علاج الغضب في العصر الحديث:
بعد فترة طويلة من الدراسات المضنية لعلماء النفس، وكم هائل من الخبرات والتجارب والاستقراء للعديد من الحالات، ومراقبتها وإخضاعها للفحص المخبري والنفسي والعصبي، تمكن بعض العلماء من تحديد وسائل وأساليب لعلاج حالات الغضب التي تصيب الإنسان، والتي زادت في الوقت الحالي بشكل كبير قد تصل بصاحبها ليس للغضب الشديد فحسب بل ربما لما يسمى الانتحار بسبب كثرة الضغوط النفسية والاجتماعية وتأثير الحضارة المادية على النفس والعقل.
ينصح علماء الطب النفسي الأشخاص الذين يتعرضون إلى نوبات الغضب إلى تمارين خاصة تؤدي إلى نتائج مذهلة، هذه التمارين تسبب استرخاء في الذهن يؤدي إلى انطفاء نار الغضب وإخماد الثورة العصبية، منها أن يعدّ الشخص من 1ـ 2ـ 3 .. وحتى 30 قبل أن ينطق بأي حرف، كما يوصي الطب الحديث كل من يتعرض للغضب الشديد والانفعالات النفسية بالاسترخاء قبل إطلاق العنان للجوارح واللسان، وهذه الحقيقة الطبية كان لها بالغ الأثر في الوقاية من أخطر الأزمات عندما يوفق المرء في تمالك نفسه عند الغضب(45).
لذلك كان اقتراح الخبراء للجميع ألا يغضبوا لأبسط الأسباب في الحياة، هذا من جهة ومن جهة أخرى من الضروري أن يتعلم الناس بعض الأساليب الفعالة للتخلص من الغضب وطرد العواطف السلبية من نفوسهم، ويقدم الخبراء للجميع بعض اقتراحاتهم ونصائحهم التي تتمثل فيما يلي:
1. أسلوب الابتعاد وهذا يعنى أن الإنسان الغاضب يجب أن يبتعد بسرعة عن المكان أو الإنسان الذي أثار غضبه ويلجأ بسرعة إلى مكان هادئ لممارسة عمل جديد، وهذا بالضبط يقابله الأمر بالوضوء والاستلقاء أو الاضطجاع كحل عملي سريع لإذهاب الغضب.
2. أسلوب الصرف وهو عبارة عن تجاذب الأحاديث مع الأصدقاء والشكوى لهم مما يعانيه من الغضب والمشاكل لطلب المساعدة منهم مع صرف الغضب والعواطف السلبية الأخرى من أعماق النفس، وكذلك ما ذكرناه من العد من 1 – 30 ، ولعل هذا يقابله التعوذ بالله من الشطان الرجيم والتزام الذكر.
3. أسلوب التحول يجب أن يخرج الإنسان الغاضب من الغرفة فور غضبه، ويذهب إلى الطبيعة أو يستمع إلى مقطوعة موسيقية ذلك لتحويل انتباهه النفسي إلى أشياء أخرى تخفف شدة غضبه وتخلصه من عواطفه السيئة بالتدريج، ويدخل هذا مع النوع الأول كحل سلوكي أو عملي .
4. أسلوب تهذيب النفس ويتضمن هذا الأسلوب ممارسة بعض الهوايات الشخصية الفنية كأداء الغناء أو التدرب على الخط أو عزف مقطوعة موسيقية بآلة موسيقية أو ممارسة أعمال أخرى لتخفيف حدة الغضب وطرد العواطف السلبية(46)، وهذا يقابله بتعبير شرعي مجاهدة النفس كالجلوس والسكوت وصرف التفكير عن سبب المشكلة إلى صيانة النفس من الانفعالات وما يتبعها من تشويه للشكل والشخصية على حد سواء وازدراء الآخرين منه وبالتالي يتمكن من لجم نفسه المنفلتة وترويضها .
مما تقدم نرى أن العلم الحديث لم يأت بشيء جديد لهذا الداء الخطير - والذي استشرى بين الناس كما بينا أسبابه في مقدمة هذا الموضوع- وإن كل ما ذكر من وسائل لعلاج الغضب إنما هي وسائل بدائية بسيطة تعتمد في غالبها على محاولة إبعاد الغاضب عن مكان المشكلة ومحاولة تغيير تفكيره بما يبعده عن المعاودة والاسترسال، إلا أن كل تلك الوسائل - وإن كانت متشابهه إلى حد ما فيما بينها إن لم تكن هي واحدة سوى التغيير في التعبير الإنشائي فيما بينها - هي أيضا غير ناجعة في كثير من الأحيان إن لم يصاحبها عزم من الغضبان نفسه لتغيير حالته التي هو فيها، وهذا هو الفرق بين هذه الوسائل الحديثة وبين ما ذكرناه من وسائل علاجية نبوية قادمة من الوحي المنزه من كل عيب.
وجه الإعجاز:
لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا بحكمة إلى ضبط الانفعال عند الغضب قدر المستطاع محاولاً أن يأخذ بأيديهم إلى جادة الصواب وحفاظاً على صحة أبدانهم من المرض والتلف، لكنه عليه الصلاة والسلام كان يعلم في نفس الوقت طبيعة النفس البشرية، ويعلم أن الإنسان لحظة غضبه قد لا يقوى على كتم غضبه، خاصة إن كان يغضب لله أو لعرضه أو ماله، فإذا به يصف العلاج قبل أن يستفحل الغضب، وقبل أن يقدم الغاضب على فعل لا تحمد عقباه.
يؤكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"(47), يحث فيه النبي صلى الله عليه وسلم على كظم الغيظ وكتمه وهي وسيلة لو استخدمها الغضبان وحافظ عليها بدل الاستماع إلى مقطوعة موسيقية أو الخلود إلى حديقة هادئة أو العزف أو التدرب على الخط ، وليت شعري أنى يتحقق كل هذا لإنسان لو شبهته بمجنون لما أخطأت لأنه في حالة غليان واضطراب وثوران لا يمكن له أن يفكر وهو في حالته تلك أن يخرج للحديقة – إن وجدت – أو العزف – إن كان يعرف العزف – أو مكان هادئ - مع تعذره – لأنه بحاجه لعلاج سريع يناسب الداء وهو الغضب ولا أعتقد أنهم جاءوا بأفضل مما جاء به نبي الرحمة من وسائل علاجية رائعة سريعة التأثير وفي نفس الوقت ممكنة التطبيق .
هذه الحقيقة في مجال الطب النفسي اكتشفها نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم حين أمر الغاضب أن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم - بدلا من أن يعد من الواحد للعشرة أو للثلاثين - وهذا واضح من مفهوم الآية الكريمة: { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الأعراف: 200] فكان هذا السبق العلمي منه - صلى الله عليه وسلم - من أوجه الإعجاز التي لم تظهر إلا في هذا العصر ، وإلا فما الذي أدراه بأن هذه الهرمونات تزداد بالوقوف ، وتنخفض بالجلوس والاستلقاء ، حتى يصف لنا هذا العلاج النبوي؟(48) فمن علم النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الهرمونات تزداد بالوقوف وتنخفض بالاستلقاء حتى يصف هذا العلاج ؟ .. لا شك أنه وحي يوحى إليه، عليه الصلاة والسلام.
ولعلي بهذه المناسبة أتقدم بطلب لكل العلماء المسلمين المتخصصين في هذا المجال ومن له علاقة بالعلوم النفسية والفسيولوجية والتشريحية مستخدمين الوسائل الحديثة والتقنية في أبحاثهم بشكل أكثر دقة ومصداقية ليكتشفوا الأسرار العملية والثمار الواقعية لما تسببه وصايا العلاج بالهدي النبوي كالوضوء والاستلقاء والتعوذ من الشيطان ، ومحاولة كظم الغيظ وذكر الله والسكوت وغيرها حتى تكون أبحاثنا ودراساتنا ذات عمق علمي رصين وحقائق قاطعة نؤيد بها مصداقية الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
إعداد: قسطاس إبراهيم النعيمي
14/2/2008م
مراجعة علي عمر بلعجم.