يعرف «ماكس بلانك»، بأنه صاحب «النظرية الكمية للإشعاع الكهرومغنطيسي»، وقد عرضها أول مرة ، في اجتماع للجمعية الفيزيقية الألمانية عقد في ديسمبر عام .۱۹۰۰
ولد «ماكس بلانك» في مدينة «كيل» الألمانية عام ،۱۸۵۸ ثم انتقل مع عائلته إلى «ميونيخ»، حيث التحق بمدارسها، ثم درس بجامعتها، وبعد فترة رحل إلى جامعة «برلين»، كي يتتلمذ على يد كبار علماء الفيزيقيا في عصره، أمثال «هيرمان فون هيلمهولتز»، «جوستاف كيرشوف». وقد اهتم «بلانك»، طوال حياته الحافلة، اهتماماً خاصاً بالحرارة، التي تعرف حالياً باسم الديناميكا الحرارية، حتى إنه تقدم لنيل درجة الدكتوراه، برسالة وأبحاث تدور جميعاً حول هذا الموضوع، وكان من نتيجة ذلك، أن أصبح أستاذا في جامعة «برلين» إثر وفاة «كيرشوف» وعلى النقيض من معظم العلماء، لم يبرز التفكير العلمي، الذي ينسب بالفخر في أيامنا هذه إلى صاحبه «بلانك»، في رأس هذا العالم، إلا بعد أن تقدم به العمر، وبلغ ۴۲ عاماً.
ويتمثل هذا التفكير العلمي، في توصله إلى اكتشاف النظرية الكمية للطاقة، التي نال
عنها جائزة «نوبل» عام .۱۹۱۸ وكان «بلانك» أول من تحقق من حتمية وجود الطاقة التي تحملها جميع الموجات الكهرومعنطيسية «مثل الضوء، أو الحرارة، أو موجات الراديو» على هيئة حزم منفصلة، أو كميات صغيرة جداً، وأنها لا توجد موزعة على هيئة موجية مستمرة. وقد استعان على إثبات نظريته تلك، بنظرية الجسيمات عن الضوء التي سبق أن لفظها «نيوتن».
واعترى «بلانك» شعور مزدوج من الخوف والقلق، من جزء ما قد يترتب على إعلانه نظريته. وجعلته طبيعته الرقيقة - التي اكتسبها نتيجة انحداره من عائلة تمرست بمهنة المحاماة وغيرها من الوظائف المدنية - حذرا غاية الحذر أثناء حديثه، حتى إنه جاهر بإيمانه الكامل بالنظرية التقليدية عن الإشعاع الكهرومغنطيسي، كما فسرها «ماكسويل»، رغم أن نظريته الخاصة، أثبتت عدم صلاحية هذه النظريات التقليدية للتطبيق على الأطوال الموجية القصيرة. كما لم يكن مقتنعا بالصيغة الرياضية للنظرية الكمية، حيث عرضت طاقة الإشعاع، كناتج لضرب تردد الإشعاع في مقدار ثابت صغير. وكان «بلانك» مؤمناً إيمانا راسخا، بإمكانية الاستغناء عن هذا الثابت، في حين أن هذا الثابت - ويسمى ثابت «بلانك» - يعد من الثوابت الأساسية في الطبيعة «مثل المعادلة الخاصة بسرعة الضوء في الفراغ»، كما يعد أمرا ضروريا، لتفهم طبيعة الذرات، وكيفية امتصاصها للإشعاع، أو ابتعاثها له.
لذلك استولى الشعور بالضيق على بلانك، عندما انتصرت نظريته الكمية، ولكن على يد موظف سويسري نشرها في بحث عن النظرية النسبية، ولم يكن ذلك الموظف السويسري، سوى «ألبرت أينشتاين». وبعد هذه البداية السيئة، نشأت صداقة حميمة بين الشاب الشغوف بالعلم «أينشتاين» و«ماكس بلانك»، الذي كان في منتصف العمر آنذاك. ويحكي أن الجيران، كثيرا ما سمعوهما يعزفان الموسيقى سويا، فيقوم «أينشتاين» بالعزف على الكمان، ويصاحبه بلانك باللعب على البيان «البيانو»
وربما كانت هذه الصداقة، وكذلك ثقة «بلانك» في الله، هما السبب وراء صموده
أمام المحاكمات العديدة التي استهدفت إدانته في حياته. واستمر «بلانك» في تدريس علم الفيزيقيا في جامعة «برلين»، التي كانت تتدهور وتنقرض يوما بعد الآخر كما كان يزور «هتلر» باستمرار باعتباره سكرتير الأكاديمية الالمانية للعلوم، حتى بلغ من العمر ۶۰ عاماً وكان من المحزن «لبلانك» وللجهود العلمية الألمانية عموماً أن يفر عدد كبير من العلماء - كان «أينشتاين» واحد منهم - من حكم النازي، كما كان
من الأمور الباعثة على حزنه الشديد أن يدان «إروين» ابنه كشريك في إحدى المؤمرات التي دبرت لاغتيال هتلر. وكان أشق ما عاناه «ماكس بلانك» في حياته شعور الأسف العميق على الصدع الذي كان يعتقد أن نظريته قد أحدثتة في علم الفيزيقيا وحتى وفاته - وقد اقترب عمره من التسعين - دوام على الجهاد للتوفيق بين الفيزيقيا التقلدية التي آمن بها وقام على تدريسها، وبين الفيزيقيا الحديثة التي أرسى قواعدها.