في القرن السابع الهجري، حدثت حركة واسعة للنقل والترجمة، وهذه المرة كانت الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية ومنها إلى اللغات الأوروبية الوليدة فانتقلت أمهات الكتب العلمية العربية، متونًا وشروحًا، إلى الأفق الأوروبي إبان عصر النهضة (الرينيسانس) فشارك العرب والمسلمون في صياغة العلم الحديث في أوروبا.. ومن أبرزهم “البيروني”.
يعتبر البيروني أحد ألمع الوجوه التي تعتز بها الثقافة العربية من خلال تاريخ الفكر الإسلامي وأكثرها جاذبية، وعلى الرغم من أنه يحتل مكانته من الأدب العربي في ميدان الجغرافيا والرحلات، إلَّا أنه يتبين لنا من خلال المصنفات التي سنراها أنه كان رياضيًّا وفلكيًّا وفيزيائيًّا، وفيلسوفًا، وشاعرًا وأديبًا، وعالم اجتماع ومؤرخًا!!
نعم كان كل أولئك، وبرز في كل فروع المعرفة الإنسانية، وبعبارة أخرى: كان مؤلِّفًا انتظم نشاطه كل دائرة العلوم المعاصرة له، والتي تحتل بينها العلوم الرياضية والفيزيائية مكانة الصدارة عنده!
ولد العلامة أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني الخوارزمي، من أشهر علماء القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي في إحدى ضواحي مدينة كاث سنة 362 هجريَّة (973م)، والذى أقبل بنهم معرفي شديد على تحصيل علوم عصره، وتفنَّن في طلب المعارف حتى إِنه تعلم السنسكريتية (لغة الهند المقدسة)؛ ليكتب بعدها كتابته البديعة عن تراث الهند، خاصة كتابه الشهير “تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة فى العقل أو مرذولة”.
و عاش في عزلة أكثر من ثلاثين عامًا، وفيها أبدع مؤلفاته العظيمة التالي ذكرها، والمعروف عنه أن مؤلفاته تزيد على مائة وخمسين مؤلفًا، لم يبقَ منها غير بضعة كتب (ضخمة) والبقية لا تزال مفقودة.
وفى المقام الأول يعد البيروني مؤرخ العلوم، حيث صنف كتباً كثيرة في تاريخ العلم، وكلها باللغة العربيَّة، كما أنه أكد مكانة اللغة العربيَّة في ثقافة عصره. وهو من كبار العلماء الموسوعيين. تبحر في الحكمة اليونانية والهندية وتخصص بأنواع الرياضيات، وكان معاصرًا للشيخ الرئيس، وكانت بينهما محادثات ومراسلات، توفي سنة 440 هجريَّة (1048 ميلاديَّة) ومن تصانيفه الكثيرة: الآثار الباقية عن القرون الخالية، مختار الأشعار والآثار، مقاليد علم الهيئة وما يحدث في بسيط الكرة، كتاب الصيدنة (الصيدلة) الجماهر في معرفة الجواهر، استخراج الأوتار في الدائرة، التفهيم لأوائل صناعة التنجيم، تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن.
علوم البيروني
كان عالم رياضيات وفيزياء وكان له أيضًا اهتمامات في مجال الصيدلة والكتابة الموسوعية والفلك والتاريخ.
كذلك فقد سميت فوهة بركانية على سطح القمر باسمه إلى جانب 300 اسم لامع تم اختياره لتسمية الفوهات البركانية على القمر ومنهم الخوارزمي وأرسطو وابن سينا.
وصفه جورج سارتون في كتابه (مقدمة لدراسة تاريخ العلم) بقوله: “كان رحّالة وفيلسوفًا، ورياضيًّا، وفلكيًّا، وجغرافيًّا، وعالمًا موسوعيًّا، ومن أكبر عظماء الإسلام، ومن أكابر علماء العالم”، ووصفه المستشرق الألماني سخاو بقوله: “أعظم عقلية عرفها التاريخ”.
له كتب كثيرة ومهمة في ضروب مختلفة من العلم؛ ففي الجغرافيا ألَّف: تصحيح الطول والعرض لمساكن المعمور من الأرض، وتحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن، أما في التاريخ فله: تصحيح التواريخ، والآثار الباقية عن القرون الخالية.
وفي الفلك كان له مؤلفات عديدة، مثل: الاستشهاد باختلاف الأرصاد، واختصار كتاب البطليموس القلوذي، والزيج المسعودي، والاستيعاب لوجوه الممكنة في صنعة الإسطرلاب، وتعبير الميزان لتقدير الأزمان، وقانون المسعودي في الهيئة، وفي الرياضيات أُثِرَ عن البيروني مؤلَّفات عِدَّة كاستخراج الكعاب والأضلاع وما وراءه من مراتب الحساب، وكتاب الأرقام.
ورغم اهتمامه بالعلوم التطبيقية، إلَّا أن البيروني كان ذا باعٍ طويل في الأدب أيضًا؛ لذا كتب شرح ديوان أبي تمام، ومختار الأشعار والآثار، كما كان صاحب مؤلَّفات عديدة في الفلسفة، مثل: كتاب المقالات والآراء والديانات، ومفتاح علم الهند، وجوامع الموجود في خواطر الهنود، وغير ذلك العشارت من المؤلَّفات الضخمة.
وبهذه المؤلفات يكاد البيروني يكون ألَّف في كل فروع المعرفة التي عهدها عصره، كتب في الرياضيات والفلك والتنجيم والحكمة والأديان والتاريخ والجغرافيا والجيولوجيا والأحياء والصيدلة.
البيروني والطبيعيات
إضافة إلى ما سبق كان للبيروني اهتمام خاص بمجال الطبيعيات، حيث اهتم بالخواص الفيزيائية لكثير من المواد، وتناولت أبحاثه علم ميكانيكا الموائع والهيدروستاتيكا، لجأ في بحوثه إلى التجربة وجعلها محورًا لاستنتاجاته، كما انضم مع ابن سينا إلى الذين شاركوا ابن الهيثم في رأيه القائل بأن الضوء يأتي من الجسم المرئي إلى العين.
ومن أبرز ما قام أنه توصل إلى تحديد الثقل النوعي لـ 18 عنصرًا مركبًا بعضها من الأحجار الكريمة مستخدمًا الجهاز المخروطي، استخرج قيم الثقل النوعي لها منسوبة إلى الذهب مرة وإلى الماء مرة أخرى، وله جداول حدَّد فيها قيم الثقل النوعي لبعض الأحجار الكريمة منسوبة إلى الياقوت على أساس الوزن النوعي للياقوت = 100 ثم إلى الماء.
وفي ظاهرة الجاذبية كان البيروني، مع ابن الحائك، من الرواد الذين قالوا: إن للأرض خاصية جذب الأجسام نحو مركزها، تناول ذلك في آراء بثَّها في كتب مختلفة، ولكنَّ أشهر آرائه في ذلك ضمَّنها كتابه القانون المسعودي.
ومن المسائل الفيزيائية التي تناولها البيروني في كتاباته كذلك ظاهرة تأثير الحرارة في المعادن، وضغط السوائل وتوازنها، وتفسير بعض الظواهر المتعلقة بسريان الموائع، وظاهرة المد والجزر وسريان الضوء، لاحظ أن المعادن تتمدَّد عند تسخينها، وتنكمش إذا تعرضت للبرودة.
كما شرح تجمع مياه الآبار بالرشح من الجوانب حيث يكون مصدرها من المياه القريبة منها، وتكون سطوح ما يجتمع منها موازية لتلك المياه، وبيَّن كيف تفور العيون وكيف يمكن أن تصعد مياهها إلى القلاع ورءوس المنارات. وتحدث عن ظاهرة المد والجزر في البحار والأنهار وعزاهما إلى التغير الدوري لوجه القمر.
أما فيما يختص بسريان الضوء، فطن إلى أن سرعة الضوء تفوق سرعة الصوت، واتفق مع ابن الهيثم وابن سينا في قولهما بأن الرؤية تحدث بخروج الشعاع الضوئي من الجسم المرئي إلى العين وليس العكس، كما يقرر أن القمر جسم معتم لا يضيء بذاته وإنما يضيء بانعكاس أشعة الشمس عليه، وكان يشرح كل ذلك بوضوح تام، ودقة متناهية في تعبيرات سهلة لا تعقيد فيها ولا التواء.
العلم على فراش الموت!
وعن هذا يقول الدكتور مصطفى لبيب استاذ التاريخ الإسلامي بجامعة القاهرة، هو بحق أحد العلماء البارزين في الحضارة الإسلامية الذي يمثل مرحلة النضج الحقيقي لها، لدرجة أن المؤرخ الأمريكى الشهير جورج سارتون جعل في كتابه الذى كتبه عن العلم فترة حياة البيروني علامة على مرحلة مهمة من مراحل التطور في حياة البشرية فسمى تلك الفترة “عصر البيروني”، مضيفًا أن الصيدلة المعروفة حاليًا علم أفرزته الحضارة الإسلامية، والبيروني يعتبر تجسيدًا حيًّا لطبيعة الثقافة العلمية الإسلامية الموسوعية، برز في الفلك والتاريخ والكيمياء والفيزياء، وله اجتهادات مهمة في كل الفروع.
بالإضافة إلى كل هذا فإن قيمته الحقيقية تبرز فى تطويره منهج البحث العلمي في العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية.
وتابع: إنه أيضًا مؤرخ ظهر اهتمامه بعلم التاريخ ـ وتأصيل قواعد سليمة للتأريخ من خلال كتابه الذي ألفه دون أن يتجاوز الثلاثين بعد وأسماه “الآثار الباقية عن القرون الخالية”، معتبره راصدًا جيدًا لحركة زمانه حيث كان له اهتمام جيد بكبار المفكرين والعلماء المسلمين، وله مراسلا ت باقية إلى الآن بينه وابن سينا، والفيلسوف الطبيب الشهير أبو بكر الرازي الذي كتب عنه كتابًا شهيرًا اسمه ” فهرست كتب أبي زكريا الرازى ” حفظ لنا من خلاله الكثير من تراث الفيلسوف الكبير أبي بكر الرازي، وغيرهم من علماء المسلمين فى ذلك الوقت.
ويضيف الدكتور ماهر عبدالقادر أستاذ فلسفة العلوم بجامعة القاهرة أنه من أبرز العلماء الذين ظهروا في الطب والصيدلة، وله كتاب معرف سماه “الصيدنة” يعتبر من أهم الكتابات التي يعالج فيها تركيب الأدوية وخصائصها، موضحًا أن له كتاب شهير اسمه “الجماهر في معرفة الجواهر” درس فيه المعادن والأحجار الكريمة وتكلم عن خصائص كل معدن وسماته.
وتابع: لا ننسى دور الكبير في رسم الكرة الأرضية ورسم مسطحاتها، ليس هذا فحسب ولكن يحسب لأبي ريحان البيروني أنه الوحيد الذي قاس
محيط الكرة الأرضية بدقة متناهية، وله فيها معادلة باسمه تسمى عند الغرب بمعادلة البيروني، واستطاع البيرونى ان يكتب تاريخًا كبيرًا له في الهند كمؤرخ كبير لولاه لضاع تاريخ الهند، باعتراف اهل البلاد أنفسهم، وبشهادة المستشرقين الأجانب ومنهم ادوارد سخاو 1878.
وتقديرًا لفضل الرجل أقيمت في طشقند جامعة تحمل اسم البيروني، كذلك أقام المتحف الجيولوجى فى موسكو تمثالًا له بجوار أعظم الجيولوجيين على مر التاريخ، كما صدرت مجلات عديد لأبحاثه وأعماله بمختلف اللغات الحية.
وبعد إنجازات مبهرة وحياة علمية حافلة بالعطاء، وفي رجب سنة 440هـ / 1048م توفي البيروني رحمه الله، وفي خبر وفاته يحكي أبو الحسن علي بن عيسى فيقول دخلت على أبي الريحان وهو يجود بنفسه، فقال لي كيف قلتَ لي يومًا في حساب الجدّات الفاسدة؟ فقلت له إشفاقا عليه أفي هذه الحالة؟ قال: يا هذا، أُودع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، أَلاَ يكون خيرًا من أن أخلِّيها وأنا جاهل بها؟ فأعدت ذلك عليه وحفظ، وعلّمني ما وعد، وخرجت من عنده، وأنا في الطريق فسمعت الصراخ عليه!!
وهكذا كان علماء المسلمين.. وهكذا كانت همتهم يوم أن ناطحت السماء، حتى أورثوا أمتهم حضارة علت على العلياء، وأبت على الأعداء، وقادت البشرية جمعاء، وكانت سببًا مباشرًا في بناء الأمم والحضارات اللاحقة.