الدفاع عن الصحابة (3)
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (1)
الخطبة الأولى
تحدثنا في الجمعة الماضية - في إطار سلسلة الدفاع عن الصحابة في جزئها الثاني - عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، الرجل الثاني في الإسلام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جمع القرآن، ورفع الله به لواء الإسلام حين ثبت في وجه المرتدين مانعي الزكاة، وشهد بفضله كل منصف من المسلمين وغير المسلمين، إلا قوما حملوا لواء الطعن عليه، والتشهير به، والبحث عن مثالبه، وأرادوا - بذلك - شق جمع المسلمين، والخروج عن جماعتهم، التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة" صحيح سنن الترمذي، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا يُجمع أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة" صحيح سنن الترمذي.
وهذه عقيدة المسلمين الصحيحة، التي لم تداخلها لوثة السياسة، ولم تشبها شبهة الحزبية، ولم يكنفها لباس الانتقام والثارات، وهم لا يزالون يرددون قول الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].
ولئن قالوا ما قالوا في أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، وفضلوا عليهما علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فإن عليا - رضي الله عنه - يتبرأ منهم، ومن عقائدهم ويقول - وهو على المنبر -: "خير هذا الأمة - بعد نبيها - أبو بكر ثم عمر، رضي الله عنهما". واشتهر قول بعض السلف: "حب أبي بكر وعمر إيمان، وبغضهما نفاق وزندقة. فيا ويح من أبغضهما أو سبهما، كيف ظنه بربه حين يلقاه؟".
ولكن القوم فعلوا بعمر مثل ما فعلوا بأبي بكر من السب والشتم، فلم يرعوا له حقا، ولم يعترفوا له بجميل، وهو الذي فتح الله به الأمصار، ونشر به دينه في الآفاق، فدخل الإسلام بلاد الشام، والعراق، ومصر، وأرمينية، وفارس، حتى قيل: إن الفتوحات في عهده بلغت ألفًا وستًا وثلاثين مدينة، وقد وصلت المساجد التي تقام فيها الجمعة في دولته أكثر من أربعة آلاف. وكان ذلك تأويلَ رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال: "بَيْنَمَا أَنَا عَلَى بِئْرٍ أَنْزِعُ مِنْهَا، جَاءَنِي أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ الدَّلْوَ، فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ (الدلو الممتلئة ماء)، وَفِى نَزْعِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ. ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ مِنْ يَدِ أَبِى بَكْرٍ، فَاسْتَحَالَتْ فِي يَدِهِ غَرْبًا (دلوا عظيمة)، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَفْرِي فَرْيَهُ (يقوَى قوته)، فَنَزَعَ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ" متفق عليه.
ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو الله تعالى أن يسلم عمر، ليعز به الدين، ويقوي به شوكة المسلمين، فكان يقول: "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب" صحيح سنن ابن ماجة. وفرق الله به بين الحق والباطل، ولذلك سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفاروق.
أعني به الفاروق فرّق عنوةً
بالسيف بين الكفر والإيمان
هو أظهر الإسلامَ بعد خفائه
ومحا الظلامَ وباح بالكتمان
فإن شئت دينا، فما كان في زمانه أكثر منه تدينا، شهد له بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال - صلى الله عليه وسلم -: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ دُونَ ذَلِكَ. وَمَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ". قَالُوا: مَاذَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟. قَالَ: "الدِّينَ" متفق عليه.
وكان الشيطان لا يستطيع السطوة عليه لشدة تدينه. قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك" متفق عليه. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر" صحيح سنن ابن ماجة.
وكان في وجهه - رضي الله عنه - خطان أسودان من البكاء من خشية الله. قال عنه الحسن: "كان عمر يمر بالآية من وِرده، فيسقط حتى يعاد منها أياما".
وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: "رأيت عمر أخذ تِبْنَة من الأرض فقال: "يا ليتني هذه التبنة، ليتني لم أك شيئا، ليت أمي لم تلدني، ليتني كنت نسياً منسياً".
وإن شئت علما، فقد كان عمر أعلم أهل زمانه. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "إني لأحسب أن عمر ذهب بتسعة أعشار العلم".
وقال مجاهد: "إذا اختلف الناس في شيء، فانظروا ما صنع عمر، فخذوا به". وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "إذا ذكر الصالحون فحيَّهَلاَ بعمر، إن عمر كان أعلمنا بكتاب الله، وأفقهنا في دين الله".
وكان ملهما، ذا ذكاء وفراسة، يتوقع مآلات بعض الأمور قبل حدوثها. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ (ملهمون)، فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ" البخاري.
بل الأعظم من ذلك، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفعه مقاما يوشك أن يلامس فيه مقام الأنبياء، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان بعدي نبي، لكان عمرَ بن الخطاب" صحيح سنن الترمذي.
عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" صحيح سنن الترمذي.
وقال ابن عمر - رضي الله عنه - - أيضا -: "ما نزل بالناس أمر قط، فقالوا فيه وقال فيه عمر، إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر" صحيح سنن الترمذي.
فلا عجب أن ينزل القرآن على رأي عمر في عدة مواضع. قَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه -: "وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلاَثٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَنَزَلَتْ: ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [البقرة: 125]. وَآيَةُ الْحِجَابِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ، فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ. فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ. وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُنَّ: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ" متفق عليه.
وإن شئت عدلا، فقد سارت بعدله الركبان، فقد كان أول قاض في الإسلام في عهد أبي بكر - رضي الله عنه -، وما احتكم إليه اثنان. قال الشعبي: "من سره أن يأخذ بالوثيقة في القضاء، فليأخذ بقول عمر". وكان من حكمه - رضي الله عنه -: "عليك بالصدق، وإن توهمت أنه يضرك، فإنه ينفعك، وإياك والكذب، وإن توهمت أنه ينفعك، فإنه يضرك".
وقال أنس - رضي الله عنه -: "تَقَرْقَرَ بطن عمر من أكل الزيت عام الرمادة (عام مجاعة)، كان قد حَرَمَ نفسه السمن. قال: فنقر بطنه بإصبعه وقال: إنه ليس عندنا غيره حتى يحيا الناس".
قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "كان إسلام عمر فتحًا، وكانت هجرته نصرًا، وكانت إمامته رحمة".
بهذا العدل سادت دولة عمر وعزت. قال شيخ الإسلام: "إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة.. بالعدل تُستصلَح الرجال، وتُستغزَر الأموال".
الخطبة الثانية
وكان من كلام عمر الذهبي - رضي الله عنه -: "ما ابتليت ببلاء إلا كان لله تعالى علي فيه أربع نعم: إذ لم يكن في ديني، وإذ لم يكن أعظمُ منه، وإذ لم أحرم الرضا به، وإذ أرجو الثواب عليه".
ومن الابتلاء الذي أصاب عمر، أن كانت خاتمةُ حياته شهيدا على يد مجوسي غادر، يدعى أبا لؤلؤة، الذي يمثل طبيعة الكفار في كل زمان ومكان، وكيف تضمر قلوبهم للمسلمين الحقد والحسد والبغضاء، وكيف تكن نفوسهم للمؤمنين الشر والهلاك.﴿ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ﴾ [النساء: 89].
وقد جعل الروافض أعداءُ السنة لهذا المجوسي قبرا وهميا في بلادهم، بنوا عليه مشهدا تذكاريا، يزورونه ويعظمونه، ويلقون فيه الأموال والتبرعات، عليهم من الله ما يستحقون.
هذه عقيدتنا في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نحب من يحبهم، ونبغض من يبغضهم، فهم - كما قال ابن كثير - رحمه الله -: "كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة". وقال القرطبي - رحمه الله -: "فالصحابة كلهم عدول، أولياءُ الله تعالى وأصفياؤه، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله. وهذا مذهب أهل السنة، والذى عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة".