«أشعر بالملل» عبارة يردّدها معظم الأطفال، ويسمعها الأهل في كثير من الأحيان، فيقدّمون اقتراحاتهم إلى أطفالهم كي يتخلّصوا من الملل ومن تذمرهم في الوقت نفسه.
وإذا فشلت كل الاقتراحات، يكون التلفزيون أو اللعب بالألعاب الرقمية آخر الحلول.
وفي المقابل، يجد اختصاصيو التربية وعلم نفس الطفل أن شعور الطفل بالملل ليس أمرًا سيئًا، بل يتيح له التفكير وتطوير أفكاره، فالبرنامج اليومي الحافل بالنشاطات من لحظة استيقاظ الطفل حتى ساعة نومه، قد يبطّئ التطور الشخصي لناحية تصور ذاته، وتحديد أفكاره وبلورتها. ومع ذلك يبقى سؤال: ولكن ما هو سبب ملل الطفل؟
هناك أسباب عدة لشعور الطفل بالملل
- فقد ينتج الملل من نشاط الطفل المفرط بسبب الألعاب الرقمية التي يمارسها لمدة طويلة، أو بسبب مشاهدة التلفزيون المستمرة. فغالبًا، الطفل بعدما ينتهي من لعبته المفضلة، أو بعد مشاهدة برنامجه التلفزيوني يشعر أكثر بالملل.
- عندما يستبعد الأهل أطفالهم من الأعمال اليومية في البيت أو حتى الأمور التي تعلم الطفل معنى الاستقلالية في تدبر شؤونه. مثلاً ترتيب غرفته بدلاً منه، أو توضيب ألعابه، أو تحضير سندويش... كل هذا كفيل بأن يجعله يشعر بالملل، فهو ينتهي من اللعب ولا يجد عملاً يقوم به.
- عندما لا يُسمح للطفل بابتكار لعبة تسليه. مثلاً يرغب في تحويل شرشف سريره إلى خيمة كشفية، فتغضب الأم وتطلب منه ترتيب السرير، في الوقت الذي يكون فيه سعيدًا بالفكرة التي ابتكرها. لذا من الطبيعي بعد حرمانه من ابتكار اللعب أن يشعر بالملل.
- برنامج يومي حافل بالنشاطات. هناك العديد من الأطفال، حتى الصغار جدًا، لديهم القليل من الوقت ليتعلموا كيفية تنظيم أمورهم وتقرير ماذا يريدون فعله. وبالتالي يبدون عاجزين عندما يكون لديهم وقت فراغ، ويشعرون بالملل.
ويؤكد اختصاصيو التربية أن الملل يسمح للطفل برؤية الحقيقة بشكل مختلف وملاحظة تفاصيل انفلتت منه أثناء انشغاله، فهو بسبب الملل يراقب مثلاً مسار قطرة من المياه في المغسلة أثناء غسل يديه أو يلاحظ أن النملة تتقدم ببطء.
ويمكن بعد ذلك أن يخترع قصة حول قطرة الماء أو عالم النمل إذا ما أُتيحت له الفرصة لعيش هذه اللحظات وحده.
وهذه خمس قواعد على الأهل اعتمادها لمواجهة شكوى الملل عند أطفالهم
القاعدة الأولى: عدم الاستجابة الفورية لطلبه!
كما كل الأطفال، يجد الطفل طريقه الى ابتزاز أهله، ولا سيما والدته، ويمر بين حين وآخر بمرحلة من التأفف والشكوى، فتسمع منه عبارة «ماما أنا ضجران لا أعرف ماذا عليّ القيام به»، ويبدو أنه مكتئب، مما يُشعر الأم بالعجز، فتحاول جاهدة لجعله سعيدًا. وهذا رد فعل خاطئ تقوم به غالبية الأمهات، مما يجعلهن تحت وطأة الضغط المستمر لأجل الترفيه عن أبنائهن.
لذا ينصح الاختصاصيون الأمهات بعدم الاستجابة الفورية لأطفالهن إذا ما شكوا شعورهم بالملل، بل على الأم أن تقتنع بأن بعض الملل ضروري للطفل للأسباب التي ذُكرت آنفًا.
لذا فبدل الإسراع في إيجاد البديل الترفيهي، عليها ألا تتردد في توتيره بشكل إيجابي، وفي مواجهة تأففه يمكن أن تقول له: «أنا منشغلة حاليًا، وخلال ذلك يمكنك الاختيار بين الرسم أو الاستماع إلى الموسيقى أو اللعب بالليغو، وعندما أنتهي من عملي، سوف نرى معًا ماذا يمكن أن تفعل ». فمن خلال تأجيل تنفيذ طلبه، تجعل الأم طفلها يدرك أن كل رغباته لا يمكن تحقيقها فورًا، فهو لن يتعلّم احترام انشغال أهله الموقّت وحسب، وإنما يدرك أن عليه إعمال فكره ليشغل وقت فراغه.
القاعدة الثانية: دعيه يجد الحل بنفسه!
كما ذكرنا سابقًا، يبلور الملل مخيلة الطفل ويكشفها. فبعد مرور بعض الوقت على المتاعب والتذمر والتأفف، ينتقل الطفل إلى مرحلة الإبداع. وبمجرد أن يفهم أن لديه الوقت لتطوير أفكاره، سوف يبدأ بتطبيقها. لذا على الأم أن توفر له الأدوات التي تمكّنه من ترجمة أفكاره حسيًا مثل ألعاب الليغو، أو دفتر رسم وأقلام تلوين...
وفي المقابل، يحذّر الاختصاصيون الأم من أن تطلب من طفلها مشاهدة التلفزيون أو اللعب بالألعاب الرقمية، فهما إضافة إلى أنهما مضيعة للوقت، يمتصان انتباه الطفل بشكل كامل ويُضعفان قدراته الفكرية.
القاعدة الثالثة: مساعدته على تطوير الروابط الاجتماعية!
إذا كان الطفل يشعر بالملل، يمكن الأم مساعدته في نسج علاقات اجتماعية. صحيح أن اللعب وحده مسألة ضرورية، ولكن لا يجوز اعتماده كأنّه الحل الوحيد، بل كجزء من تعليم الطفل في ملء أوقات فراغه واكتشاف ذاته.
لذا من الضروري تنمية قدرة الطفل على بناء علاقات اجتماعية من خلال تشجيع الأم طفلها على دعوة أصدقائه إلى المنزل وتنظيم سهرة بيجاما وتحضير وجبات خفيفة يساعد الطفل في تحضيرها... فهذا يطوّر لديه حس اللباقات الاجتماعية وكيفية التحضير لحدث مهم.
القاعدة الرابعة: التحقّق من معنويات الطفل!
صحيح أن ترك الطفل يتأفف ويتذمّر من ملله مسألة مفيدة، ولكن من جهة أخرى يجدر بالأم التحقق من معنويات طفلها إذا كان قد تعرّض لمشكلة تتعلق بأحدهم، مثلاً غياب صديقه المفضّل بسبب السفر، ففي هذه الحالة لا يجوز إهمال الرسالة التي يحاول أن ينقلها.
فقبل ترك الطفل ينغمس في الشعور بالملل، على الأم «جس النبض» ومعرفة ما إذا كان مزاجه سيئًا، أو يعاني ألمًا داخليًا، فالملل في هذه الحالة قد يؤدي إلى سوء حالته الذهنية، ويزيد شعوره بالكآبة.
فالطفل بطبيعته كائن اجتماعي، والانكفاء على ذاته، وعدم رغبته في التواصل مع الآخرين، قد يؤديان به إلى الكآبة الشديدة. لذا على الأم التحقق من معنويات طفلها، والعمل على إخراجه من حالة الكآبة، وتوفير النشاطات التي تجعله يشعر بأن في إمكانه الاستمتاع بوقته من دون رفيقه الذي سافر.
القاعدة الخامسة: إيجاد وقت خاص بين الأم وطفلها
إذا كانت الأم مضطرة لترك طفلها يلعب وحده يومًا كاملاً أو حتى ساعات عدة، عليها إعداد نشاطين أو ثلاثة يقومان بها معًا. مثلاً إعداد الحلوى، أو قراءة قصة طريفة، ومشاهدة الرسوم المتحركة والرسم معًا... هذه الأوقات الجيدة سوف تسمح له بأن يعيش الملل خلال النهار بهدوء، ويدرك أنه شغل وقته بالفرح وروح الدعابة. إذ لا يجوز أن يأتي وقت النوم والطفل يشعر بأن يومه كانمملاً ولم يفعل خلاله أي شيء، فهذا الشعور يدخله في نفق الكآبة.
لعب الطفل وحده يساهم في تطوير قدراته وثقته بنفسه
غالبًا يشعر الكثير من الأطفال بالملل إذا لم يكن هناك أطفال آخرون يلعبون معهم. وهذا طبيعي، فكل الأطفال يمرون بتجربة الملل، لكن المشكلة في كيفية تلقي الراشدين شكوى الملل والتفاعل معها، وكذلك عدم قدرة بعض الأطفال على التحكم فيها. فالمجتمع المعاصر يعطي قيمة كبيرة للوقت، وينظر الى الملل بشكل سيء، وعدم معرفة الطفل ماذا عليه أن يفعل، يعني خسارته للوقت. عندما يقول الطفل إنه ضجران، يحاول الأهل إشغاله بأي ثمن من خلال إيجاد نشاطات مهمة يمارسها.
لذا فاكتساب الطفل مهارة اللعب وحده من دون شريك، مسألة مهمة. فهذا النوع من اللعب يعلمه اتخاذ القرار في ما يتعلّق بشؤونه الخاصة، ويسمح له باختيار ما يهمّه، وبالتالي تطوير استقلاله الذاتي الذي يجعله يعمل من دون حاجة مستمرة إلى الآخرين، فيستعمل مهاراته الشخصية، ويستمع إلى عالمه الداخلي، ويدرك رغباته وذوقه، مما يسمح له بتطوير خياله وملكة الإبداع لديه.
وفي المقابل، لم يتعلم بعض الأطفال اللعب وحدهم، ربما لأن ليس لديهم إخوة، ولا يمكن أن يكون لديهم أصدقاء موجودون معهم طوال الوقت. إذا كان هذا هو الحال، يمكن الأم مساعدة طفلها الوحيد من خلال المشاركة في نشاطاته. قد يبدو ذلك أمرًامتناقضًا، ولكن إذا كانت الأم تريد لطفلها أن يتعلم اللعب وحده، عليها أن تبادر بالخطوة الأولى.
كيف؟ هذه نصائح يمكن الأم اتباعها: - البدء بنشاط مع طفلها، مساعدته في البداية، ثم الابتعاد. مثلاً عندما تكون الأم وطفلها في الغرفة نفسها، يمكن في البداية أن تقترح عليه بناء قصر من المكعّبات، تبدأ معه ثم تقول الآن دورك! أو مثلاً تقترح عليه الرسم، فتجلب له دفتر الرسم، وتبدأ بالخطوط ثم تعلّق: «أما الآن فدورك في اختيار الألوان ...».
- السماح له بمواصلة النشاط وحده. فعندما ينسجم الطفل في اللعب الذي ابتكره بمساعدة والدته، يمكن الأم الانسحاب من الغرفة. فهو سوف يتعلم اللعب بشكل جيد وابتكار تفاصيل جديدة في لعبه، مما يعزّز ثقته بقدراته، وتطوير استقلاليته.
- الاقتراح على الطفل رسم لوحة أو ابتكار تذكار، مثلاً بطاقة تهنئة أو زهرية، وتقديم عمله لشخص محدّد يحبه، فهذا الاقتراح يحفزه على الإبداع.
وعندما تتعزززززززززززز ثقة الطفل بنفسه، سوف يلعب وحده في الغرفة من دون الحاجة إلى الآخرين. ولكن على الأم أن تتذكر دائمًا أن اللعب من دون شريك هو جزء من تعليم الطفل الابتكار وملء وقت فراغه، ولا يجوز أن يصبح الوسيلة الوحيدة.