بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن الأمر باجتماع المسلمين أصل عظيم من أصول الدين، تواترت النصوص الشرعية في الأمر به والحث عليه، ومن ذلك قول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: 103].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين: تأليف القلوب واجتماع الكلمة وصلاح ذات البين... وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة». ويشرح الشيخ عبد الرحمن السعدي أهمية هذا الأصل قائلاً: (من أعظم الأمور الإلهية والشرائع السماوية والوصايا النبوية: الاعتصام بحبل الله جميعاً، واتفاق كلمة المسلمين واجتماعهم وائتلافهم والحث على هذا بكل طريق موصل إليه من الأعمال والأقوال، والتعاون على ذلك قولاً وفعلاً، والنهي عن التفرق والاختلاف وتشتيت شمل المسلمين، والزجر عن جميع الطرق الموصلة إليه بحسب القدرة والإمكان. وقد دلَّ على هذا الأصل العظيم الكتاب والسنة وإجماع الأنبياء والمرسلين وأتباعهم إلى يوم الدين).
ومع وضوح هذا الأصل الجليل إلا إن ظاهرة التفرق والتنازع الدعوي من أكبر وأخطر الأدواء المزمنة التي أنهكت الدعوة وأشغلت الدعاة، وفي كل نازلة من النوازل المعاصرة التي تمر بها الأمة الإسلامية يزداد الشرخ الدعوي تجذراً واتساعاً، وتعصف الفتن ب الدعوة والتجمعات الدعوية فتزيدهم تدابراً ووهناً!
وباستقراء النصوص الشرعية التي وردت في الحث على الاجتماع وذم الفرقة والاختلاف نجد أنَّ مآلات التفرق تصف الواقع الذي نعيشه بوضوح كبير، فمن هذه المآلات:
أولاً: الفشل وذهاب الريح:
قال الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال: 46].
ثانياً: الفتنة والفساد الكبير:
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}[الأنفال: 73]، فحين يجتمع الكفار برغم ما بينهم من خلافات وصراعات، ويعرض الدعاة عن الاجتماع تفتح أبواب الفتنة والفساد، وفي تفسير هذه الآية يقول ابن جرير: «إلا تفعلوا ما أمرتكم به من التعاون والنصرة على الدين تكن فتنة في الأرض».
ثالثاً: العذاب والهلاك:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الجماعة رحمة، والفرقة عذاب).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا).
رابعاً: الحالقة التي تحلق الدين:
عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة و الصدقة؟!» قالوا: بلى، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إصلاح ذات البين؛ وفساد ذات البين هي الحالقة»
خامساً: براءة النبي صلى الله عليه وسلم من المختلفين:
قال الله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إنَّمَا أَمْرُهُمْ إلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[الأنعام: 159].
سادساً: تسلط الأعداء:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ ربي قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً»
سابعاً: تسلط الشيطان:
عن أبي ثعلبة الخشني -رضي الله عنه- قال: كان الناس إذا نزلوا منزلاً تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان»، فلم ينزلوا بعد ذلك منزلاً إلا انضم بعضهم إلى بعض، حتى يقال: لو بسط عليهم ثوب لعمَّهم.
فتأمل هذا التحذير من تسلط الشيطان بسبب التفرق في المكان الحسي، فكيف بالتفرق المعنوي الذي تتنافر فيه القلوب ويكثر فيه التهارش والبغي؟!
ثامناً: نزع الرحمة:
قال الله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ 118 إلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ}[هود: 118، 119].
تاسعاً: تأخير المغفرة:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا»
عاشراً: مخالفة الوجوه:
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم»
حادي عشر: ذهاب البركة:
عن وحشي بن حرب -رضي الله عنه- أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع! قال: «فلعلكم تتفرقون؟» قالوا نعم! قال: «فاجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه»
فذهبت بركة الطعام بسبب تفرق الناس فيه، فيا سبحان الله! فكيف بالتفرق في شأن العلم و الدعوة و الجهاد؟!
وكل واحد من هذه المآلات جدير باجتماع العلماء وأهل الحل والعقد في الأمة لمدارستها ودرئها عن المسلمين، لكن برغم عمق الأزمة وخطورتها وفضائحها المتكررة التي نراها في معظم دول العالم الإسلامي، وخاصة في مناطق الصراع والتوتر، إلا إنَّ كثيراً من المقاربات الدعوية والفكرية لا تتلاءم مع خطورة هذه المآلات وتداعياتها، ونحسب أن المبادرات العملية لدرء النزاع ولمَّ الشمل لم ترتقِ - في كثير من الأحيان - إلى مستوى الحدث و الفتن المتسارعة!
وسنة الله عز وجل لا تتبدل ولا تتغير ولا تحابي أحداً: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إلَّا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}[فاطر: 43]، {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}[الأحزاب: 62].
فما نراه من الإخفاق وتسلط الأعداء وتتابع المحن، يخشى أن يكون نتيجة وعقوبة لفرقتنا ولبعض ممارساتنا الدعوية، وقد رأينا باستقراء الواقع المعاصر أن التنازع والأثرة، واختزال الأمة.. كل الأمة في مؤسسة واحدة أو جماعة واحدة، مع الانفصال والإعراض عن بقية المسلمين؛ كان من أعظم أسباب الهزيمة وضعف الأثر! قال الله تعالى: {أَوَ لَـمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ}[آل عمران: 165].
وقد آن الأوان أن يقوم الدعاة لله عز وجل قومة جادة ينتصفون فيها من أنفسهم، ويراجعون فيها هذه الأزمة بصدق وتجرد، يحدوهم في ذلك قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المائدة: ٨].
فمقامات الإصلاح والمراجعة أربعة:
أولاً: التجرد من أهواء الأشياخ والأحزاب والتجمعات، وتجريد القصد لله وحده!
ثانياً: الشهادة بالقسط.
ثالثاً: العدل مع الموافق والمخالف.
رابعاً: تقوى الله.
وما أجمل كلام ابن القيم -رحمه الله- في رسم هذا المنهاج حين يقول: «عادتنا في مسائل الدين كلها، دقها وجلها، أن نقول موجبها، ولا نضرب بعضها ببعض، ولا نتعصب لطائفة على طائفة؛ بل نوافق كل طائفة على ما معها من الحق، ونخالفها فيما معها من خلاف الحق، لا نستثني من ذلك طائفة ولا مقالة».
ورسالة مجلة البيان منذ أن تأسست هي «أن تسهم في ترشيد العمل الإسلامي وائتلافه»، ولذا رأينا تخصيص هذا العدد كاملاً لمعالجة «فقه الاجتماع الدعوي»، فهـذه النازلة مرتكز الإصلاح وإعادة البناء.
ونرجو أن يكون إضافة في تعزيز الوعي، وحافزاً للدعاة لتبني مقاربات علمية ومبادرات عملية تسعى لرأب الصدع، ولمِّ الشمل، وجمع الكلمة والاعتصام بحبل الله جميعاً وأن لا نتفرق!
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين