يقول تعالى آمرا عبيده ، فيما يؤملون من خير الدنيا والآخرة ،
بالاستعانة بالصبر والصلاة ، كما قال مقاتل بن حيان في
تفسير هذه الآية : استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على
الفرائض ، والصلاة .
فأما الصبر فقيل : إنه الصيام ، نص عليه مجاهد .
[ قال القرطبي وغيره : ولهذا سمي رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث ] .
وقال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن جري بن كليب ،
عن رجل من بني سليم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
الصوم نصف الصبر .
وقيل : المراد بالصبر الكف عن المعاصي ؛ ولهذا قرنه بأداء
العبادات وأعلاها : فعل الصلاة .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن حمزة بن
إسماعيل ، حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي سنان ، عن
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : الصبر صبران :
صبر عند المصيبة حسن ، وأحسن منه الصبر عن محارم الله .
[ ص: 252 ]
[ قال ] وروي عن الحسن البصري نحو قول عمر .
وقال ابن المبارك عن ابن لهيعة عن مالك بن دينار ، عن سعيد
بن جبير ، قال : الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب فيه ،
واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه ، وقد يجزع الرجل وهو يتجلد
، لا يرى منه إلا الصبر .
وقال أبو العالية في قوله : ( واستعينوا بالصبر والصلاة )
على مرضاة الله ، واعلموا أنها من طاعة الله .
وأما قوله : ( والصلاة ) فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات
في الأمر ، كما قال تعالى :
( اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر
ولذكر الله أكبر )
الآية [ العنكبوت : 45 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا يحيى بن
زكريا بن أبي زائدة ، عن عكرمة بن عمار ، عن محمد بن عبد
الله الدؤلي ، قال : قال عبد العزيز أخو حذيفة ، قال حذيفة
، يعني ابن اليمان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا حزبه أمر صلى . ورواه أبو داود
[ عن محمد بن عيسى عن يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار كما سيأتي ] .
وقد رواه ابن جرير ، من حديث ابن جريج ، عن عكرمة بن
عمار ، عن محمد بن عبيد بن أبي قدامة ، عن عبد العزيز بن
اليمان ،
عن حذيفة ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة .
[ ورواه بعضهم عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة ؛ ويقال : أخي
حذيفة مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وقال محمد بن
نصر المروزي في كتاب الصلاة : حدثنا
سهل بن عثمان أبو مسعود العسكري ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال :
قال عكرمة بن عمار : قال محمد بن عبد الله الدؤلي :
قال عبد العزيز : قال حذيفة : رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم
ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي ، وكان إذا حزبه
أمر صلى . وحدثنا عبيد الله بن معاذ ، حدثنا أبي ، حدثنا
شعبة عن أبي إسحاق سمع حارثة بن مضرب سمع عليا يقول
: لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح ] .
[ ص: 253 ]
قال ابن جرير : وروي عنه ، عليه الصلاة والسلام ،
أنه مر بأبي هريرة ، وهو منبطح على بطنه ، فقال له :
اشكنب درد [ قال : نعم ] قال : قم فصل فإن الصلاة شفاء
[ ومعناه : أيوجعك بطنك ؟ قال : نعم ] .
قال ابن جرير : وقد حدثنا محمد بن العلاء ويعقوب بن إبراهيم
، قالا حدثنا ابن علية ، حدثنا عيينة بن عبد الرحمن ، عن
أبيه : أن ابن عباس نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر ،
فاسترجع ، ثم تنحى عن الطريق ، فأناخ فصلى ركعتين أطال
فيهما الجلوس ، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول :
( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) .
وقال سنيد ، عن حجاج ، عن ابن جرير :
( واستعينوا بالصبر والصلاة ) قال :
إنهما معونتان على رحمة الله .
والضمير في قوله : ( وإنها ) عائد إلى الصلاة ، نص عليه
مجاهد ، واختاره ابن جرير .
ويحتمل أن يكون عائدا على ما يدل عليه الكلام ، وهو الوصية
بذلك ، كقوله تعالى في قصة قارون :
( وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون )
[ القصص : 80 ] وقال تعالى :
( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا
الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم )
[ فصلت : 34 ، 35 ]
أي : وما يلقى هذه الوصية إلا الذين صبروا ( وما يلقاها )
أي : يؤتاها ويلهمها ( إلا ذو حظ عظيم )
وعلى كل تقدير ، فقوله تعالى : ( وإنها لكبيرة ) أي :
مشقة ثقيلة إلا على الخاشعين . قال ابن أبي طلحة ،
عن ابن عباس : يعني المصدقين بما أنزل الله . وقال مجاهد :
المؤمنين حقا . وقال أبو العالية : إلا على الخاشعين الخائفين ،
وقال مقاتل بن حيان : إلا على الخاشعين يعني به المتواضعين
. وقال الضحاك : ( وإنها لكبيرة ) قال : إنها لثقيلة إلا على
الخاضعين لطاعته ، الخائفين سطواته ،
المصدقين بوعده ووعيده .
وهذا يشبه ما جاء في الحديث : لقد سألت عن عظيم ،
وإنه ليسير على من يسره الله عليه .
وقال ابن جرير : معنى الآية : واستعينوا أيها الأحبار من أهل
الكتاب ، بحبس أنفسكم على طاعة الله وبإقامة الصلاة المانعة
من الفحشاء والمنكر ، المقربة من رضا الله ، العظيمة إقامتها
إلا على المتواضعين لله المستكينين لطاعته المتذللين
من مخافته .
[ ص: 254 ]
هكذا قال ، والظاهر أن الآية وإن كانت خطابا في سياق إنذار
بني إسرائيل ، فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص ،
وإنما هي عامة لهم ولغيرهم . والله أعلم .
وقوله تعالى :
( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون )
هذا من تمام الكلام الذي قبله ، أي : وإن الصلاة أو الوصاة
لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ، أي :
[ يعلمون أنهم ] محشورون إليه يوم القيامة ، معروضون
عليه ، وأنهم إليه راجعون ، أي : أمورهم راجعة إلى مشيئته
، يحكم فيها ما يشاء بعدله ، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء
سهل عليهم فعل الطاعات وترك المنكرات .
فأما قوله : ( يظنون أنهم ملاقو ربهم ) قال ابن جرير ،
رحمه الله : العرب قد تسمي اليقين ظنا ، والشك ظنا ،
نظير تسميتهم الظلمة سدفة ، والضياء سدفة ،
والمغيث صارخا ، والمستغيث صارخا ، وما أشبه ذلك
من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده ،
كما قال دريد بن الصمة :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجججججججججججج سراتهم في الفارسي المسرد
يعني بذلك : تيقنوا بألفي مدجججججججججججج يأتيكم ، وقال عميرة بن طارق :
بأن يعتزوا قومي وأقعد فيكم وأجعل مني الظن غيبا مرجما
يعني : وأجعل مني اليقين غيبا مرجما ، قال :
والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى
اليقين أكثر من أن تحصر ،
وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية ، ومنه قول الله تعالى :
( ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها )
[ الكهف : 53 ] .
ثم قال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو عاصم ،
حدثنا سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد ، قال : كل ظن في
القرآن يقين ، أي : ظننت وظنوا .
وحدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا أبو داود الحفري ،
عن سفيان عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال :
كل ظن في القرآن فهو علم . وهذا سند صحيح .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية
، في قوله تعالى : ( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم )
قال : الظن هاهنا يقين .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد ،
والسدي ، والربيع بن أنس ،
وقتادة نحو قول أبي العالية .
[ ص: 255 ]
وقال سنيد ، عن حجاج ، عن ابن جريج :
( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ) علموا أنهم ملاقو ربهم ،
كقوله : ( إني ظننت أني ملاق حسابيه )
[ الحاقة : 20 ] يقول : علمت .
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
قلت : وفي الصحيح : أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة :
ألم أزوجك ، ألم أكرمك ، ألم أسخر لك الخيل والإبل ، وأذرك
ترأس وتربع ؟ فيقول : بلى . فيقول الله تعالى : أفظننت أنك
ملاقي ؟ فيقول : لا . فيقول الله : اليوم أنساك كما نسيتني .
وسيأتي مبسوطا عند قوله : ( نسوا الله فنسيهم )
[ التوبة : 67 ] إن شاء الله ،
والله تعالى أعلم .