مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فلم تزل سيرة نبينا محمد r محلا لعناية أمة الإسلام جيلا بعد جيل، وقرنا بعد آخر، كما أنها لم تزل موردا عذبا ومعينا صافيا لاستلهام الدروس والعبر في مختلف المجالات: عقيدة وشريعة ومنهجا وتربية وسلوكا، وكان من عناية العلماء بها ما هو معلوم ومشهود بما لا يشابه هذه السيرة سيرة أحد من الخلق على الإطلاق.
وفي هذا السياق أقدم هذه المقتطفات من بيت النبوة بما يظهر جوانب معينة من سيرة المعصوم r مما يتصل ببيت النبوة الوارف.
وفي هذه المجموعة التي بين يديك اقتطفت أربع مجموعات من كتابي الكبير "بيت النبوة" ونظمتها في هذه المجموعات الأربع:
1- الطفولة في حياة المعصوم r .
2- لمحات من حياة النبي r مع بناته.
3- لمحات من الحياة البيتـية للنبي r .
4- لمحات من زواج المصطفى r بأمهات المؤمنين.
وإني لأسأل الله تعالى أن ينفع بهذه المجموعة، وأن يجعلها في ميزان حسناتي وحسنات والدي، وأسأله سبحانه أن يجعلها مدنية من مرضاته وسببا لدخول جناته. آمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
* * *
صفحات من طفولة المعصوم r
عندما نتوقف للبحث في طفولة المصطفى r ، وبرغم قلة ما تم تدوينه ورصده بشأنها، مقارنة بمراحل حياته الأخرى، فإننا نجد أن هذه الطفولة قد امتزجت فيها صفحات من الابتلاء والأحزان والآلام بسبب فقد الأحبة، ولكن كان لهذا الإنسان الذي فقد أقرب نفسين إليه: والديه في وقت مبكر من حياته، كان له من العناية الربانية والحفظ الإلهي والإرهاصات ما يبين عظم شأن هذا القادم الجديد.... جنينا .... ثم طفلا، وما قبل ذلك وما بعده، وقد قال الله تعالى له: }فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا{([1]) أي: "بمرأى منا، وتحت كلاءَتنا، والله يعصمك من الناس" ([2])، فقد كان الله تعالى يهيئه للرسالة الخاتمة والتي سيحمل لواءها ويتولى بلاغها.
بشارة الأنبياء ببعثة أفضلهم:
قال الله تعالى مخبرا عما دعا به رسوله موسى عليه السلام: }وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{([3]).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: هذه صفة محمد r في كتب الأنبياء، بشروا أممهم ببعثه، وأمروهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم.اهـ([4]).
وقال الله جل وعلا: }وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ{([5]).
فعيسى عليه السلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد أقام في ملأ بني إسرائيل مبشرا بمحمد، وهو أحمد، خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي لا رسالة بعده ولا نبوة.
روى الإمام أحمد وغيره عن العرباض بن سارية السلمي ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله r يقول: « إني عبد الله في أم الكتاب لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل ([6]) في طينته، وسأنبئكم بتأويل ذلك: دعوة أبي إبراهيم ([7])، وبشارة عيسى قومه ([8])، ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام ([9])، وكذلك ترى أمهات النبيين صلوات الله عليهم»([10]).
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "المقصود من هذا الحديث أن نبوة النبي r كانت مذكورة معروفة من قبل أن يخلقه الله ويخرجه إلى دار الدنيا حيا، وأن ذلك كان مكتوبا في أم الكتاب من قبل نفخ الروح في آدم عليه السلام، وفسر "أم الكتاب" باللوح المحفوظ، وبالذكر، في قوله تعالى: }يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ{([11])" اهـ ([12]).
المولد الشريف ومقدماته ([13]):
اختار الله تعالى لنبينا محمد r أبوين شريفين كريمين، أما عبد الله بن عبد المطلب فقد كان أحب أبنائه العشرة إليه، وكان له في قريش حب ومكانة أثيرة، وقد بات ملء السمع والأبصار عقب حادثة نذر عبد المطلب ([14])، وما جعل له من الفداء العظيم، وكان محلا لرغبة قريش كل يرجو مصاهرته، لكن عبد المطلب وهو سيد قريش والخبير بأنسابها وأعراقها اختار له فتاة شريفة جليلة، كانت صفوة نساء قريش وفتياتها، إنها: آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة ([15])، وكنت ذات مكانة في قريش لا يكاد يدانيها فيها أحد من فتياتها.
وتمَّ ذلكم الزواج الميمون، وما هي إلا أيام معدودة حتى سافر عبد الله في تجارة له إلى الشام، وبعد أن قضى شغله منها رجع ومر بأخوال أبيه عبد المطلب وهم بنو النجار بالمدينة، وقدر أن يمرض بها، فعاد رفاقه وبقي هو، فأرسل والده عبد المطلب أكبر بنيه وهو الحارث ليرجع به، ولكن ما أن وصل الحارث المدينة حتى علم بوفاة أخيه عبد الله.
ولما بلغ الخبر مكة فجعوا به.... فجع به أبوه، وفجعت قريش، غير أن أعظم الأسى كان في نفس الزوجة الأثيرة آمنة.... التي لم تهنأ بزوجها إلا أياما معدودة.
هكذا توفي عبد الله، وفي هذا الوقت لم يكن سيد الخلق إلا جنينا في بطن أمه، وهذا أبلغ ما يكون في اليتم، قال الله تعالى: }أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى{([16]).
وقد ترك عبد الله إثر موته خمسا من الإبل، وقطيعا من الغنم، وجارية هي أم أيمن بركة الحبشية، فكان ذلك هو جملة ما يمكن أن يرثه ذلك الجنين اليتيم والسيد الكريم المنتظر: محمد r .
ثم مضت أيام الحمل وشهوره، لتتابع ما تراه آمنة من أمور واكبت حملها من رؤى منامية تنبئ عن قادم عظيم، ومن مشاعر تختلف عما يجده الحوامل من النساء، ولم تزل أشهر حملها تتتابع، تترقب هذا الوليد الذي لم تجد في حمله أي وحم أو وهن أو ألم، حتى حلَّ ذلكم الأجل، عندما دنا فجر يوم الاثنين، الثاني عشر ([17]) من ربيع الأول عام الفيل ـ الموافق لسنة (570) أو (571) للميلاد ـ حيث حل بالأرض ما يؤذن بدنو المولد المبارك، وفي هذا تقول فاطمة بنت عبد الله والدة عثمان بن أبي العاص الثقفي: إنها شهدت ولادة النبي r حين وضعته أمه آمنة، وكان ذلك ليلا، قالت: فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نور، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو، حتى إني لأقول: ليقعن عليَّ([18]).
وما أن وضعت آمنة بنت وهب وليدها المبارك حتى رأت أرجاء البيت وما حوله تتلألأ نورا وضياء، وبهذا جاء الحديث الصحيح: «أن أم رسول الله r رأت حين وضعته نورا أضاءت منه قصور الشام»([19]).
فكان بذلك مولد سيد البشر، وخير الأولين والآخرين: محمد r ، السراج المنير الذي أضاء الله به دياجير الظلمات التي عمَّت الأرض آنذاك.
وكان ذلك النور الذي أضاءت له الأرجاء عند وضعه إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض، وزالت به ظلمة الشرك منها، كما قال تعالى: }يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{([20]). وقال تعالى: }الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{([21]).