التأذين والإقامة في أذن المولود ( إعجاز علمي وتربوي )
سن النبي صلى الله عليه وسلم فعليًّا الأذان والإقامة:
من السنن الفعلية التي تُقام للمولود عند ولادته: الأذانُ في أذنه اليُمنى، والإقامة في أذنه اليُسرى، وذلك بعد الولادة مباشرة.
عن أبي رافع رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أذَّن في أُذن الحسن بن عليٍّ حين ولدته فاطمة"[1]، وورَد في الإقامة حديثان فيهما ضَعفٌ بخلاف الأذان، ولكن معنى الحديث الأول يؤكِّد معناهما؛ عن الحسن بن عليٍّ رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن وُلِد له مولود فأذَّن في أُذنه اليُمنى وأقام في أذنه اليُسرى، لم تضرَّه أم الصبيان))[2]، وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم: "أذَّن في أُذن الحسن بن عليٍّ يوم وُلد، وأقام في أُذنه اليُسرى" [3].
تأتي هذه السنَّة في سياق تدعيم الفطرة السوية للمولود، وبثِّ شعار الإسلام في نفس المولود، وإعلان الإسلام في قلبه قبل أن تتلقَّفه نداءات الشيطان، وتَجتذبه أصوات الغناء، وتَستهويه مُيوعة المُنحلِّين.
إن هذا النداء يتضمن معاني الإسلام وشعائرَه؛ مِن تكبير، وتهليل، وإثبات لرسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونداءات لإقامة الصلاة، ودعوة صريحة للفلاح العام الشامل في الدنيا والآخرَةِ الذي تتضمَّنُه رسالة الإسلام للبشرية جمعاء.
قد قدَّر الله تعالى، في صورة من صور الإعجاز العلمي الفريد، خَلْقَ أدوات ووسائل تلقِّي العلم وتحصيله، وهي: الجهاز السمعي، والبصري، والأفئدة وهي: العقول؛ قال تعالى: ﴿
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [السجدة: 9]، ففي قوله ﴿
سَوَّاهُ ﴾ إشارة إلى تمام الخَلق، وفي قوله: ﴿
السَّمْعَ ﴾، إشارة أيضًا إلى تهيئة الجهاز السمعي بالكامل للعمل قبل الولادة، وكذلك بنفس الترتيب القرآني، وهذا ما أثبته العلمُ الحديث، ومنه تستخلص حقيقة أن الأجنَّة يدركون الأصوات التي يسمعونها وهم في أحشاء أمهاتهم، كذلك المولود حينما يؤذَّن ويقام عند أذنه، يكون مدركًا لهذه النداءات ومميزًا لها، وعندما يتقدَّم في النمو يترسَّخ هذا الصوتُ بمعناه عنده، تقريرًا لمفهوم الفِطرة عند المولود.
وقد أجْرَتْ بعض مراكز البحوث بعض الأبحاث على مجموعة من الأجنة، فوجدت أنهم يُقبِلون على الرضاع بصورة إيجابية مضاعَفة عند سماع الأصوات المحبَّبة التي كانوا يسمعونها وهم في بطون أمَّهاتهم، وأنهم يَنقبِضون ويُضرِبون وتقل شهيتهم للرضاع عند سماع الأصوات التي كانت تَنقبِض منها الأمهات، وهذا يجعلنا نشعرُ من فعل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم "
الأذان والإقامة"، حتى يظلَّ الصوت مألوفًا إلى نفسه، محبَّبًا إلى قلبه، فيُمثِّل لدى الطِّفل نوعًا من الحصانة القلبية والنفسية من وساوس الشيطان[4].
والمولود عند ولادته يكون صِفرًا من المعلومات، وفي ذات الوقت يَكون مزوَّدًا بوسائل الإدراك الثلاثة سالفة الذِّكر؛ السمع، والبصر، والفؤاد، وهي مهيَّأةٌ وقابلة للعمل فور الولادة، وأقواها وأشدُّها استعدادًا للعمل هو الجهاز السمعيُّ؛ قال تعالى: ﴿
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78]، فاستحبَّت الشريعة الإسلامية أن يكون أول عملها هو تلقي شِعار الإسلام.
وللعلماء في أسرار التأذين والإقامة أقوال؛ نذكر منها:
قال الإمام ابن القيم في تحفة المودود: "وسرُّ التأذين - والله أعلم - أن يكون أول ما يقرَع سمع الإنسان كلمات النداء العلويِّ المُتضمِّنة لكبرياء الرب وعظمته، والشهادة التي أول ما يَدخُل بها في الإسلام فكان ذلك كالتلقينِ له شعارَ الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يُلقَّن كلمة التوحيد عند خروجه منها، وغير مُستنكر وصول أثَر التأذين إلى قلبِه وتأثيره به، وإن لم يَشعُر، مع ما في ذلك من فائدة أخرى، وهي: هروب الشيطانِ من كلمات الأذان، وهو كان يرصده حتى يولَد فيُقارنه للمحنة التي قدَّرها الله وشاءها، فيسمع شيطانه ما يُضعِفه ويَغيظه أول أوقات تعلُّقه به.
وفيه معنًى آخر: وهو أن تكونَ دعوته إلى الله وإلى عبادته سابقةً على دعوةِ الشيطان، كما كانت فطرةُ الله التي فُطرَ عليها سابقةً على تغيير الشيطان لها ونقله عنها ولغير ذلك من الحِكَم"[5].
وقال الدهلوي: "الأذان من شعائر الإسلام، وأعلام الدِّين المحمدي، ثم لا بد من تخصيص المولود بذلك الأذان، ولا يكون إلا أن يُصوَّت به في أذنه، وأيضًا فقد علمتَ أنَّ مِن خاصية الأذان أن يفرَّ منه الشيطان، والشيطان يُؤذي الولد في أول نشأته"[6].
ويقول محمد قطب: "ومِن حكمة الأذان أيضًا أن الرأس بالنسبة إلى الإنسان هي مُستودَع الحواسِّ التي تتحكَّم في كيانِ المولود نفسيًّا وجسديًّا مِن سَمعٍ وبصر، وشم وذوق، وحين يكون الأذان بمضمونه من التكبير والتوحيد أول ما يَطرُق السمع، مع أن الوليدَ في تلك الفترة لا يُدرك شيئًا، فإن واعيتَه تَحتفِظ بالنَّبرات والتقطيعات؛ فانسكابُها كالماء الصافي الرقراق في الآذان يُوافِق الفطرةَ كل الموافَقة، ويسدُّ على النفس مآرب الشرك، ويَحميها منه"[7].