لما كانت السنة مصدراً تشريعياً،
ومتلقاة عن الرسول صلى الله عليه وسلم،
وكان الله قد أَمر المؤمنين بتعزيره وتوقيره،
ومدح الذين يغضون أصواتهم عنده،
لا جرم كان لها من الحرمة مثل ما لمن تلقيت عنه، مما حمل العلماء عن أن بالغوا في احترامها وإعظامها،
وإليك أمثلة من ذلك: روى عمرو بن ميمون عن ابن مسعود أَنه حدَّث يوماً،
فجرى على لسانه:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم علاه كرب، حتى رأيت العرق ينحدر عن جبهته،
وفي رواية: وقد اغرورقت عيناه، وانتفخت أوداجه.
وكان ابن سيرين إذا ذُكر عنده حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك خشع،
واشتهر عن الإمام مالك رحمه الله في ذلك أَكثر من غيره، فكان إذا أَراد الحديث اغتسل وتطيب،
ولبس ثياباً جدداً وتعمم، وجلس على منصة، خاشعاً، ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ من الحديث،
ويقول: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يكره أَن يحدِّث وهو قائم أو مستعجل، ذكر هذه الآثار القاضي عياض في الشفاء؛
وما ذاك إلا تعظيماً لمن صدر عنه، وإجلالاً لتلك الألفاظ الشريفة التي هي من أشرف الكلام وأعلاه قدراً.
وقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم وفواتحه وخواتمه، وهو المبين له والموضِّح لمقاصده،
وهو المصدر الثاني لأَدلة الأحكام، وهو من ال
حكمة التي من أُوتيها فقد أُوتي خيراً كثيراً.
ولقد حث الله تعالى على تعلم العلم ومدح العلماء ونوه بذكرهم، حيث قرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته على وحدانيته، وحصر خشيته فيهم، ونفى المساواة بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم حث على العلم، وأخبر أن حملته هم ورثة الأنبياء، وأن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم، ونحو ذلك كثير.
فمن تحمل هذا الحديث واشتغل بتعلمه
وتعليمه فله الحظ الأوفر من هذا المدح للعلماء، وكفى بهذا شرفاً للحديث وحملته،
فصرف العمر في تعلمه ونشره أفضل من الاشتغال بنوافل القربات، وما ذاك إلا لما فيه من بيان القرآن، وإحياء سنة النبي صلى الله عليه وسلم،
والتأسي به في الدعوة والتبليغ،
ولو لم يحصل لأهله من الفضل إلا كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم التي ورد فيها الفضل الجزيل،
كقوله صلى الله عليه وسلم:
(أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة). أخرجه الترمذي عن ابن مسعود وحسنه.
ثم فيه استحقاق دعوة النبي صلى الله عليه وسلم،
كما في المسند والسنن عن زيد ابن ثابت وغيره،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وأَدَّاها كما سمعها)،
ثم فيه امتثال أمره صلى الله عليه وسلم بقوله: (بلغوا عني ولو آية) رواه أحمد والشافعي بأسانيد صحيحة عن عبدالله بن عمرو وغيره.
ويكفي في شرف المحدثين أن قد رُويَ تعديلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين) رواه العقيلي وابن أبي حاتم، وابن عبدالبر وغيرهم عن إبراهيم بن عبدالرحمن العذري مرسلاً وصححه أحمد.
وإن في تعظيمهم للحديث النبوي وحرصهم على نقله والتحديث به لعلامة على قوة محبتهم لمن قاله،
وإيثارهم للتأسي به، مما يسبب حشرهم معه، فإن من أحب قوماً حشر معهم، فهو إمامهم وقدوتهم،
وقد قال تعالى: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم [الإسراء : 71]