كنت أول مرة أزور جارتي. رأيتها في الخامسة والثلاثين، الابتسامة لا تفارق وجهها، وقد اجتمعت حولها بناتها الأربع، وأكبرهن كانت تناديها "عطرة" شارفت على العشرين، باسمة الثغر حيية خجولة لا تهدأ من طلبات أمها وأخواتها. فتارة تقوم بواجب الضيافة، وتارة تعمل رضعة للمولودة الصغيرة، ومرة تأخذها في حجرتها تهدهدها لتنام، وتأتي بالدواء لامرأة كبيرة في السن تناديها جدتي، وكلما أنهت عملاً التصقت بأمها تهمس لها، وقد تلاقى رأساهما في زينة واحدة، وكذلك ثوبيهما وما تلبسانه من حلي وذهب، وكأنهما في حبهما لبعضهما طفلان صغيران لم يتجاوزا السابعة من العمر يتجاذبان ويتضاحكان.
قالت جارتي مشيرة لثلاث طفلات التصقن بـ "عطرة": هؤلاء بناتي أمينة، فاطمة، جمانة، وهذا علي، وهذا محمد، وتلك العجوز المريضة أمي، تسكن معي منذ مرضت لأرعاها. أردت أن أسأل عن الشابة عطرة فسبقتني وقالت: عطرة جارتي أو ضرتي كما يقال!!
عقدت الدهشة لساني، وألجمتني المفاجأة فاتسعت عيناي وفقدت النطق لحظات أو هكذا خيل إلي، وقلت بتعجب: والله لا أحسبها إلا ابنتك.
ضحكت عطرة الزوجة الجديدة وزادت التصاقاً بضرتها كما تلتصق الابنة بأمها، وأضافت أم محمد: لقد زوجت زوجي بعد أن خطبت له ؛ لأن عندي خمس بنات اثنتان متزوجتان وهؤلاء ثلاث وطفلان، ويريد زوجي مزيداً من الأولاد الذكور، والكل تعجب من عدم غيرتي !! ولماذا أغار؟ إنه زوجها كما كان زوجي وكما هو الآن لم ينقص منه شئ، وهو يعدل بيننا، وكل واحدة لها غرفة، وفي النهار يجمعنا بيت واحد، وقد زادت محبة زوجي لي.
قالت الزوجة الجديدة: لا تظني كل الضرائر مثلنا، فبعضهن لا يستطعن رؤية ضرائرهن، وهناك نساء يتضاربن مع ضرائرهن أو يصل الأمر إلى التعذيب، وكل هذا يعود إلى الزوج عندما لا يعدل، وربما إلى الزوجة عندما لا تعقل.
قالت أم علي: نحن نؤمن بالقضاء والقدر، وأن الله شرع للرجل أن يتزوج بأربع، ولكن أخبريني ماذا تفعلين أنت إذا تزوج زوجك؟
لم أجب وأعتقد أن وجهي أجاب بألوانه المتعددة وخرسي الفوري.
فركت عيني واستأذنت وشددت على يدي جارتي لأتأكد أني لست في حلم، وعدت إلى زمن نساء الصحابة وأمهات المؤمنين وقلت في نفسي: لله در الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره، كم يحفظ لنا من ديننا وصحتنا واتزان أنفسنا: (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) (11) فالقضاء إذا وقع: "من رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط". (12)
اللهم أفرغ علينا صبراً ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، ورضنا بقضائك.
عدت إلى المنزل وحدثت زوجي معجبة بصبر المرأة وإيمانها وأخلاقها، وما زلت لا أصدق ما رأيت بأم عيني!! (13)
قالت إحداهن:
نعم .. إنه نموذج رائع للنساء .. ولكنه نموذج أروع للرجال فحين يعرف الرجل لم يعدد ..؟ وكيف يعدل..؟ وتكون تقوى الله شعاراً له ولها فمرحباً به والضرائر الثلاث..
أما حين لا يعرف أبسط قوانين التعدد ولا يقيم ميزان العدل إنما تقوده نزواته إليه كما تقاد الشاة إلى مسلاخها فلا مرحباً بهن .. ولا به أيضاً!.
وقلت معقباً:
الشرع محكم، والعدل منصف، والعقل زينة والعاطفة نعمة، فإذا اتبع الرجال والنساء الشرع، وأقاموا العدل، وضبطوا العاطفة بالعقل وتحرروا من الأعراف الخاطئة، والعوائد الجائرة فحينئذ ينعمون ويسعدون.