بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس السابع عشر من سورة النمل.
الله تعالى شبَّهَ الكفار بالأنعام وبالكلب وكأنهم خشب مسندة:
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
﴿ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) ﴾
( سورة النمل)
شيءٌ دقيق جداً، وهو أنَّ الإنسان قد يكون حيّاً وميتاً في وقت واحد جسمه حيّ، وقلبه ينبض، ودمهُ يَجري، رئتاه تَخْفقان، وعضلاته تتحرّك، وأعصابه صالحة لِنَقل الإحساس والحركة، ولكنّ قلبه النفسيّ ميِّتٌ، لا يعي على خير، وربّنا عز وجل في هذا الموضوع ضربَ أمثلة كثيرة، فقد شبَّهَ الكفار بالأنعام، قال تعالى:
﴿ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا(44) ﴾
(سورة الفرقان)
شبَّهَ الذين حملوا التوراة أيْ تلقَّوْها مِن سيّدنا موسى، ولم يفْقهوها، ولم يعرفوا أبعادها، ولم يُطَبِّقوها بالحُمُر، قال تعالى:
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(5)﴾
(سورة الجمعة)
شبَّهَ الكفار كأنّهم خُشبٌ مسنَّدة، وشبَّههُم بالكلب، قال تعالى:
﴿ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(176) ﴾
(سورة الأعراف)
العناية بالجسد لا تنفعُ صاحِبَها شيئاً ولكنَّ البُطولة أن تعتني بالنَفس:
الإنسان ولو كان يتمتّع بِصِحّة طيّبة، وبِجِسم قويّ، العِبرة بِقَلب النفس، لأنَّه كما قال تعالى:
﴿ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ(88) ﴾
(سورة الشعراء)
ما الذي يعمله الناس الآن ؟ عِنايَةٌ فائقة بالجَسَد ؛ يخافُ على عَيْنَيْه، وعلى قلبه، ودائماً يُخَطِّط قلبهُ، وفُحوصات دَوْريَّة، وتحليلات مِخْبريّة لأنَّه يحرصُ على صحَته، وقلَّما نجد إنساناً يحرص على صِحَّة نفسِهِ ! وصِحَّة النَّفس هي المُعوَّلُ عليها، لأنَّ هذا الجسَد حينما ينتهي الأجل مصيرهُ إلى التراب:
إنَّ الطبيب لـه عِلْمٌ يُـدِلّ بـه إن كـان للناس في الآجال تأخير
حتى إذا ما انْقضَتْ أيَّام رحلتـه حار الطبيب وخانَتْهُ العقـاقيـر
***
مهما بالغْت في العناية به فلا بدَّ من ساعةٍ ينتهي فيها العُمُر، وينتقل فيها الإنسان إلى دار الحق، ولكنَّ البُطولة أن تعتني بهذه النَفس، والدليل قوله تعالى:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9)وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10) ﴾
(سورة الشمس)
الكفار يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، يعرف من أن تؤكلُ الكتف، وكيف تقتنص الفرَص ؟ وكيف يكون الرّبح ؟ عنده حواسّ ثابتة جدّاً، في البيع والشِّراء، وفي المكاسب والمغانم، وفي المغانم، فهذه الخِبرات في الدنيا لا تنفعُ صاحِبَها شيئاً.
من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً ومن آثر آخرته على دنياه ربحَهُما معاً:
قال تعالى:
﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ(7) ﴾
(سورة الروم)
في الآية إشارة دقيقة وهي أنَّهم حتى في الحياة الدنيا لا يعلمونها على حقيقتها، بل يعلمون فقط ظاهرها ! والحقيقة أنَ المؤمن يسْعَدُ في حياته الدنيا سعادةً لا يعرفها أهل الدنيا، لأنّ اسْتِقامتهُ على أمر الله تعالى تجعلهُ يسْتحقّ حياةً هادئةً، وحياةً مطمئنَّةً، وحياةً متوازنةً، ولأنَّ توكّلهُ على الله تعالى يجعلُهُ في طمأنينة، واعْتِقادهُ أنَّ الأمر كلّه بيَدِ الله تعالى يجعلهُ في راحةٍ قلبيَّة ولأنَّ اعتقادهُ أنّ الله تعالى حكيم، وأنَّ أفعاله كلّها في حقه خير، هذا يجعلهُ ينفي من قلبه الغلّ والحسد، فَالمؤمن إذا صحَّت عقيدتهُ، واسْتقام على أمر ربّه، وصحَّ عملهُ ؛ حياته فيها ميزات لا يعرفها أهل الدنيا، فلذلك من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً، ومن آثر آخرته على دنياه ربحَهُما معاً، والقضيّة خطيرة جدّاً، فأحياناً الإنسان لا يربح، وأحياناً يُحقق ربْحاً كبيراً جدّاً، وبِرأس مالٍ قليل، أحياناً أرباحٌ طائلة بِجُهودٍ صغيرة، أحياناً لا يربح، وأحياناً يدْفعُ خسارةً كبيرةً جدّاً، الإنسان إذا ضل طريق الحقّ يخْسرُ نفسهُ، ونفْسُه أثْمَنُ ما يمْلِكُ، فالجود بها أعلى أنواع الجود، والضنّ بها أعلى أنواع البُخل، وخسارتها أعلى أنواع الخسارة، فربّنا عز وجل أشار في هذه الآية إلى أنَّ هذا الكافر ميّت ! قال لي بعضهم: عدَ حياته قبل أن عرف الله عز وجل فقبل معرفة الله ؛ أمواتٌ غير أحياء ! كُتلة شهوات متحرّكة، إنسان هدفُهُ ذاته، يُؤْثِرُ حظَّهُ على كلّ شيء، يُضَحّي بكلّ شيءٍ من أجل لا شيءٍ.
أعلى درجة في المؤمن خوفه من الله تعالى:
أحدُ السُياح جال في قريةٍ فإذا مقبرتها عليها شواهد كلّها مكتوب عليها أعمار الموتى بأرقامٍ قليلة، خمس سنوات، سبع سنوات، عشرون سنة، فسأل ما القِصَّة ؟ فقالوا: نحن في هذه القرية لا نعدّ عمر الإنسان إلا بعد أن يؤْمن ! وبعد أن يعرف الله، وقبل هذا أموات غير أحياء!!
ليس مَن ماتَ فاسْتراحَ بِمَيِّتٍ إنَّما الـمـيّت مـيّــت الأحياء
***
أحياناً لا يجد الإنسان نبْضاً في قلبه ! يا ترى هل هناك حياة ؟! يضَعُ مرآةً على أنف هذا المريض، فإذا كان هناك تنفّس ضعيف جدّاً، لا بدّ من أن يرتسِمَ على المرآة بعض بخار الماء، ويفتحون العَين ويوجِّهون إليها ضوءاً شديداً، فإذا كانت هناك بقية حياة تضيقُ قُزَحِيّة العين، لا نبْض، ولا تنفّس، ولا ردود فِعل منْعَكِسَة إذن هو ميت، فأحياناً تلتقي بإنسان ميّت ؛ هو خبير بأُمور الدنيا، ولكن أمور الآخرة، وأمور الدِّين، وأمور ما بعد الموت، وأمور هذا الخالق العظيم، والإيمان، والطاعة لا يعرفُ عنها شيئاً ولا يريد أن يعرفَ، ويقول: هذا الموضوع لا يعنيني !! أموات غير أحياء، وأحياناً تجد إنساناً بالسِّتينات والسَّبعينات بالمقهى يلعب النَّرْد حتى ساعةٍ متأخِّرة من الليل، ولا يُصَلِّي، ماذا أبقى لآخرته ؟ وكيف سيَلْقى ربَّهُ ؟ أموات غير أحياء !
هذا الذي يرتكبُ المعاصي جِهاراً ولا يُبالي، ويأكل مالاً حراماً، ويأكل شيئاً ليس له، ويحتجّ دونك القضاء، فهذا من الأموات غير الأحياء، والمؤمن ـ والله الذي لا إله إلا هو ـ لو دَخَلَ عليه دِرهم حرام لما نام الليل ! يخاف الله عز وجل، وأعلى درجة بالمؤمن خوفه من الله تعالى، عندهُ حساسِيَّة بالغة، فأحياناً يكون للإنسان عصَب قد ضُغِطَ في بعض الفقرات، فيأتي الطبيب إلى مكان خاصّ في الرّكبة يضْربها بِمِطْرقة خاصَّة، فإذا الرِّجل تحرّكت، فمعنى ذلك أنَّ العصب جيّد، فإذا كان ردّ الفِعل ضعيفاً فهذا دليل الْتِهاب العصب، فعدم ردّ الفِعل دليل موت العصب فأحياناً يستمع الإنسان للقرآن، يضيقُ به ذرْعاً، ويحبّ أن يسمعَ الغناء، أموات غير أحياء، وأحياناً يضيقُ بِسَماع الخطبة أو الدّرس الديني ويقف على قدَمَيْه ساعات طويلة في حديث فارغ، وفي كلامٍ لا طَعْم له أما أن يسْتمِعَ إلى درسٍ ديني، فهذا لا يحْتملُهُ !!
المراجع
هذا جزء مقتبس من دروس الشيخ
محمد راتب النابلسي فى تفسيره آيات من سورى النمل