تفسير سورة الناس
الحمد لله الذي من أسمائه الرَّحمن، خالق الإنسان، ومنزِّل القرآن، ومُردفه بالبيان على لسان نبيِّه العدنان، الحافِظِ له بفهم الأَعلام صحابةِ خير الأنام، عليه وعلى آله الصلاة والسلام.
وبعد:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ﴾ [الناس: 1 - 6].
سورة الناس مكيَّة؛ أي: نزلَت على النبيِّ صلى الله عليه وسلم قبلَ الهِجرة، عدد آياتها ستٌّ، الجزء الثلاثون، السورة الرابعة عشرة بعد المائة والأخيرة في ترتيب المصحف، وسمِّيَت بسورة الناس لتكرار لَفظ الناس في آياتها.
وسبب نزولها:
ما رواه البيهقيُّ في كتابه "دلئل النبوية" أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قد مرض مرضًا شديدًا جدًّا، فجاءه ملَكان ليداوياه، فجلس أحدُهما عند رأسه، والثاني جلس عند رِجليه صلى الله عليه وسلم، فسأل الذي عِند رجليه الملَكَ الذي عِند رأسه ماذا يرى؟ فأجابه الملَك: "طب"، والطبُّ هو السِّحر، وأنَّ الذي سحرَه هو لَبيد بن الأعصم اليهوديُّ، وأنَّ هذا السِّحر في بِئر آل فلان تحت صَخرة، فذهبوا إلى المكان، وأخلوا ماءَه ورفعوا الصخرةَ التي يُوجد تحتها السِّحرُ، وأحرقوه، ولمَّا أصبح الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم في اليوم التالي أرسل عمَّار بن ياسر مع جماعة ليأتوا بهذا السِّحر، فوجدوا ماءه كماء الحنَّاء، فأزاحوا الماءَ ورفعوا الصخرةَ مرَّة أخرى وأحرقوها، وقد كان فيها إحدى عشرة عقدة، وكلَّما كان الرسول يَقرأ آيةً من هاتين السورتين كانت تنحلُّ عقدةً إلى أن فكَّ السحر كله.
والمقصد منها:
الدَّعوة إلى توحيد الله تعالى والالتجاءِ له والتحصُّن والاعتصام به من شُرور شياطين الجنِّ والإنس.
وفضلها:
ما رواه الإمامُ مسلم في صحيحه عن عُقبة بن عامرٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ألم تر آياتٍ أُنزلَت الليلة لم يُرَ مثلُهُنَّ قطُّ: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ [الفلق: 1]، و﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾ [الناس: 1])).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فِراشه كلَّ لَيلة جمعَ كفَّيه فنفثَ فيهما، فقرأ فيهما: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1]، و﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ [الفلق: 1]، و﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾ [الناس: 1]، ثمَّ يمسح بهما ما استطاعَ من جَسده، يبدأ بِهما على رأسه ووجهِه وما أقبَل من جسده.
وهي من السوَر التي يُرقى بها من السِّحر والمسِّ، والعَين والأوجاع؛ فعن عائشة رضي الله عنها أيضًا: "أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يَقرأ على نفسه بالمعوِّذات ويَنفث، فلمَّا اشتدَّ وجعه كنتُ أقرأ عليه وأمسح عنه بيده رجاء برَكتهما".
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾؛ أي: ربِّ نفسك على الالتجاء والتحصُّن والاعتصامِ بخالِق الجنِّ والإنس ومالكِهم ومدبِّر شؤونهم، وادع الناسَ إلى ذلك، فـ﴿ قُلْ ﴾: فِعل أمرٍ مبني على السُّكون، فيه إشارة إلى وجوبِ الدَّعوة إلى الله، قال تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]، وقال أيضًا: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 159، 160] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((بلِّغوا عنِّي ولو آية))، وقال أيضًا: ((مَن سُئل عن علم فكتمَه أُلجم يوم القِيامة بلجامٍ من نار)).
والفاعل ضَمير مستتِر وجوبًا تقديره أنتَ، يفيد شرفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وشرف مُتَّبع القرآن؛ لأنَّه ضمير خطاب، وخطابُ الله شرَف للمخاطَب، ويفيد أيضًا استحضار القلب والعَقل عند سَماع القرآن والسنَّة وأداء العِبادات؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9]، وقال أيضًا: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [محمد: 24].
وهذه المنزلة إذا ربَّى الإنسان نفسَه عليها قد توصِله إلى مَنزلةٍ أعلى؛ وهي الإحسان، الذي فسَّره النبيُّ صلى الله عليه وسلم في قوله: ((أن تعبد اللهَ كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك)).
ومعنى ﴿ أَعُوذُ ﴾؛ أي: ألتجِئ وأَعتصم وأتحصَّن، يفيد وجوبَ اعتمادِ العبد على ربِّه واستمراره على ذلك في جميع الأحوال؛ لأنَّ الفعل المضارع يفيد الاستمرار.
الربُّ: من أسماء الله الحسنى، وهو لغة: المربِّي والسيِّد، وشرعًا: هو المتفرِّد بالخَلق والمُلك والتدبير.
ويدخل - والله تعالى أعلم - في لفظ الناس "الجن والإنس"؛ كما ورد عن بعضِ الصَّحابة؛ لأنَّ أصله النِّسيان، وهو صِفة للجنِّ والإنس، أو يكون أصله الأُنس، والجن والإنس يَستأنسون بغيرهم.
ومن معاني هذه الآية الكريمة أنَّ من صِيغ الاستعاذَة بالله من الشيطان الرجيم ﴿ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾.
﴿ مَلِكِ النَّاسِ ﴾؛ أي: حاكِم الجن والإنس والمتصرِّف فيهم؛ فالملِك من أسمائه الحسنى سبحانه؛ وهو الحاكِم المدبِّر، ومن أسمائه أيضًا "المالِك": وهو المتصرِّف، و"المليك": وهو صاحب المُلك الواسع، قال الله تعالى: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الفاتحة: 4]، وقال أيضًا: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 54، 55].
ووجه المناسَبة بين هذه الآية ﴿ مَلِكِ النَّاسِ ﴾ والآية التي قبلها - والله تعالى أعلم - أنَّه سبحانه أتى باسمين عَظيمين؛ وهما الربُّ والملِك؛ ليعلِّم المستعيذ أنَّ المستعاذ بِه سبحانه جديرٌ بهذه العِبادة، وقادِر وحده لا شَريك له على حِفظه من شرور الشياطين.
﴿ إِلَهِ النَّاسِ ﴾؛ أي: معبود الجنِّ والإنس، فأعظم أسمائه سبحانه وتعالى "الله"، ومعناه: المعبود الذي يَتقرَّب إليه عِبادُه بشتَّى الطَّاعات حبًّا وتعظيمًا، مشتقٌّ من مادَّة "أَله يَأْله إِلهة"؛ أي: عبد يعبد عبادة.
ومِن أسمائه أيضًا: "الإله"، وله نفس معنى الاسم الأول.
ووجه المناسَبة بين هذه الآية والآية التي قبلها - والله تعالى أعلم - أنَّه تعالى استحقَّ العبادةَ وحده لا شريك له، ومنها الاستعاذة؛ لأنَّه متفرد بالربوبيَّة؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 21، 22].
﴿ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ﴾: الوسواس؛ أي: الشيطان الذي يَظهر بإلقائه لكلِماتٍ خَبيثة خفيَّة تؤذِي النفسَ، والخنَّاس: الذي يَختفي بعد الوَسْوَسة.
ووجه المناسَبة بين هذه الآية والآية التي قبلها - والله تعالى أعلم - أنَّ الله تعالى هو القادِر على أن يَحفظك ويعافيك من الوسواس الخنَّاس.
﴿ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ﴾؛ أي: موضع تأثير الوَسوسة الصَّدر بالضِّيق والحُزن والهمِّ والغمِّ وما يترتَّب عن ذلك من أرَقٍ وتعَب.
﴿ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ﴾؛ أي: تكون الوَسوسة والخنس من شياطين الجنِّ والإنس، ويدخل في المعنى - والله تعالى أعلم - أنَّها تكون أيضًا من النفس.
وقد ختم سبحانه وتعالى مصحفَه الكريم بهذه السُّورَة العظيمة؛ ليبيِّن لعباده أنَّهم لا يَعملون بالقرآن إلاَّ بتوفيقه تعالى وتحصِينه وحِفظه لهم من الشيطان الرَّجيم.
ونسأل اللهَ تعالى أن يتقبَّل عملَنا وأن يرزقنَا الإخلاصَ والأجرَ والثواب، آمين، والحمد لله ربِّ العالمين