كانت تنزوي في المقعد الجاثم عند المدخل الرئيسي للصالة ، كمن لا حيلة له وسط ضباب الأفق القاتم .. تتجهم للغموض المتلاحق على جبين الأحداث اليومية - في حياتها - بمستجدات غريبة ..
لم تكن تفهم تلك المعاني المبهمة في السلوكيات الأخيرة لزوجها ، ولم تشأ أن تغوص في أعماقه ، أو تنبش أفكاره .. حتى لا يصفعها بمفاجأة لعينة .. فتركت الأيام تحل لها لغز اعتكافه عنها .. في حين كانت أعصابها تزداد توتراً .. وقلقاً ، حيناً بعد آخر !
تنهدت بمرارة ، وقالت محدَّقة في الباب المغلق في آخر الردهة :
- آه .. لو أعرف ما يجري هناك !!
خطر لها - وسط حيرتها - أن تقوم من فورها وتقتحم حجرته لتقف على ما يدور بين جدرانها من أسرار ، لكنها سرعان ما تراجعت حين داهمها طيفه الواجم ، مذكراً إياها .. بأوامره الصارمة :
" لدي عمل هام .. ولا أريد أن يزعجني أحد ! "
كل يوم لديه عمل هام .. وكل يوم ينأى بجانبه عنها وعن أطفاله .. أي عمل هذا الذي يدفنه في أحشاء عزلته لساعات طويلة ! .. وأي عمل يجعله يزهد بكل شيء .. حتى بطعامه وشرابه .. !
أدركت أن ثمة سر خطير في الأمر ، فوسوست لها الهواجس بظنون جعلتها تنتفض :
- لا .. هل يعقل أنه يخطط لزواج جديد ؟! ..
ارتعشت وشحب لونها حتى شعرت بالدوار .. لم تقدر على الصبر أكثر من هذا .. فقفزت من مقعدها تفتش عن محاولة ناجحة لاقتحام المكان وبأي وسيلة .. وجاءتها أفكارها .. بخطة جهنمية !!
بدأتها بكوب من الشاي الساخن مرفقاً بطبق أنيق من البسكويت المزين بالقشدة ، ثم مرت بحجرتها بسرعة لتغير من هيئتها ، وتُغدق على أنوثتها بأناقة صارخة ..
راحت تحدثه - في همس - وهي تضع أحمر الشفاه : الويل لك يا عبد الرحمن إن كنت تنوي الزواج ..
ثم وهي تكز على أسنانها ، وتسرح شعرها بطريقة تعجبه :
- الويل .. والويل لك !
زجرت أفكارها أمام باب حجرته .. ثم رسمت على محباها ابتسامة رائعة ، وانسابت بعجلة إلى الداخل حتى لا تسمح لصوته بأن يأمرها بالعودة .. كانت تسير بسرعة كبيرة حين توقفت في منتصف المسافة ورسمت على جبينها علامة تعجب هائلة ..
هل تصدق ما ترى ! أم أنها ظلمته !!
بدا لها مخلوقاً آخر وهو منكمش على نفسه فوق مكتبه ، ومستغرقاً في عمل لا تدري - هي - ماهيته .. كان أشعث الرأس ، طويل الذقن .. يرتدي نظارة على عينيه ويضع الأخرى على قمة رأسه ، في حين كان يكتب بقلم ويعلق غيره فوق أذنه الشمال .. وكتب وملفات - وأجهزة حساب تبعثرت حوله بفوضى عجيبة !!
همست لنفسها بدهشة وهي تكمل سيرها نحوه :
" ترى .. ماذا يفعل هذا الرجل ؟ "
لكنها توقفت من جديد ، حين سمعته يتمتم بعبارات غريبة :
- إذن الشهر الثالث : دعوة إبراهيم + مصروفات أحمد في المستشفى + ثوب جديد لطلال + إصلاح السيارة .. يساوي ..
" هل يمكن أن يسجن نفسه من أجل هذه الحسابات فقط ! "
شعرت برغبة عارمة في الضحك من هواجسها المجنونة .. لكنها تماسكت ، ونادته تنبهه لوجودها :
- عبد الرحمن !
كان مستغرقاً في أرقامه حتى أذنيه ، فلم يسمعها .. كررت النداء هذه المرة وبصوت أقوى :
- عبد الرحمن ..
رفع إليها رأساً يكتنفه الدوار .. وتجهم لانتهاكها حرمة أوامره ، فاستدركت الوضع وقالت بدلال ومكر :
- لقد قلقت عليك .. ورأيت وقد انقضى عليك زمناً في مكتبك ، أن خير وسيلة لإنعاشك هو كوب من الشاي الساخن ..
وأردفت وهي تتوقف بمحاذاته :
- وقلت لنفسي لا بد وأنك تشعر بالجوع الآن ، لذا أحضرت لك قليلاً من الحلوى التي تفضلها !
ساورها الفضول من جديد وهي تنظر إلى الأوراق المتناثرة .. من فوق كتفه فسألته :
- ماذا تفعل .. ؟
أجابها بضجر .. مستنداً بجسده المنهك إلى ظهر المقعد :
- إنني أحاول أن أحل اللغز .. !
- أي لغز هذا .. ؟
سألته بلا مبالاة .. بينما أخذ هو يفسر لها المسألة بغيظ :
- لغز المعاش الذي بات يتبدد مني بعد انقضاء أسبوعين فقط من استلامه ..
وتابع يضرب المكتب بقبضته :
- لغز الديون التي بدأت تتراكم فوق رأسي .. والشكاوي التي بدأت تلاحقني .. !
ضربت على صدرها تسأله بذهول :
- ديون .. وشكاوي ، لماذا ؟ .. !
- أتريدين أن تعرفي لماذا .. اسمعي !
التقط ورقة من كومة الأوراق أمامه .. وراح يقرأ لها محتوياتها بصوت غاضب :
- أجور المنزل والخادمة والمدارس الخاصة ، فواتير الكهرباء والتليفون والمغسلة ، ملابس جديدة وإكسسوارات شهرياً ، حفلات وولائم لصديقاتك .. هدايا باهظة لجاراتك وقريباتك .. اشتراك نادي .. اشتراك شهري في المطاعم ، لأن حضرتك تأنفين من الطهي ..
حدقت به :
- ما شاء الله .. إذن أنا الجانية الوحيدة وسط هذه المشاكل ..
وأكملت تكيل عليه بالتهم :
- ولماذا لم تذكر مصروفاتك الشخصية ، ودعواتك الأسبوعية لأصدقائك .. لماذا لم تذكر الأجهزة المختلفة والساعات والعطور التي تشتريها بين الحين والآخر .. لماذا تلقي باللوم علي وحدي .. ؟!
قال بضيق يائساً :
- لأنك شريكتي في الحياة ، وسيدة هذا المنزل .. وعليك أن تشاركيني أعباء الإنفاق وتنظيمها .. ؟
قالت بعناد :
- مهما يكن .. لست وحدي المسؤولة ..
أجابها معترفاً :
- أنا لا أنكر بأن كلانا مخطئ في مسألة الإسراف .. ولكن ..
رمى القلم من يده بعصبية ، قائلاً بعد زفرة طويلة :
- ولكن هذه الفوضى في الإنفاق يجب أن تتوقف ، وإلاّ وجدت نفسي في النهاية .. في موقف لا أحسد عليه !!
قالت .. تصطاد في الماء العكر :
- اقترحت عليك مراراً بأن أعود إلى عملي .. وأنت الذي كنت ترفض ..
صاح محذراً :
- لن تعملي .. ولن أعود لمناقشة هذا الموضوع ثانية ، حتى لو غرقت في الديون إلى هنا !
أشار إلى جبهته .. وأردف بكبرياء :
- لست أنا من يتطلع إلى أموال زوجته .. أو مساعدتها !
وقال ساخراً :
- ثم أن عملك لن يحل المشكلة أبداً يا سيدتي ، بل سيزيدها تعقيداً .. هذا لو وضعنا في الاعتبار مصروفاتك الشخصية اليومية من ملابس وحلي وأجر سائق وغيرها .. بالإضافة إلى أولادنا الثلاثة الذين سيقعون ضحية للخادمة ، وللمشاكل التي ستنشأ وتتفاقم بسبب تغيبك عن المنزل ..
قالت بامتعاض .. تغير الموضوع :
- إذن .. ما هو الحل برأيك ؟
دار من وراء مكتبه دورة كاملة ، وراح يتسكع في أحضان الحجرة ، وبعد هنيهة قال :
- الحل الوحيد ، هو أن نضع ميزانية منظمة للإنفاق الشهري ..
- وماذا يعني هذا ؟
قال برجاء :
- يعني أن نقتصد قليلاً في مصروفاتنا .. حتى نتجاوز الأزمة ..
أجابته بغرور :
- إن مستواي الاجتماعي ، لا يسمح لي أن أظهر أمام صديقاتي بمظهر المرأة المقتصدة .. أو المغلوبة على أمرها .. !
سألها ، يصب عليها بعبارات ساخنة :
- أليس ذلك خيراً من أن تظهري أمامهن بمظهر السيدة البائسة الذي سجن زوجها بسبب ديونه .. ؟
ارتجفت لتعليقه فجلست تفكر بالأمر ملياً .. وبعد دقائق جاءها صوته متسائلاً :
- ها .. ماذا قلت ؟
نهضت واقتربت منه باستسلام : حسناً .. كما تريد ..
وهمست إليه صادقة :
- وكما دللتني في الرخاء .. فلن أتخلى عنك في الشدة !!!