من كتاب الفوائد للإمام ابن قيم الجوزية
كتاب في الوعظ فريد من نوعه، فقد عودنا مؤلفه الإبداع بكل مؤلفاته، فابن قيم الجوزية في هذا الكتاب يتناول آية أو جزء آية فيفسرها تفسيرا لم يسبقه أحد إليه أو جزءا من حديث أو حتى كلمة فيه فيبرع في إخراج المعاني القيمة والحكم المفيدة بسبك رائع وأسلوب عظيم راق .
بإذن الله نتدارسه على أجزاء متتالية
قال الشيخ الإمام, محي السنّة قامع البدعة, أبو عبد الله الشهير بابن قيّم الجوزيّة رحمه الله تعالى :
قاعدة جليلة ( شروط الانتفاع بالقرآن)
إذا أردت الإنتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه وألق سمعك وأحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه فإنه خطاب منه لكَ على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم : قال تعالى
(سورة قّ الآية-37 )
وذلك أن تمام التأثير لمَّا كان موقوفا على 1- مؤثر مقتض 2- ومحل قابل 3- وشرط لحصول الأثر 4- وإنتفاء المانع الذي يمنع منه , تضمّنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه وأدلّه على المراد :
فقوله تعالى { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى } (قّ:37) إشارة إلى ما تقدم من أول السورة إلى ههنا , وهذا هو المؤثر .
وقوله تعالى { لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ } فهذا هو المحل القابل , والمراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله كما قال تعالى { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّا }(يس:69-70) أى حي القلب .
وقوله تعالى : { أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ } أى وجه سمعه وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له , وهذا شرط التأثر بالكلام .
وقوله تعالى { وَهُوَ شَهِيدٌ } أى شاهد القلب حاضر غير غائب .
قال ابن قتيبة ""استمع كتاب الله وهو شاهد القلب والفهم ليس بغافل ولا ساه ""وهو إشارة إلى المانع من حصول التأثير وهو سهو القلب وغيبته عن تعقل ما يقال له والنظر فيه وتأمله .
فإذا حصل المؤثر وهو القرآن والمحل القابل وهو القلب الحي ووجد الشرط وهو الإصغاء وانتفى المانع وهو إشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شىء آخر حصل الأثر وهو الإنتفاع والتذكر.
صاحب القلب الحي
( فإن قيل ) إذا كان التأثير إنما يتم بمجموع هذه فما وجه دخول أداة أو في قوله تعالى { أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ } والموضع موضع واو الجمع لا موضع أو التى هي لأحد الشيئين . قيل هذا سؤال جيد والجواب عنه أن يقال خرج الكلام بأو باعتبار حال المخاطب المدعو فإن من الناس من يكون حي القلب واعيه تام الفطرة فإذا فكر بقلبه وجال بفكره دله قلبه وعقله على صحة القرآن وأنه الحق وشهد قلبه بما أخبر به القرآن فكان ورود القرآن على قلبه نوراً على نور الفطرة وهذا وصف الذين قيل فيهم { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقّ } (سبأ :6) وقال في حقهم
(النور: 35)
فهذا نور الفطرة على نور الوحي . وهذا حال صاحب القلب الحي الواعي .
قال ابن القيم وقد ذكرنا ما تضمنت هذه الآية من الأسرار والعبر في كتاب اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطّلة الجهميّة :
فصاحب القلب يجمع بين قلبه وبين معاني القرآن , فيجدها كأنها قد كتبت فيه , فهو يقرأها عن ظهر قلب .
ومن الناس من لا يكون تام الاستعداد ,واعي القلب ,كامل الحياة فيحتاج إلى شاهد يميّز له بين الحق والباطل ,ولم تبلغ حياة قلبه ونوره وزكاء فطرته مبلغ صاحب القلب الحي الواعي , فطريق حصول هدايته أن يفرغ سمعه للكلام , وقلبه لتأمّله , والتفكر فيه , وتعقل معانيه , فيعلم حينئذ أنه الحق .
فالأول : حال من رأى بعينيه ما دُعِيَ إليه وأُخْبِرَ به .
والثاني : حال من علم صدق المخبر وتيقنه وقال يكفيني خبره فهو في مقام الإيمان , والأول في مقام الإحسان .
هذا قد وصل إلى علم اليقين وترقى قلبه منه إلى منزلة عين اليقين , وذاك معه التصديق الجازم الذي خرج به من الكفر ودخل به في الإسلام .
فعين اليقين نوعان : نوع في الدنيا ونوع في الآخرة : فالحاصل في الدنيا نسبته إلى القلب كنسبه الشاهد إلى العين . وما أخبرت به الرسل من الغيب يعاين في الآخرة بالأبصار وفي الدنيا بالبصائر فهو عين يقين في المرتبتين .