بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة اللهوبركاته
في يومٍ أشرقت فيه شمس الإسلام والسلام ، واستنار الكون بنور الهُدى .
حين نزل جبريل بالوحي مِن الله جل جلاله على نبيه عليه الصلاة والسلام ، ليُعلِن انتهاء ليل الجاهلية وعبادات باطلة ، وليتجّه الناسُ لعبادة ربِّ السماوات والأرض .
أشرقت الشمس ، ومعها بدأ الكَدّ والعمل ؛ ومعها بدأ نصبٌ يلاقيه المسلمون في سبيل الله ..
فيشتدّ الإيذاء ، وتُعلَن الحرب النفسية والجسدية على المسلمين في مكة
فكان الرؤوف الرحيم عليه الصلاة والسلام يمرّ بقومه فلايملِك إلا أن يصبّرهم ويعدهم بالجنات ..
فكان أصحابه يصبرون ويستبشرون ويرجون مِن الله ما لا يرجوأهل الكُفر .
فلما بلغ الأمر ذروته ،وبدأ المسلمون يرجُون النصر والعلوّ ، أتاهم الإذن بالهجرة إلى المدينة ، بعد أنهاجروا هجرةً أولى إلى الحبشة ..
ومع الهِجرة بدأت تباشير الفَرَج تلوح في أُفق كل مَن وحّد ربّه ، وأعلنها مدويّة أن لاإله إلا
الله ، فتبدأ وفود المسلمين بالتسابق والفِرار بالدِّين مِن قومهم وأرحامهم وذويهم !
ويبقى عليه الصلاة والسلام في مكة ، لم يرحل ، ولم يبرحْ أرضَ قومه الذين نالوا منه ومِن أصحابه ، وينتظِر إذنًاخاصًا له مِن الله ليهاجِرَ ويلقى أصحابه في أرض النخيل أرض يثرب .
ويبقى معه صاحبه وحبيبه أبو بكر – رضي الله عنه – الذي قال عنه عليه الصلاة والسلام[ ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناهما خلا أبا بكر ، فإن له عندنا يدا يكافئه الله بها يوم القيامة ،
وما نفعني مال قطما نفعني مال أبي بكر ، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ألا وإن صاحبكم خليل الله ]قال الترمذي : حديث حسن غريب .
فينتظِر عليه الصلاة والسلام ، ثم يأتيه الإذن ، فيخرج إلى صاحبه ويخبره الخبر فبكى – رضي الله عنه – مِن الفرَح ، لم يبكِ لأنه سيخرج فارًّا بدينه ، بل بكى فرِحًا بالصُحبة التي سيصحبها ..
فهو رفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في سفره ،فحُقَّ له أن تدمعَ عيناه استبشارًا بهذه الرِفقة في السفر .
لن أتحدّث عن مواقِف أبي بكر – رضي الله عنه – في هذهالرحلة المباركة ..
ولكن سأفتح صفحةً مِن كتاب أخلاقه عليه الصلاة والسلام ،لنعيش معًا ذلك الموقف اللطيف مع أبي بكر .
خرج الاثنان مهاجران إلى المدينة ، حيث سبقهما المسلمون هناك ..
خرجا هربًا وعيونهم ترقب ، وقلبيهما يسألان الله النجاة ،لأنّ محمدًاعليه الصلاة والسلام متوعَّدٌ بالقتل مِن بني قومه .
فيجدان ذلك الغار المهجور ليختبئ فيه ، فيدخلان إليه لعلّهما يأمنا على روحيهما مِن البطش والفتك ..
لكن سرعان ما تتحرك عيون قريش وأرجلهم ليلحقوا بهما فيقفون على فتحة الغار ، فيرتعِد أبو بكر ويخاف أنينظروا محل أقدامهم فيرونهم فيقتلون صاحبه وتنتهي الدعوة ، فتتحرك شفتاه بهمس معخوف فيقول : " يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحتقدميه " .
فيأتيه ذلك التطمين مِن الرسول عليه الصلاة والسلام ، وتأتيه كلمات مِن حبيبه عليه الصلاة والسلام ليهدأروعه وتطمئن نفسه ويرتاح فؤاده ، فيقول عليه الصلاة والسلام " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما " (رواه مسلم) .
يالله مِما فعله عليه الصلاةوالسلام ، وكيف استطاع بجملته أن يسحب كل خوف سكن في نفس أبي بكر – رضي الله عنه - .
لم ينهره عليه الصلاة والسلام ، ولم يسخر به ، ولم يقلل مِن حجم خوفه ..
بل طمأنه وسكّن فؤادهوأراح قلبه بكلماتٍ يسيرات ، جعلت أبا بكر يرتاح ويهدأ روعه .
فمَن يأتيني بمثل أخلاقه عليه الصلاة والسلام ، ويفعل فِعله ؟
فالإنسان في حل الكَرب والشِدّة، وفي حال الفزَع مما في المستقبل ، يحتاج لمثل هذا الدَفْع وهذا الثبات .
يحتاج مَن يقول له معنى جملة : " ماظنك باثنين الله ثالثهما " ، لتستكين نفس الحزين ويطمئنّ قلبه ، وليشعُر أنَّ هُناكمَن يشعرُ به ويعلم به ويقدّر مشاعره ويعلم ما تختلجه نفسه مِن آلام .
إنّ شعور المكلومب مثل هذا القُرب وهذا الفَهم يخفف عنه لواعِج حُزنه ، وتفطّرَ كبده مِن حزنه ،ويجعله يجِد صدرًا حانيًا يحتويه ، وقلبًا عطوفًا يسمع له .
أمّا احتقار المشاعِر ، أو وصف صاحبها بصفة المبالغة في المشاعر ! أو تهميش دواخله ، كلُّ هذا مما يزيد الحُزنَ حُزنًا
وقد قيل :
ولا بُدَّ مِن شكوى لذي مروءةٍ = يواسيكَ أو يسلّيكَ أويتوجّعُ
***- *
صلّى عليك الله يا علمَ الهُـــدى = واستبشرت بقدومكَ الأيامُ
هتفت لك الأرواحُ مِن أشواقِها = وازّينت بحديثـــــــكَالأقلامُ
كم كان يواسي ، كم كانيؤازِر، كم كان يساعِد ..
فيتألم لألمال متألِّم ، ويشعر بشعور الضعيف ، فيجري في عروقه شعور غيره ولو لم ينطِق ذلكالإنسان .
فهذا أبو هريرة يخبرنا بموقفع جيب ، فلنستمع ما يقوله أبو هريرة – رضي الله عنه – حيث يقول :
" والله ; إن كنت لأعتمد على الأرض من الجوع ، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع ; ولقد قعدت على طريقهم ، فمر بي أبوبكر ، فسألته عن آية في كتاب الله - ما أسأله إلا ليس تتبعني - فمَرَّ ، ولم يفعل ،فمَرِّ عمر ، فكذلك ، حتى مر بي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فعرف ما في وجهيمن الجوع " . (مِن كتاب سير أعلامالنبلاء) .
اللهم صلِّ وسلم على نبيك وزديا ربُّ ..
يقول : " عرف ما في وجهي منالجوع " ، فأيّ سموّ في الأخلاق وأيّ مشاعرٍ أوتيها عليه الصلاة والسلام؟؟
لم يقف مع المصرّح المحتاج ، بل تعدّى عليه الصلاة والسلام حتى إلى المحتاج الصامت ! فيقرأ معالِم وجهه ويعرِف حاجته .
فكم بيننا اليوم مَن يقول بقلبه :
ليــــلٌ طـــــويلٌوضوءُ البدرِ مبــــتورُ = والحُزنُ في صفحـــةِ الوجدانِمسطورُ
كم قائلٍحين يلقاني ، وفي شفتيْ = طيفُ ابتسامٍ ، وفي وجهي تباشيرُ
هذا السعيدُ، فما في عيشه نكـــــدٌ = هذا الذي صـــدْرُهُ بالبِــــشرِ معمــــورُ
هذا الذي شبعـــــتْ أعماقُــهُفَـــــرَحًا = فنفسُهُ عــــــــذبةٌ والقــــلبُ مسرورُ
يقـــــولها، ما درى عــمَّاأُكـــــــابدُهُ = من الهـــــــمومِ، فمطويٌّ ومنشــــورُ !
يقـــولها، مادرى أني عــلى كَــمدي = أطوي فــــــؤادي، وأنِّ الحُزنَ مطمورُ !
فنجده يكابِد ، ويعاني ،ويموت كمدًا وما درى عنه أقرب قريب !
ولربما صرّح بمعاناته ، فلا يجِد إلا تقليلاً مِن شأنحُزنه أو قد يُلام ويُقرَع على صِدق مشاعره !
بينما عليه الصلاة والسلام كان يحتوي الجميع ويسمع مِنالجميع ويحس بإحساس الجميع .
للأسف أننا نفتقِد أذنًا وقلبًا وعينًا مثل ما كان عليه ، عليه الصلاة والسلام ، ولايوجَد هذا الخُلق إلا في نوادِر الناس ! ، ويكاد لا يكون علانيةً يُرى في الناس ،لقلّته ونُدرته .
فنشأ عن هذا النقص ،أناسٌ أصابهم الضغط النفسي ، فكتموا وكَبتوا ودفنوا أحزانهم في دواخلهم فأصبح لهمنفسيات مضطربة ،وطاقات مكبوتة تُخرِج أنفاسًا ملتهبة معأدنى موقف ! فنرى مَن صفته (العصبية) الزائدة عن الحد وغير المعقولة ،ولا يوجَد في بيتهم مثله ، ولو فتّشنا في داخله لرأينا حُزنًا عميقًا يكتمه لم يجِدله (ذا مروءةٍ) ليسمَع منه .
ونرى مَن جفّت منابِع نشاطه ، أو قلّتخُلطته، وما ذاك إلا لحُزنٍيكتمه .
ومِن الناس مَن لا يجِد في نفسهرادِع الخوف مِن الله، فيتجّه لعلاقات محرّمة يفضفض مِن خلالها معاركه الداخلية ،وكم مِن فتيات حين سُئلنَ لماذا وقعتنَّ في هذا الحرام ؟ قلنَ : نبحث عن عاطفةٍ وقلبٍ يسمعنا !
فلنمضِ معًا نحو قلوبالناس ولتحتوي قلوبُنا قلوبَهم ، ولنسمع ونستمع ، ولنشارِك ، فإنّ القلب السامِعيبرّد حرّة الحُزن حتى يأتي الله بالفرَج .