ها قد بدأ فصل الشتاء يلملم ما بقي منه من أيام ليرحل في هدوء تام، ويترك العنان للربيع ليفرش الجو بالألوان، فالربيع وما أجمل أيامه، حيث الشمس الدافئة والألوان المبهجة والزهور المتفتحة التي تعطر الأجواء بأجمل أريج، ففصل الربيع في حد ذاته هو انبعاث الحياة في الأرض والنبات والزهور، فتعود ألوان الطبيعية من جديد، وينعم الناس بكل الحب والهدوء، حيث تؤثر هذه الأجواء الجميلة على نفوس الجميع وأولهم الشعراء، الذين يتركون الحرية لأقلامهم أن تعبر عما بداخل نفوسهم من هدوء وسكينة بأجواء الربيع، حتى استطاعوا أن ينقلوا لنا في شعرهم صورة نابضة لأجواء الربيع لم تتمكن الصور الحقيقية نقلها، ومن ثم فإننا نعرض في هذا المقال أفضل ما قيل عن الربيع في الشعر العربي.
شعر ابن الرومي
ضحك الربيعُ إلى بكى الديم وغداً يسوى النبتَ بالقممِ
من بين أخضرَ لابسٍ كمماً خُضْراً، وأزهرَ غير ذي كُمَم
متلاحق الأطراف متسقٌ فكأنَّه قد طُمَّ بالجَلم
مُتَبلِّجِ الضَّحواتِ مُشرِقها متأرّجُ الأسحار والعتم
تجد الوحوشُ به كفايتَها والطيرُ فيه عتيدةُ الطِّعَم
فظباؤه تضحى بمنتطَح وحمامُه تَضْحِي بمختصم
والروضُ في قِطَع الزبرجد والـ ـياقوتُ تحت لآلىءٍ تُؤم
طلٌّ يرقرقه على ورقٍ هاتيك أو خيلانُ غالية ٍ
وأرى البليغَ قُصورَ مُبْلغِه فغدا يهُزُّ أثائثَ الجُمم
والدولة ُ الزهراءُ والزمن الـ ـهارُ حسبُك شافَيْى قَرَم
إن الربيعَ لكالشَّباب وإنْ صيف يكسعه كالهرم
أشقائقَ النُّعمانِ بين رُبَى نُعمانَ أنتِ محاسنُ النِّعم
غدتِ الشقائقُ وهْي واصفة آلاء ذى الجبروت والعظم
تَرَفٌ لأبصارٍ كُحلنَ بها ليُرين كيف عجائبُ الحكم
شُعَلٌ تزيدك في النهار سنىً وتُضيءُ في مُحْلَوْلك الظُّلمِ
أعجب بها شعلا على فحم لم تشتعل في ذلك الفحم
وكأنما لُمَعُ السوادِ إلى ما احمرَّ منها في ضُحَى الرَهَم
حَدَقُ العواشق وسِّطَتْ مُقَلاً نَهلت وعلّت من دموع دم
يا للشقائق إنها قِسَمٌ تُزهى بها الأبصارُ في القسم
ما كان يُهدى مثلَها تُحفاً إلا تطوّل بارئِ النسم
شعر أبو تمام
رقت حواشي الدهر فهي تمرمر
وغدا الثرى في حليه يتكسر
نزلت مقدمة المصيف حميدة
ويد الشتاء جديدة لا تكفر
مطر يذوب الصحو منه وبعده
صحو يكاد من الغضارة يمطر
من كل زاهرة ترقرق بالندى
فكأنها عين عليه تحدر
من فاقع غض النبات كأنه
در يشقق قبل ثم يزعفر
أو ساطع في حمرة فكأن ما
يدنو إليه من الهواء معصفر
شعر أحمد شوقي
تِلكَ الطَبيعَةُ قِف بِنا يا ساري
حَتّى أُريكَ بَديعَ صُنعِ الباري
الأَرضُ حَولَكَ وَالسَماءُ اِهتَزَّتا
لِرَوائِعِ الآياتِ وَالآثارِ
مِن كُلِّ ناطِقَةِ الجَلالِ كَأَنَّها
أُمُّ الكِتابِ عَلى لِسانِ القاري
دَلَّت عَلى مَلِكِ المُلوكِ فَلَم تَدَع
لأدِلَّةِ الفُقَهاءِ وَالأَحبارِ
مَن شَكَّ فيهِ فَنَظرَةٌ في صُنعِهِ
تَمحو أَثيمَ الشَكِّ وَالإِنكارِ
للشاعر بديع الزمان الهمذاني
برق الربيع لنا برونق مائه فانظر لروعةِ أرضه وسمائهِ
فكأنَّه هذا الرئيس إذا بدا في خلقه وصفائه وعطائهِ
ما البحر في تزخاره والغيث في أمطاره والجود في أنوائهِ
بأجلّ منه مواهباً ورغائباً لا زال هذا المجد حول فنائه
والسادة الباقون سادة عصره ممتدحين بمدحه وثنائهِ
للشاعر صفي الدين الحلي
والياسَمينُ كعاشِقٍ قد شَفّهُ جورُ الحبيبِ بهجرهِ وصدودهِ
وانظرْ لنرجسهِ الشهيّ كأنهُ طرفٌ تنبيهَ بعدَ طولِ هجودهِ
وانظُرْ إلى المَنظُومِ من مَنثُورِهِ، متنوعاً بفصولهِ وعقودهِ
أو ما ترى الغيمَ الرقيقَ، وما بدا للعَينِ من أشكالِهِ وطُرُودِهِ
والسّحبُ تَعقُدُ في السّماءِ مآتماً والأرضُ في عُرسِ الزّمانِ وعيدِهِ
ندبتْ فشقّ لها الشقيقُ جيوبهُ، وازرَقّ سَوسَنُها للَطمِ خُدودِهِ
والماءُ في تيارِ دجلةَ مطلقٌ، والجِسرُ في أصفادِهِ وقُيُودِهِ
والغيمُ يحكي الماءَ في جريانهِ، والماءُ يحكي الغيمَ في تجعيدهِ
فابكُرْ إلى رَوضٍ أنيقٍ ظِلُّهُ، فالعيشُ بينَ بسيطهِ ومديدهِ
إبراهيم ناجي
جدّدي الحبَّ واذكري لي الربيعا إنني عشت للجمال تبيعا
أشتهي أن يلفَّني ورق الأيكِ وأثْوي خلف الزهورِ صريعا
آه دُرْ بي على الرِّفاق جميعاً واجعل الشمل في الربيع جميعا
لا تقل لي أشتر المسرَّة والجاه فإنِّني حُسنَ الربى لن أبيعا
فلغيري الدنيا وما في حماها إنني أعشقُ الجمالَ الرفيعا
أنا من أجله عصيتُ وعُدِّبْتُ وأقسمتُ غيرهَ لن أطيعا
وبطيبِ الربيع أقتاتُ زهراً وعبيراً ولا أُكابد جوعا
فَهو حسبي زاداً إذا عَفَت الدُّنيا وأقْوَتْ منازلاً وربوعا
وقال أيضا :
مرحى ومرحى يا ربيع العامِ أشرق فدْتك مشارقُ الأيامِ
بعد الشتاء وبعد طولِ عبوسه أرِنا بشاشةَ ثغرِكَ البسّامِ
وابعث لنا أرجَ النسيمِ معطراً متخطراً كخواطر الأحلامِ
للشاعر بدر شاكر السياب
حلم بآفاق السرور رسمته أجنحة الطيور، وبشائر فوق الربى بين الخمائل في الصدور
ونسائم رقصت على زهر الجنائن والغدير، وفراشة قد روحت عن زهرة الحقل النضير
تعلو وتهبط في الرياض كأنها نغم الحبور، الفجر يبني للندى ركناً جميلاً في الزهور
فلنبنِ من قبلاتنا للحبِّ عشاً في الثغور
للشاعر عبد الله البردوني
ولد الربيع معطّر الأنوار غرّد الهوى ومجنّح الأشعار
ومضت مواكبه على الدنيا كما تمضي يد الشادي على الأوتار
جذلان أحلى من محاورة المنى وأحبّ من نجوى الخيال السّاري
وألذّ من سحر الصبا وأرقّ من صمت الدموع ورعشة القيثار
هبط الربيع على الحياة كأنّه بعث يعيد طفوله الأعمار
فصبت به الأرض الوقور و غرّدت و تراقصت فتن الجمال العاري
وكأنّه في كلّ واد مرقص مرح اللّحون معربد المزمار
وبكلّ سفح عاشق مترنّم وبكلّ رابية لسان قاري
للشاعر رشيد أيوب
مرحباً ذبنَا اشتياقاً يا ربيع يا خفيفَ الرّوحِ أهلاً مرحبا
كلّما ضاءَ محَيّاكَ البديع هَبّتِ الأرضُ تباهي الكوكبَا
ومشى في سفحِ أضلاعي صريع ماتَ لَولا ذكرُ أيّامِ الصِّبَا
عَجَباً تمضي زماناً وتعود وربيعي قد مضى لم يرجعِ
مَن تُرى أنباك أسرارَ الخلود فتوَقّيتَ الرّدى لم تُصرَعِ
أم هيَ الأرضُ التي تبغي البقا عرَفت كيفَ البقا بالاقتصاد
فأبت عن حكمةٍ أن تُنفقا ما لديها حُسناً حتى المعاد
واكتسَت ثوبَ بهاءٍ مورِقاً ما لَهُ ما دامتِ الدنيا نَفاد
يا لَهُ ثوباً مُوَشًّى بالوُرود كلّ عامٍ يُرتدى لم يُنزعِ
حَبَذا لَو كان لي منه بُرُود كنتُ أرويها إذن من أدمُعي
للشاعر علي أحمد باكثير
يا من تفتَّح كالربيع لناظري فلمحتُ فيه شقائقاً وبهارا
والفُلَّ يشرقُ بالضياءِ وبالشَّذا، والنرجسَ النعسان والنُّوَّارا
والوردَ مخموراً يتمتم: ويحكم هيا اغنموا مُتع الحياةِ قصارا
متباين الألوانِ ألَّفَ بينها ذوق يبلبلُ سرُّه الأفكارا
تلك المفاتنُ ينتهين لغايةٍ ولقد يريبك أنها تتبارى
أمثولةُ الحسنِ البديعِ مرامُها تطوى لها المضمارَ فالمضمارا
فكأنَّها أحزابُ شعبٍ راشدٍ كلٌّ يجمِّع حوله الأنصارا
يتنافسون، وإنَّما مرماهم تحقيق آمال البلادِ كبارا
ما للجمالِ وللسياسة؟ إنَّه أهدى إلى قصد السبيلِ منارا
هو عالم ننساب في أطيافه ونعانق الأنداء والأنوارا
رفقاً بحبَّاتِ القلوبِ تسومُها سوءَ العذابِ وما جنت أوزارا
ألأنَّها تهفو لحسنكِ كلَّما لمحته أو هجست به تذكارا
يا لائمَ الأوتار في إرنانها مهلاً، بنانُك تضربُ الأوتارا
يا طاوي الأقدار تحت جفونه حتَّى لنخشاهُنَّ، لا الأقدارا
لمَّا أبيتَ على مشاعرنا الهوى هلاَّ مسختَ قلوبَنا أحجارا