الكثير من الناس لايسمحون لأنفسهم بالتواجد في هذا الكون دون أن ينتهوا إلى قناعة مطلقة بحقيقة هذا الكون ، وبكل ما يوجد فيه ، وبمن أوجده ، ومن سينهيه ، وكيف سينتهي ، وماذا بعد أن ينتهي الكون !
إن هؤلاء الناس الذين يعتنقون هذه الأفكار ، ويسعون نحو إدراك الإجابة على تساؤلاتها العظيمة والمثيرة والمحيرة بل المعجزة ، يوجدون في أي زمن ، وفي أي مكان ، ولكنهم يعتبرون أنفسهم يوجدون في هذا الكون لأول مرة وبمفردهم ، وكأنهم يبدأون حياتهم ، ثم يطلقون لأفكارهم العنان دون قيود أو ضوابط على الإطلاق .
وهؤلاء الناس الذين يألون على أنفسهم مسئولية البحث في تلك المسائل الكبيرة ، لا يرغبون في البحث والتوصل إلى الحقائق من أجل نشر العلم ، بل يتمثل هدفهم الرئيس في إقناع أنفسهم ، والاستمتاع بالوصول إلى الحقائق التي تشفي صدورهم .
وهم يملكون عقولاً لا يستهان بها ، ونفوساً عظيمة ، وأهدافاً سامية ، فهم في نهاية المطاف يبحثون عن فاتحة الوجود ومدخل الحياة ، فالوجود فاتحته من أوجده ، والحياة لا يتم الولوج إليها إلا من خلال علم من أوجدها ، ولماذا وُجدت ، وما مآلها ، وييقنون بأنه لا يليق بهم أن يوجدون في وجود لا يدرون عنه ما يجب أن يُدرك ، ويحيون حياة لا يعرفون عنها ما ينبغي أن يُعرف ، ويعتقدون بأن الإنسان الذي يوجد في الحياة ولا يفكر في سبب وجودها ومآلها يحي ناقص العقل تافهاً ، ويموت ولا قيمة لحياته التي قضاها كأي موجود لا عقل له ولا نظر .
إن الفارق بين هؤلاء الناس ومن سواهم هو العقل بملكاته وتفاعلاته ، فالعقل يثير التساؤلات ويقود ملكاته ويفعّلها من أجل الإجابة عليها ، فكل الناس يملكون العقول ، ولكن لا يستخدمونها جميعاً بكامل ملكاتها ، ولا يوجهونها نحو فك رموز المبهم من التساؤلات والمعضلات .
إن الإنسان لو انطلق إلى الفراغ اللانهائي وفق رؤيته ، وجرّد عقله وقلبه من أية معتقدات وجلس يفكر ويتأمل ، وأطال التأمل والنظر ، واستغرق في ذلك طويلاً وعميقاً ، ففيما سيتأمل ويفكر ، وكيف سينظر هذا الإنسان للوجود من حوله ، أليس كل إنسان في هذا الوجود ، في أي زمان ، وفي أي مكان ، حري به أن يدخل في هذه الخلوة الفكرية العميقة ، ويخوض رحلة البحث عن إجابات عن أسئلة كبيرة ، لا تستقيم الحياة ، ولا تهدأ النفس ، ولا تسكن الجوارح ، إلا بالوقوف على تلك الإجابات ، والتأكيد عليها والتثبت منها .
لقد فعل الناس ذلك في كل العصور ، وفي كل مكان من كوكب الأرض ، ولم نعلم إلا عن القليل منهم ، وعن القليل مما توصلوا إليه ، ومن أشهر ما عُرف ، ومتفق عليه ، وما زال يتردد من ذلك القليل : من أوجد هذا الكون ؟! ومن حافظه وصاحب الفعل فيه ؟! وكيف سينتهي ؟! وماذا بعد أن ينتهي ؟! .
لقد عزمنا عزماً أكيداً على أن نخوض رحلة مثيلة ، نستهل بها هذا العمل ، ونؤسس بها للانطلاق نحو حياة نعتقد ونيقن أنها الأقوم والأرشد ، لقد أفرغنا عقولنا وقلوبنا من كل فكرة ، وشرعنا في رحلة البحث عن كل ماتقدم ، لنتمكن ونمكّن لأنفسنا من اليقين الذي يتوق إليه كل البشر ، وهو التعرف إلى الذات الإلهية العلية الجليلة التي أمدتنا بالمنهج الذي يترقى بكلية وجودنا إلى الأسمى والأقوم ، حتى نؤول إلى الخالق العظيم ونحن في كنف الطاعة والقبول والرضا .
ماذا عن هذا الوجود الذي نحي في رحابه ؟! وماذا عنا ، ومن نكون ، ولماذا ؟! ومن أوجد الوجود ؟! ومن أوجدنا فيه ؟! هذه هي الأسئلة التي تطالعنا وتقفز إلى أذهاننا ومداركنا أول مانعي على الحياة ، ونعاين الوجود من حولنا ، الإنسان .. المخلوق المجادل والمثير للجدل ، الكون المليئ بالظواهر المألوفة والغريبة ، ثم العلم الذي ينبع من الإنسان ويوجّهه نحو الكون والوجود وما بهما ، وما خلفهما من حقائق وعلل !! من هذه الثلاثية نبدأ ثم ننطلق ، في رحلة البحث والتأمل والتدبر ، في الوجود وما وراءه ، وفي الإنسان ومن خلقه !! وفي واجد كل ذلك والمهيمن عليه وقابضه إليه .
وما مدى قدرة هذا الواجد العظيم ؟! وماذا عن علاقته بالموجودات التي أوجدها ؟! كيف يعرّفها بذاته ، وكيف تتعرف هذه الموجودات إليه وعليه ؟! .
وكيف نصل إلى واجدنا ونتعرف إليه ؟! وكيف تكون علاقتنا بواجدنا بعد أن نصل إليه ونتعرف عليه ؟! وأين سينتهي بنا المآل ؟! وما علاقتنا مرة أخرى بواجدنا الخلاق العليم بعد أن تنتهي حياتنا ؟! .
وما هو مآل الوجود ، هل هو إلى ما لا نهاية ، أم إلى نهاية ، وإذا كان إلى نهاية ، فكيف ستكون ، وماذا بعد تلك النهاية ؟!! .
تُرى هل نحن مأمورون أو مضطرون للتفكير في وجود الإله ، وفي التعرف إليه ، وعلم ذاته ، وفقه صفاته ، وإدراك أفعاله ، ووعي أسمائه ، أم أن الإقدام على تلك الأفعال هو محض اختيار ، لا يُقدم عليها ولا ينبري لها إلا القليل من الناس ؟ وما جزاء من يفعل ذلك ؟ ومِن أين يأتي الجزاء ؟ مِن عند الإله بعد التوصل إليه ، أم هو جزاء ذاتي خاص نابع من إشباع غرور النفس بإحراز أهم نجاح يمكن أن يحققه أنسان في حياته .
وبعد الوصول إلى الإله رغبة وطوعاً ، هل نحن مجبرون على تحمل التكاليف التي يحملنا إياها ، أم نحن مخيّرون في قبول أو رفض تلك التكاليف ، هل الإله سيرضى عن من يتحمل تكاليفه طائعاً مختاراً ؟ هل سنتفرغ لتكاليف الإله ؟ ونعكف عليها ونعتزل الحياة ؟ أم ننصرف إلى الحياة ونلهو بها ونعبث بما فيها وكفى ! أم يمكن أن نوازن بين الفعلين : نتحمل تكاليف الإله حباً وكرامة ، ونعيش الحياة ونعمُرها مستلهمين في ذلك إرشادات وتوجيهات الإله الخالق العظيم من خلال تكليفاته ! إنها أسئلة محورية جوهرية ، يتعين على كل من يسلم لله ويؤمن به أن يفكر فيها ، ليس ذلك فقط ، بل يبحث عن إجاباتها في قرارة نفسه وعميق تفكيره ، ويعي تلك الإجابات لأنها سوف تحدد مستقبله ومآله .
من العقل مجرداً إلا من ذاته ، بدأنا هذه الرحلة الأزلية الأبدية ، وبصحبة ذات العقل ، وبقيادته وتحت إمرته ، كابدنا البحث عن الحقيقة المطلقة : وجود الخالق الواجد ، متوسلاً بمنهج وضعه ذلك العقل ، فكيف كانت الرحلة ، وماذا كانت النتيجة ؟! وإلى ما انتهى المطاف ؟ .
إنه لم يكن من المنطقي أن نشرع في هذا العمل الموسوعي الموسّع الذي يطرح رؤية الإسلام في كافة شئون الحياة بوصفه منهجاً للترقي بكلية الوجود الإنساني دون أن نتعرف إلى الإله الخالق العظيم شارع الشِرَع وواضع المنهج بعمق وتفصيل وتدقيق ، بل ونستكن في معيته جلّ وعلا ، نتأمل ونتدبر ونستقرئ ونستنبط ، فذاته الجليلة العلية مقصدنا وغايتنا ، وشرائعه موضوع درسنا وبحثنا ، واستنباط منهجه في الحياة همنا ، لأن ذلك المنهج هو الذي يترقى بكلية الوجود الإنساني .