم تشأ أن تواجه تلك الحقيقة لعجزها عن تخيُّل انهيار أسرتِها، إنَّها تعبد أولادها، ومستعدة أن تتحمَّل كل طعنات الألم في سبيلهم...
اشترت فستاناً أنيقاً يجمع بين اللونين الأحمر والأبيض، ارتدته وأفردت شعرها الطويل الذي تعقصه دوماً في خصلة ثخينة تنسدل حتى منتصف ظهرها. قررت أن تحضر مسرحيّة، تذكَّرت أنها منذ عشرين عاماً لم تحضر مسرحيَّة، اشترت دخاناً خفيف النيكوتين رغم أنَّها لا تدخِّن، لكن بدا لها نفث سيجارة من مستلزمات
ديكورات الحرية. لم تبكِ ذلك المساءِ في المسرحِ، بل استمتعت تماماً، وحين تسلَّمت مفتاح غرفتِها من عاملة الاستقبال، أحسَّت بشيءٍ يحرقها بين كتفيها، استدارت لتجده يحدِّق بها، لم يكن وجهه يعكس عاطفةً أو انفعالاً، لكنَّها قرأت رغبة عميقة في عينيه بأن يكون قربها ويحدثها، تجاهلته واتجهت بخطوات ثابتةٍ نحو المصعد، وحين رمت فستانها جانباً وأشعلت سيجارة لتنفث دخانها بتلذذ فكَّرت. ما الذي يمنعها حقاً من خوض التجربة مع رجل آخر غير زوجها، ورغم أنَّها أرادت أن تستفظع الفكرة وتزجر نفسها، إلا أن الخطيئة بدت لها فاتنة حقاً. لِمَ لا تجرّب رجلاً آخر غير زوجها؟... ألا يحقُّ لها أن تخونه مرَّةً واحدة مقابل خياناته الكثيرة لها؟ ولماذا يُنظر لخيانة المرأة كجريمةٍ، أمَّا خيانة الرجل فيجدون لها مئة مبرِّر... فتحت البرّاد وأخرجت زجاجة بيرة، شربتها مستمتعة بذلك الاسترخاء اللذيذ الذي يولده الكحول في أطرافها، تساءلت: "هل تستحق الحياة أن تؤخذ بكلِّ تلك الجديّة؟ عادت الفكرة المتحدِّيةِ التي تحاصرها؛ ما الذي يمنعها من خيانة زوجها؟!".. الخيانة تكون لرجلٍ تحبّه، أمّا هي فلم تحبّ زوجها، لكن كيف تخون مع رجلٍ غريبٍ لا تعرف عنه شيئاً؟... وجدتُ نفسَها تفكّر به قبل أن تغفو، بل أسعدها أنَّه رآها بأجمل صورها...
صباح اليوم الثالث لرحلة حريّتها، تعارفا، قدَّم لها نفسه ببساطة، وجدت نفسَها ترحِّب به ليتناولا الإفطار معاً، ارتاحت للتحدُّثِ إليه في مدينةِ الغرباءِ، أسعدها أنَّه لم يسألها أيّ سؤالٍ شخصيٍّ، فحذت حذوه، لم تمانع حين دعاها لمرافقته لزيارةِ متحف جبرانِ خليل جبرانٍ قرب إهدن، جلست بجانبهِ في السيّارة الفخمة وصوت مطربٍ يونانيٍّ يفجِّر فيها أحاسيسَ غير متوقِّعةٍ، اكتشفت أنَّ هذا الغريب يحرِّك فيها أحاسيسِ اعتقدت أنَّها ماتت بدأت جاذبيّة خجولة تنمو بينهما يتجاهلانها بقسوة. نسيت اسمها تماماً، كأنَّ دهراً يفصلها عن أحبِّائها، وتآلفت مع الغريبِ لدرجةٍ شعرت أنَّها تعرفه منذ دهر...
كانت مبهورةٍ بالطريقِ الجبليِّ الساحر، برسومِ جبران وروحها التي تطوف في المكان، تناولا عشاءً خفيفاً في مطعم يقدِّم مأكولاتٍ بحريةٍ، وحين دخلت غرفتها كانت منهكة من سعادةٍ مباغتةٍ وغريبةٍ، تذكّرت أنها لم تتصل بأولادها لتطمئنَّ عليهم، لكنَّها لم تشعر بالتقصير، فليتركوها تستمتع بحريَّتها مع الغريب، كانت تعرف أنَّ خيالاتٍ عاطفيةٍ رقيقة تجول بذهنيهما وأنهما سيستسلمان للنَّوم على أمل أن يتلامسا في اليوم التالي، لكنَّ أوّلَ شيءٍ فعلته حين استيقظت أن اتّصلت بأولادها، تبلبلت من القلق حين أخبروها أنَّ الصغير استيقظ وحنكه متورِّمٌ بشدةٍ، إنَّه النكاف كما شخَّصَ لـه الطبيب، وهو يعاني من حرارة... بلحظةٍ كانت قد جمعت ثيابها في الحقيبةِ، دفعت الحساب لعاملةِ الاستقبالِ، ورجت سائق التاكسي أن يسرع إلى محطّةِ الباصات، كانت دموعها تنهمرُ كاويةً، تمسحها بظهر يدها... دفعت للسائق أجرة راكبَين ورجته أن يسرع، سخرت من أيَّام الحرية التي قضتها في بيروت، أحسَّت أنَّها تكسو نفسها بثوبٍ مخادع، كان حبّها لصغيرها طوال طريق العودة يسيطر عليها ويغمرها بنشوةٍ تذهب بعقلها، مرَّ بذهنها الغريب يتناول إفطاره وحيداً ينتظرها، ابتسمت باستخفافٍ للأفكار العابرة والغريبة عن جوهر كيانها أم... كانت يداها ال
محيطتان بحقيبة يدها ترتجفان من الانفعالِ، فكّرت بأنها لن تعطي جسّدها لرجلٍ آخر لتحافظَ على نقاءِ روحها، وجسدها من أجل أطفالها، وليس لأجل زوجها، إنها تعي تماماً كيف أنَّ لا طعم لحياتها دونهم، وأنَّ تعبها الطويل في سبيلهم هو الذي يغني روحها ويجعلها صامدةً ومطلقةً وعظيمةً.؟ صار نفاذ الصَّبر يلسعُها، غاية ما تريده أن تضمَّ الصَّغير المريض إلى حضنها، ستقبِّله قبلاتها "كاسات الهوا" محاذرةً أن تسبب له الألم، سَتُدللّهُ وتحضر له المأكولات الخفيفة، وحلوى الزبيب واللوز التي يحبها، كم تتمنَّى أن تسهر بجانبه طوال الليل منصته لإيقاع تنفُّسِهِ، وأن يمدَّ يده وهو نائمٌ باحثاً عنها بقلقٍ، ليستكن ويتابع نومه حين يلمسها...
أيّة حريّةٍ مخادعةٍ أرادت أن تعيشها؟... كم تشعر بذلك اللهب المتأجّجِ من عينيها، تشعر به دون أن تراه، لهب الحب، لا يوجد أروع من أن يعيش الإنسان لهب الحب... صارت أنفاسها تتخذ إيقاعاً حماسيّاً، فجأةً غزت أنفها رائحة عطرٍ ساحرٍ، التفت تبحث عن مصدره، سألت السائق والركاب عن مصدر تلك الرَّائحة الزكيَّة، أبدوا دهشتهم، واضحٌ أنَّ أيَّاً منهم لم يشم تلك الرَّائحة. ابتسمت وهي تغمض عينيها متشنِّجةً من السَّعادة. إنَّه عطر الحب...