ذه المعية .
السؤال:
جاء في تفسير أبي حيان في قوله تعالى
وهو معكم) :وهذه آية أجمعت الأمة على هذا التأويل فيها، وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات ، وهي حجة على من منع التأويل في غيرها مما يجرى مجراها من استحالة الحمل على ظاهرها ، وقال بعض العلماء: فيمن يمتنع من تأويل ما لا يمكن حمله على ظاهره ، وقد تأول هذه الآية ، وتأول الحجر الأسود يمين الله في الأرض، لو اتسع عقله لتأول غير هذا مما هو في معناه. فهل يمكن حمل النزول الإلهي على ظاهره مع استواء الله عز وجل على العرش ؟ وما الذي جعل ابن عباس رضي الله عنهما يؤول هذه المعية ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا :
أبو حيان ، هو : محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان ، أثير الدين الأندلسي النحوي (توفي 745ه) .
قال الإمام الحافظ الذهبي ، رحمه الله :
" محمد بن يوسف بن علي بن حيان ، العلامة الأوحد ، أثير الدين أبو حيان ، الأندلسي الجياني الغرناطي ، المقرئ النحوي .
ولد سنة أربع وخمسين [ يعني : وستمائة ] ، وكتب العلم سنة سبعين ، وهلم جرا ...
أخذ بغرناطة عن أبي جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي الحافظ ، والمقرئ أبي جعفر أحمد بن علي ابن الطباع الرعيني وغيرهما ، وقرأ القراءات بالإسكندرية ..
وأخذ علم الحديث عن شيخنا الدمياطي وغيره ، وسمع من عبد العزيز بن الصيقل وغازي الحلاوي وطبقتهما .
ومع براعته الكاملة في العربية : له يد طولى في الفقه والآثار والقراءات ، وله مصنفات في القراءات والنحو ، وهو مفخرة أهل مصر في وقتنا في العلم ، تخرج به عدة أئمة .. " .
انتهى من "معرفة القراء الكبار" للذهبي (2/724) .
وينظر أيضا : "البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع" للشوكاني (2/291) .
وأبو حيان ، وإن كان مقامه في العلم ، وتفننه فيه ما ذكرنا ، إلا أنه كان في أبواب الكلام على طريقة الأشعرية ، ولا سيما في مسائل الأسماء والصفات ، كما غلبت العادة بذلك على كثير من أهل زمانه .
وقد تتبع الشيخ عبد الرحمن المغراوي حفظه الله ، نصوص أبي حيان في مسائل الأسماء والصفات ، ونقل كلامه عليها ، بما يدل بوضوح على نزعته الأشعرية في تقرير مسائل هذا الباب .
ينظر للفائدة: "المفسرون بين التأويل والإثبات" عبد الرحمن المغراوي (3/1087) وما بعدها.
ثانيا :
يطلق بعض العلماء أن ظاهر نصوص الصفات – أو بعضها – غير مراد ، وبعضهم يدعي الإجماع على ذلك ، ثم يستند إلى ذلك الإجماع في نفي الصفات وتأويلها .
وهذه الكلمة (ظاهرها غير مراد) : فيها إجمال ، فتحتاج إلى التفصيل والبيان حتى يتبين المراد منها .
فيقال لقائل ذلك : ماذا تعني بـ (ظاهرها) ؟ هل تعني أن ظاهر قوله تعالى : ( وهو معكم أينما كنتم ) أن ذاته سبحانه وتعالى موجودة مع الخلق في كل مكان ، ويحيط بها المكان كما يحيط بالخلق ؟
فإن قصدت هذا المعنى ، فنحن نوافقك قطعا : أن هذا المعنى غير مراد بهذه الآية ، ولا بغيرها ، وهو ـ أيضا ـ باطل في نفسه !!
ولكننا نخالفك فنقول : إن هذا ليس هو ظاهر النص ، ولا تدل الآية الكريمة بظاهرها على هذا المعنى الفاسد الذي تطرق إلى ذهنك ، فإن القرآن نزل باللغة العربية ، واللغة العربية لا تدل على ذلك كما سيأتي .
أما إن قصدت أن الآية تثبت بظاهرها معية لله تعالى لخلقه ، خاصةً بالله ، لا تشبه معية المخلوقين بعضهم مع بعض ، وهو سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه ، عالٍ على خلقه ، غير مختلط بهم . ومن لوازم هذه المعية : أن يكون الله مطلعا عليهم ، عالما بهم ، سميعا بصيرا إن قصدت هذا المعنى فنحن نؤمن به ، ونقول : إن هذا هو ظاهر الآية الكريمة ، ولم ينعقد إجماع على خلاف هذا المعنى ، بل إجماع أهل السنة على إثباته ، والإيمان به .
ولا شك أن الغلط في فهم دلالات النصوص ، ولوازم هذه الدلالات ، أو اعتقاد ما ليس لازما ، لازما ؛ كان من أكبر الدوافع إلى التأويل الباطل الذي صرف النصوص الشرعية عن دلالتها الظاهرة ، بمقتضى اللغة ؛ حيث ظنوا أن ما تدل عليه النصوص بظاهرها لا يليق بالله تعالى ، فوجدوا أنفسهم مضطرين إلى التأويل ، مع أن ظاهرها ، الذي هو ظاهرها على الحقيقة : لا محذور فيه ، ولا يلزم عنه محذور ولا نقص في حق الله جل جلاله ، وتعالى أن يخاطب عباده بغير ما يدل على كماله ، وجماله ، وجلاله ، سبحانه : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"وَقَدْ نَقَلَ طَائِفَةٌ من المتأخرين أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ أَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ ...
وَالظَّاهِر لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ؛ فَالظَّاهِرُ الَّذِي لَا يَلِيقُ إلَّا بِالْمَخْلُوقِ غَيْرُ مُرَادٍ ، وَأَمَّا الظَّاهِرُ اللَّائِقُ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ فَهُوَ مُرَادٌ" .
انتهى من "مجموع الفتاوى" (3/207) ، وانظر (ص 43 وما بعدها) من المجلد نفسه ففيها بيان ذلك بالتفصيل .
ثالثا :
قوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) الحديد/ 4 ، وقوله : (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) المجادلة/ 7 .
نقل ابن عبد البر رحمه الله إجماع الصحابة والتابعين على أنهم قالوا في معناها : (هو على العرش ، وعلمه في كل مكان) . " التمهيد " (7/138) ، انظر : " مجموع الفتاوى " (3/236) ، (5/495) .
وقال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء :
" قوله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) معناه عند أهل السنة والجماعة : أنه معهم بعلمه واطلاعه على أحوالهم " انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (3/ 218) .
وانظر : " تفسير ابن كثير" (4/ 615) ، "تفسير السعدي" (ص 838) .
وهذا ليس تأويلا للآية ، بما يطلق عليه التأويل عند المتأخرين ، من أنه صرف اللفظ عن ظاهره ، لدليل اقتضى ذلك ؛ بل هو بيان لمعناها الذي دلت عليه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"فَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِالْعِلْمِ وَخَتَمَهُ بِالْعِلْمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: هُوَ مَعَهُمْ بِعِلْمِهِ " انتهى من " مجموع الفتاوى " (11/249) .
وقال أيضا :
" لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالْخَلْقِ، فَإِنَّ هَذَا لَا تُوجِبُهُ اللُّغَةُ ، وَهُوَ خِلَافُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ ، وَخِلَافُ مَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْخَلْقَ ؛ بَلْ الْقَمَرُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مِنْ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ : هُوَ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ ؛ وَهُوَ مَعَ الْمُسَافِرِ وَغَيْرِ الْمُسَافِرِ أَيْنَمَا كَانَ .
وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ ، رَقِيبٌ عَلَى خَلْقِهِ ، مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمْ ، مُطَّلِعٌ إلَيْهِمْ ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي رُبُوبِيَّتِهِ.
وَكُلُّ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ - مِنْ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَعَنَا - حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَحْرِيفٍ وَلَكِنْ يُصَانُ عَنْ الظُّنُونِ الكاذبة " انتهى من "مجموع الفتاوى" (3/ 142) .
ويعني بالظنون الكاذبة ؛ أن يظن أحد أن ظاهر النص يدل على تمثيل صفات الله بالخلق ، أو أن ظاهرها يثبت نقصا لله تعالى ... ونحو ذلك .
وهذه الظنون الكاذبة الخاطئة هي التي وقع بسببها من وقع في التأويل .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" لا ريب أن السلف فسروا معية الله تعالى لخلقه في الآيتين بالعلم، وحكى بعض أهل العلم إجماع السلف عليه، وهم بذلك لم يؤولوها تأويل أهل التعطيل، ولم يصرفوا الكلام عن ظاهره، وذلك من وجوه ثلاثة:
الأول: أن الله تعالى ذكرها [يعني : المعية] في سورة المجادلة بين عِلْمين ، فقال في أول الآية: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ، وقال في آخرها: (إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ؛ فدل ذلك على أن المراد أنه يعلمهم ولا يخفى عليه شيء من أحوالهم.
الثاني: أن الله تعالى ذكرها في سورة الحديد مقرونة باستوائه على عرشه الذي هو أعلى المخلوقات، فقال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) إلى قوله: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) ؛ فدل على أن المراد معية الإحاطة بهم ، علما وبصرا، لا أنه معهم بذاته في كل مكان، وإلا لكان أول الآية وآخرها متناقضا.
الثالث: أن العلم من لوازم المعية، ولازم اللفظ من معناه ، فإن دلالة اللفظ على معناه من وجوه ثلاثة: دلالة مطابقة، ودلالة تضمن، ودلالة التزام ، ولهذا يمكن أن نقول: هو سبحانه معنا بالعلم، والسمع، والبصر، والتدبير والسلطان وغير ذلك من معاني ربوبيته ، كما قال تعالى لموسى وهارون: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) ، وقال هنا في سورة الحديد: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) .
فإذا كان العلم من لوازم المعية : صح أن نفسرها به ، وبغيره من اللوازم التي لا تنافي ما ثبت لله تعالى من صفات الكمال، ولا يعد ذلك خروجا بالكلام عن ظاهره" .
انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (1/ 247-250) .
وقال الشيخ ابن عثيمين أيضا :
" المعية لا تقتضي الحلول والاختلاط، بل هي في كل موضع بحسبه، ولهذا يقال: سقاني لبنا معه ماء. ويقال: صليت مع الجماعة. ويقال: فلان معه زوجته.
ففي المثال الأول: اقتضت المزج والاختلاط، وفي الثاني اقتضت المشاركة في المكان والعمل بدون اختلاط، وفي الثالث اقتضت المصاحبة ، وإن لم يكن اشتراك في مكان أو عمل .
وإذا تبين أن معنى المعية يختلف بحسب ما تضاف إليه، فإن معية الله تعالى لخلقه تختلف عن معية المخلوقين لمثلهم ، ولا يمكن أن تقتضي المزج والاختلاط أو المشاركة في المكان؛ لأن ذلك ممتنع على الله عز وجل لثبوت مباينته لخلقه وعلوه عليهم .
وعلى هذا يكون معنا، وهو على العرش فوق السماوات ، لأنه
محيط بنا علما، وقدرة ، وسلطانا، وسمعا، وبصرا، وتدبيرا، وغير ذلك مما تقتضيه ربوبيته .
فإذا فسرها مفسر بالعلم : لم يخرج بها عن مقتضاها، ولم يكن متأولا ، إلا عند من يفهم من المعية المشاركة في المكان أو المزج والاختلاط على كل حال ؛ وقد سبق أن هذا ليس بمتعين في كل حال" انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (1/ 118) .
وبهذا يتبين أن السلف لم يتأولوا الآية على خلاف ظاهرها ، وأن عبد الله بن عباس حين فسرها بقوله : (هو على العرش وعلمه معهم ) لم يكن ذلك تأويلا ، بما يفهمه المتأخرون من لفظ التأويل .
وينظر : " مجموع الفتاوى " (5/495) .
وبهذا - أيضا - يتبين : أنه لا حجة للمؤولة في هذه الآية ، وتفسير السلف لها ، على مذهبهم في الصفات ، ولا على لزوم تعطيل شيء من دلالات النصوص على هذا الباب .
وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (224764) ، ورقم : (192564).
رابعا :
استواء الله تعالى على عرشه فوق سمواته ، لا ينافي نزوله سبحانه كل ليلة إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير ، لأن الله تعالى أثبت الصفتين معا ، فلا يمكن أن يكون بينهما منافاة ، وصفات الله تعالى لا تماثل صفات المخلوقين .
قال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء :
" لا تعارض بين نزوله تعالى إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من كل ليلة مع اختلاف الأقطار، وبين استوائه عز وجل على العرش؛ لأنه سبحانه لا يشبه خلقه في شيء من صفاته، ففي الإمكان أن ينزل كما يشاء ، نزولا يليق بجلاله ، في ثلث الليل الأخير بالنسبة إلى كل قطر، ولا ينافي ذلك علوه واستواءه على العرش؛ لأننا في ذلك لا نعلم كيفية النزول ولا كيفية الاستواء، بل ذلك مختص به سبحانه، بخلاف المخلوق فإنه يستحيل في حقه أن ينزل في مكان ويوجد بمكان آخر في تلك اللحظة كما هو معلوم، إلا الله عز وجل فهو على كل شيء قدير، ولا يقاس ولا يمثل بهم؛ لقوله عز وجل: (فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ) ، وقوله سبحانه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، ومما ذكرناه يتضح لك أنه لا تعارض بين نزوله واستوائه ، وأن اختلاف الأقطار لا يؤثر في ذلك " انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (3/ 186) .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
" نزول الرب جل وعلا لا يشابه نزول المخلوقين، بل هو نزول يليق بالله سبحانه وتعالى، لا يعلم كيفيته إلا هو جل وعلا، ولا يلزم منه خلو العرش، هو فوق العرش سبحانه وتعالى، فوق جميع الخلق، وينزل نزولا يليق بجلاله، لا ينافي فوقيته وعلوه سبحانه وتعالى، فهو نزول يليق به جل وعلا، وهو الذي يعلم بكيفيته سبحانه وتعالى، فعلينا أن نؤمن بذلك، ونصدق بذلك، ونقول: لا يعلم كيفية هذا إلا هو سبحانه وتعالى " .
انتهى من"فتاوى نور على الدرب" (10/ 131) .
وينظر جواب السؤال رقم : (140434)، ورقم: (34810) .
وينظر أيضا للفائدة : جواب السؤال: (239962 ) .
والله أعلم .