كان ينساب إلى منزله وهو يرزح تحت عبئ من الإجهاد الذي تكاثف عليه - هولاً - في يوم عصيب ، وكان يُمني نفسه في هنيهات الشقاء براحة قصيرة يستمدها من واحة الأمان الضائعة عن مساحات عمره .. لكنه سرعان ما توقف أمام هول المفاجأة الجاثمة عند حدود خطواته ، فراح يتأمل المكان باستغراب ، ويحتضن الأجواء ال
محيطة به وكأنه يقتحم ليلة من ليالي الحلم المستحيلة .. لم يكن يصدق ما يرى ، ولا بد أن إجهاد العمل المتواصل قد زين له في خياله أوهاماً بات يراها حقيقة .. ولا بد وأن قوىً خفية قد اختطفته إلى دنيا الأماني ، فانتعش لتدفق الحلم وراح يوزع حدقاته على الشموع والأضواء الخافتة .. وعلى الزهور العطرة المتناثرة في كل ركن من أركان المنزل .. حتى المائدة المنسقة والمزينة بأطايب الطعام بدت له وكأنها وليمة رائعة استحضرت من عالم مترف وأنيق .. إلى أن استقرت أهدابه على المرأة الفاتنة التي وقفت تنظر إليه بلهفة وتنتظره بابتسامة عذبة .. هنالك همس إلى نفسه موبخاً وهو يتراجع إلى الوراء بخطوات مترددة ومتحفزة للهرب :
- ماذا فعلت أيها الأحمق .. إن هذا المنزل ليس بمنزلك .. !
ولكن المرأة جمدته مكانه بترحيب رقيق :
- أهلاً .. يا عمري ..
هذا الصوت .. هذا الصوت ليس بغريب على مسمعه ..
فرك عيناه ، وسأل بحرج وهو ما زال يعد ساقاه للانطلاق :
- من أنت ؟
أجابته بدلال وضحكة مجلجلة ساحرة جعلته يرتعش :
- ماذا بك يا عزيزي .. أما عرفتني ؟!!
يا إلهي .. إنها زوجته .. لا .. لا يمكن أن تكون هي ، فزوجته واجمة عابسة ذات شعر أشعث وهيئة مزرية ..
- زوجتي .. هل أنت زوجتي ؟ ولكن ماذا فعلت بنفسك يا امرأة ؟
سألها وهو يتأمل أناقتها الجذابة وتسريحتها الرقيقة ، ثم التفت حوله وبدأ يتكيف قليلاً مع واقعه الساحر :
- وما كل هذا ؟
أمسكت بيده تشده إلى أقرب مقعد كالمشدوه ، ثم قالت وهي تجلس عند قدميه :
- كل هذا من أجلك يا أعز الناس ، لقد أعددت لك اليوم ما لذَ وطاب من الطعام والحلويات ..
سأل بهلع :
- لماذا .. وما المناسبة ؟
- وهل يجب أن تكون هناك مناسبة لأفعل ما أفعله الآن ؟!
قال يسكب وجعه عبر كلمات محرقة :
- نعم .. وغالباً ما تكون مناسباتك السعيدة ، لا ناقة لي فيها ولا جمل ..
وتابع يهطل عليها بوابل من السخرية :
- كما أن هذه الشاعرية ليست من سماتك .. وأنا لم أتعود منك قط هذه اللمسات الحالمة !
ثم أكمل بحنق :
- فأنت لا تجيدين سوى الشجار .. والنكد .. ورائحة البصل .. !
- كنت مخطئة ..
فاجأته بندمها وأردفت تعده :
- ومنذ اليوم وصاعداً .. لن تجد مني إلاّ ما يرضيك .
تضخمت دهشته ، حاول أن يلطم ذهوله بانتباهة مقنعة ، أو يسترجع في ذاكرته سبباً لهذا التحول الخطير .. ولكن دون جدوى ، كان الحدث قد استعصى على استيعابه .. فصرخ :
- أريحيني .. لماذا تفعلين ذلك ؟
قالت هامسة :
- سنتحدث بعد العشاء .. !
لكنه كان يتقوقع في مجاهل الحذر ، فقال معانداً :
- بل .. سنتحدث الآن ..
- كما تشاء يا حبيبي ..
وأردفت تدخل إلى صلب الموضوع بقولها :
- كنت فقط أريد أن أذكرك بأمر النقود .. !
- أية نقود ؟ ..
- الخمسة آلاف ريال التي ستدفعها لي كي ..
ضرب على جبينه متذكراً :
- آه .. كي تشتري العقد الذي أعجبك ..
- أجل يا حبيبي ..
والتقط مفاتيحه .. وقفز كالملدوغ .. قال :
- كنت أعلم بأن هذه الشاعرية المصطنعة لك تخفي كيداً .. بل شركاً .. ولكني لن أستسلم لكيد النساء .. لا .. لن أفعل .. !!!
وصرخ وهو يقترب من الباب :
- ألا تفهمين بأن امكانياتي لا تسمح .. ألا تفهمين ؟! ..
استشعرت هي اليأس في لحظة ، وأدركت بأن تجربتها معه قد فشلت ، فنادته باستجداء وهي تلحق به تهدئ من حدته :
- حسناً .. حسناً .. كما تريد يا عزيزي ، ولكن لا تخرج الآن .. !
قال بريبة يبدد سحب الغضب المتجمعة في الأفق :
- يعني .. ؟!
- يعني لن أرغمك على شيء .. طالما أنك لا تستطيعه !!
وسألها من جديد متشككاً :
- وهذه الحفلات والولائم الشاعرية .. هل ستتوقف ؟
قالت بصدق :
- لا .. وأعدك بتكرارها .. ولن يكون وراءها أية مآرب أخرى !
وبعد عشاء لذيذ .. وحديث شهي ، همس لها من وراء الشموع منتشياً :
- سأحاول أن أبحث عن عمل إضافي .. حتى أشتري لك كل ما تريدين !! ..