تفسير ما تيسر من سوره البينه ، للطبرى تفسير سوره البينه
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ( 1 ) رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ( 2 ) فيها كتب قيمة ( 3 ) وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ( 4 ) ) .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ) فقال بعضهم : معنى ذلك : لم يكن هؤلاء الكفار من أهل التوراة والإنجيل ، والمشركون من عبدة الأوثان ( منفكين ) يقول : منتهين حتى يأتيهم هذا القرآن .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( منفكين ) قال : لم يكونوا لينتهوا حتى يتبين لهم الحق .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله ( منفكين ) قال : منتهين عما هم فيه .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( منفكين حتى تأتيهم البينة ) أي : هذا القرآن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : [ ص: 540 ] ( والمشركين منفكين ) قال : لم يكونوا منتهين حتى يأتيهم ; ذلك المنفك .
وقال آخرون : بل معنى ذلك أن أهل الكتاب وهم المشركون ، لم يكونوا تاركين صفة محمد في كتابهم ، حتى بعث ، فلما بعث تفرقوا فيه .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال : معنى ذلك : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مفترقين في أمر محمد ، حتى تأتيهم البينة ، وهي إرسال الله إياه رسولا إلى خلقه ، رسول من الله . وقوله : ( منفكين ) في هذا الموضع عندي من انفكاك الشيئين أحدهما من الآخر ، ولذلك صلح بغير خبر ، ولو كان بمعنى ما زال ، احتاج إلى خبر يكون تماما له ، واستؤنف قوله ( رسول من الله ) هي نكرة على البينة ، وهي معرفة ، كما قيل : ( ذو العرش المجيد فعال ) فقال : حتى يأتيهم بيان أمر محمد أنه رسول الله ، ببعثة الله إياه إليهم ، ثم ترجم عن البينة ، فقال : تلك البينة
( رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ) يقول : يقرأ صحفا مطهرة من الباطل
( فيها كتب قيمة ) يقول : في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة عادلة مستقيمة ، ليس فيها خطأ ؛ لأنها من عند الله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ) يذكر القرآن بأحسن الذكر ، ويثني عليه بأحسن الثناء .
وقوله : ( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ) يقول : وما تفرق اليهود والنصارى في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، فكذبوا به ، إلا من بعد ما جاءتهم البينة ، يعني : من بعد ما جاءت هؤلاء اليهود والنصارى البينة ، يعني : أن بيان أمر محمد أنه رسول بإرسال الله إياه إلى خلقه ، يقول : فلما بعثه الله تفرقوا فيه ، فكذب به بعضهم ، وآمن بعضهم ، وقد كانوا قبل أن يبعث غير مفترقين فيه أنه نبي .
القول في تأويل قوله تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ( 5 ) ) . [ ص: 541 ]
يقول تعالى ذكره : وما أمر الله هؤلاء اليهود والنصارى الذين هم أهل الكتاب إلا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين ; يقول : مفردين له الطاعة ، لا يخلطون طاعتهم ربهم بشرك ، فأشركت اليهود بربها بقولهم إن عزيرا ابن الله ، والنصارى بقولهم في المسيح مثل ذلك ، وجحودهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
وقوله : ( حنفاء ) قد مضى بياننا في معنى الحنيفية قبل بشواهده المغنية عن إعادتها ، غير أنا نذكر بعض ما لم نذكر قبل من الأخبار في ذلك .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : ( مخلصين له الدين حنفاء ) يقول : حجاجا مسلمين غير مشركين ، يقول : ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، ويحجوا وذلك دين القيمة .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ) والحنيفية : الختان ، وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات والمناسك .
وقوله : ( ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة )
يقول : وليقيموا الصلاة ، وليؤتوا الزكاة .
وقوله : ( وذلك دين القيمة )
يعني أن هذا الذي ذكر أنه أمر به هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ، هو الدين القيمة ، ويعني بالقيمة : المستقيمة العادلة ، وأضيف الدين إلى القيمة ، والدين هو القيم ، وهو من نعته لاختلاف لفظيهما . وهي في قراءة عبد الله فيما أرى فيما ذكر لنا : ( وذلك دين القيمة ) وأنثت القيمة ؛ لأنها جعلت صفة للملة ، كأنه قيل : وذلك الملة القيمة ، دون اليهودية والنصرانية .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( وذلك دين القيمة ) هو الدين الذي بعث الله به رسوله ، وشرع لنفسه ، ورضي به .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( كتب قيمة ) ( وذلك دين القيمة ) قال : هو واحد ; قيمة : مستقيمة معتدلة .
القول في تأويل قوله تعالى : ( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية ( 6 ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ( 7 ) ) .
يقول تعالى ذكره : إن الذين كفروا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فجحدوا نبوته ، من اليهود والنصارى والمشركين جميعهم ( في نار جهنم خالدين فيها ) يقول : ماكثين لابثين فيها ( أبدا ) لا يخرجون منها ، ولا يموتون فيها ( أولئك هم شر البرية ) يقول جل ثناؤه : هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ، هم شر من برأه الله وخلقه ، والعرب لا تهمز البرية ، وبترك الهمز فيها قرأتها قراء الأمصار ، غير شيء يذكر عن نافع بن أبي نعيم ، فإنه حكى بعضهم عنه أنه كان يهمزها ، وذهب بها إلى قول الله : ( من قبل أن نبرأها ) [ الحديد : 22 ] وأنها فعيلة من ذلك . وأما الذين لم يهمزوها ، فإن لتركهم الهمز في ذلك وجهين : أحدهما أن يكونوا تركوا الهمز فيها كما تركوه من الملك ، وهو مفعل من ألك أو لأك ، ومن يرى ، وترى ، ونرى ، وهو يفعل من رأيت . والآخر : أن يكونوا وجهوها إلى أنها فعيلة من البرى وهو التراب . حكي عن العرب سماعا : بفيك البرى ، يعني به : التراب .
وقوله : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية )
يقول تعالى ذكره : إن الذين آمنوا بالله ورسوله محمد ، وعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ، وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأطاعوا الله فيما أمر ونهى ( أولئك هم خير البرية ) يقول : من فعل ذلك من الناس فهم خير البرية . وقد : حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا عيسى بن فرقد ، عن أبي الجارود ، عن محمد بن علي ( أولئك هم خير البرية ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنت يا علي وشيعتك " .
القول في تأويل قوله تعالى جل جلاله وتقدست أسماؤه : ( جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ( 8 ) ) .
يقول تعالى ذكره : ثواب هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند ربهم يوم [ ص: 543 ] القيامة ( جنات عدن ) يعني بساتين إقامة لا ظعن فيها ، تجري من تحت أشجارها الأنهار ( خالدين فيها أبدا ) يقول : ماكثين فيها أبدا ، لا يخرجون عنها ، ولا يموتون فيها
( رضي الله عنهم ) بما أطاعوه في الدنيا ، وعملوا لخلاصهم من عقابه في ذلك
( ورضوا عنه ) بما أعطاهم من الثواب يومئذ ، على طاعتهم ربهم في الدنيا ، وجزاهم عليها من الكرامة .
وقوله : ( ذلك لمن خشي ربه )
يقول تعالى ذكره : هذا الخير الذي وصفته ، ووعدته الذين آمنوا وعملوا الصالحات يوم القيامة ، لمن خشي ربه ; يقول : لمن خاف الله في الدنيا في سره وعلانيته ، فاتقاه بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه ، وبالله التوفيق .