الدنيا تحمد وتذم لا باعتبار الزمن ، ولكن باعتبار العمل الذى
يقوم به أهلها ، فإن منهم من يعمل لها فحسب ، ولا يعمل للآخرة شيئا .
ومنهم من يعمل للآخرة عملاً لا يبلغه المنزل الذى يسعى إليه الأبرار ، ويجعل الدنيا مبلغ همه ، ومنتهى أمله .
ومنهم من يسعى لها سعيها ، ولا يبالى بالدنيا أقبلت عليه أم أدبرت عنه ، وأنت خبير – بعد هذا التقسيم – من يحمد فيها ومن يذم .
فقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الدنيا حلوة خضرة " يفيد أمرين :-
الأول : أن لها حلاوة ما ، على نحو ما ، بقدر ما ، لشخص ما ، فى زمن ما ينبغى أن يتمتع المؤمن بقدر ما يكتب الله له منها ، ويشكر ربه على ما آتاه من فضله ، فبالشكر تزداد النعم .
الثانى : أنها سريعة الزوال ، لأن الخضرة لا تلبث أن تفسد أو تيبس أو تضمحل . فليأخذ المرء حظه منها ، ويرضى به ، فالرضا أعظم المقامات الإيمانية على الإطلاق ، ليس بعده مقام يطلب . والراضون هم خير البرية ، وهم الذين بدأهم الله بالرضا ، فكان الفضل منه أولاً وآخراً .
وقوله – صلى الله عليه وسلم-: " وإن الله مستخلفكم فيها " معناه أن الله تبارك وتعالى قد خلق آدم وذريته لعمارة الأرض وإصلاحها مع التفرغ لعبادته والإخلاص فيها ، واعتبار العمل الصالح جزءاً منها .
وإصلاح الأرض وعمارتها عمل صالح يقوم على التوحيد الخالص ، وبذلك يكون لهذا العمل قدرة وقيمة ، وإلا كان هباء لا خير فيه ، ولا طائل تحته .
وقوله – صلى الله عليه وسلم - : "فينظر كيف تعملون " . معناه : فيكتب عملكم ويحصيه لكم ويجزيكم به . هذا هو المعنى اللائق بجلاله ، فهو يعلم أحوال عباده فلا يحتاج إلى نظر ولا استبدلال .
وقد جعل الله لعباده مشيئة واختياراً لا يخرج عن مشيئته واختياره – جل شأنه – فمن أراد الهدى هداه الله ، ومن أراد الضلال أضله الله .
وقوله –صلى الله عليه وسلم - :" فاتقوا الدنيا " أى اجعلو لأنفسكم وقاية من غرورها وخداعها بالزهد فيها ، والكف عن الغلو فى طلبها ، واجعلوها لأنفسكم دار ممر ولا تجعلوها دارمقر ، واستعينوا على ذلك بطاعة الله تعالى وبكثرة الذكر والدعاء ، ولا تنافسوا فيها مع المتنافسين ، واتركوها لهم إن غلبوكم عليها، واجعلوها مزرعة للآخرة ومنطلقاً إليها ، ولا تنسوا نصيبكم منها ، والزموا العدل والوسطية فى مأكلكم ومشربكم وملبسكم وفى شأنكم كله ، وأكثروا من ذكر الموت وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا .
وقوله -صلى الله عليه وسلم –" واتقوا النساء " هو من باب عطف الخاص على العام ، فإن النساء من خير متاع الدنيا ، ولهذا بدأ الله بهن فى ذكر متاعها.