يؤمن المسلمون بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - إيماناً جازماً لا شك فيه ولا ريب، ويستندون في إيمانهم هذا إلى الكثير من الدلائل العقلية والنقلية التي تثبت نبوته، وتصحح رسالته .
من تلك الدلائل العقلية ظهور معجزاته – صلى الله عليه وسلم
- كشق القمر، ونطق الحجر، وخروج الماء من بين أصابعه، وأكبر معجزاته - صلى الله عليه وسلم – وأعظمها القرآن الكريم بما فيه من إعجاز في نظمه ولفظه وخبره وتشريعه.
ومن الدلائل النقلية على نبوته - عليه الصلاة والسلام
– ما بقي في كتب اليهود والنصارى من بشارات الأنبياء السابقين كإبراهيم وموسى وعيسى - عليهم السلام –، حيث افتخر - صلى الله عليه وسلم – بذلك، فقال: ( أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى ) رواه أحمد ، وأخبر القرآن الكريم أن أهل الكتاب المعاصرين لمحمد - صلى الله عليه وسلم - { يعرفونه كما يعرفون أبناءهم }(البقرة:146)، وذلك أنهم : { يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل }(الأعراف:157)، بل أخبر سبحانه أن من الغايات التي أرسل لأجلها عيسى - عليه السلام - البشارة بنبي الإسلام، قال تعالى: { ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد }(الصف:6)، إلا أن النصارى اليوم يقفون مما بقي من هذه البشارات موقف المنكر لها، الجاحد لوجودها، ويتأولونها تأويلات تلوي أعناقها، وتحرفها عن مقصودها .
وسنحاول مناقشتهم في بعض هذه البشارات، ليعلم المنصف أن خبر القرآن بوجود البشارات حق وصدق .
وأن نفي النصارى لها، أو تحريفهم لفهمها أمر مردود عليه . كما سيتضح ذلك من خلال ذكر الأمثلة.
المثال الأول: البشارة بنبي الإسلام في التوراة
فمما يذكره العلماء في ذلك ما جاء في سفر التثنية – إصحاح 18 الفقرة: 18 : قول الرب لموسى - عليه السلام -: " أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به " فهذه النبوة تتحدث صراحة عن إرسال رسول جديد من غير تحديد اسمه، ولكن بذكر بعض أوصافه، ككونه مثل موسى – عليه السلام -، وكونه لا يتكلم من عند نفسه، ولكن بما يوحيه الله إليه .
ويعتقد النصارى أن هذه البشارة تنطبق على عيسى - عليه السلام – ويقولون: إن عيسى مثل موسى لكونه يهودي الأصل، يهودي الشريعة، وكونه من وسط اليهود وخيارهم، فهو من ذرية داود - عليه السلام –، وقد أوحى الله إليه بمواعظ وأمثال بلغها قومه، وعلمها تلاميذه .
ويجيب المسلمون عن ذلك بأن البشارة المذكورة لم تذكر اسماً معيناً فيصبح تعيينه نصاً لا يجوز الخروج عليه، وإنما ذكرت أوصافاً معينة لهذا النبي المبشر به، وهو ما يجعل باب الاجتهاد مفتوحاً في تفحص هذه الأوصاف، لمعرفة الأحق بها، وقد نظرنا في البشارة فوجدناها حوت عدة صفات للآتي، منها: أنه نبي وليس إلها، ومنها أنه مثل موسى، ومنها أنه من إخوة بني إسرائيل لا من أنفسهم، ومنها أنه يتكلم بما يوحى إليه . وقد عقد العلماء مقارنة بين محمد وعيسى – عليهما السلام – للتحقق أيهما أشد شبها بموسى - عليه السلام - فوجدوا أن شبه محمد بموسى – عليهما السلام – أقرب من شبه عيسى بموسى، وذلك من عدة أوجه:
الوجه الأول: أن محمد كموسى ولد من أب وأم، في حين أن عيسى ولد من أم من غير أب .
الوجه الثاني: أن محمداً وموسى – عليهما السلام – بعثا رسولين، وكان لكل منهما شريعة جديدة، في حين أن عيسى – عليه السلام – كان نبياً فقط، ولم يبعث بشرع جديد، بل كان يؤكد أنه ما جاء لينقض شريعة موسى (متى5) .
الوجه الثالث: أن كلاً من محمد وموسى – عليهما السلام – كان حاكماً على قومه، قائداً لشعبه، في حين أن عيسى لم يمارس أي سلطة سياسية على قومه وأتباعه بل كان يردد أن مملكته ليست في هذا العالم ( يوحنا:36:18) .
الوجه الرابع: أن محمداً كموسى – عليهما السلام - مات ميتة طبيعية في حين يعتقد اليهود والنصارى أن المسيح – عليه السلام - مات مصلوباً مهاناً، ويعتقد المسلمون أنه رفع إلى السماء.
ولاشك أن هذه الفروق تظهر بجلاء تام أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - مثل موسى ولادة ورسالة وقيادة وموتاً في حين يختلف المسيح عنهما في ذلك، فكيف يقال أنه مثل موسى - عليهم جميعا صلوات الله وسلامه -.
وأما قول النصارى أن المسيح من بني إسرائيل ومحمدا ليس منهم، فصحيح ولكن البشارة تقول إن النبي الآتي سيكون من إخوة بني إسرائيل لا من أنفسهم، بمعنى أنه سيكون من غير بني إسرائيل، ومن المعلوم أن العرب العاربة هم أبناء عمومة مع بني إسرائيل، فإن إبراهيم رزق بإسماعيل أبو العرب العاربة، ورزق كذلك بإسحاق الذي ولد له يعقوب أبو الإسرائيليين، فقول الرب لموسى : " أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم" يدل على أنه ليس من بني إسرائيل، إذ لو أراد ذلك لقال من أنفسهم لا من إخوتهم، وهناك شواهد كثيرة من التوراة تدل على أن لفظ الإخوة يطلق على أبناء العم، فمن ذلك قول موسى لبني إسرائيل: " أنتم مارون بتخم إخوتكم بنو عيسو " (التثنية 2/4)، وعيسو الابن البكر لإسحاق - عليه السلام – فأطلق على أبنائه إخوتهم . فإن قيل لم لا يراد بإخوة بني إسرائيل في بشارة الرب لموسى بني عيسو وهو الروم، فالجواب أن الروم لم يظهر فيهم نبي في مقام عيسى - عليه السلام - فضلاً أن يكون في مقام موسى ومحمد - صلوات الله وسلامه عليهم – وهم مع ذلك لم يدعوا هذا الفضل لهم .
وأما قول النصارى بأن المراد من قول الرب لموسى: " وأجعل كلامي في فمه" الوحي الذي أوحاه الله لعيسى – عليه السلام – فيقال: وكذلك يمكن أن يقال ذلك في محمد - عليه الصلاة والسلام - فإن الله وصفه بأنه { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى }(النجم:3-4) وهو تعبير يشابه إلى حد كبير بشارة موسى – عليه السلام - .
وهذه المقاربة والمقارنة بين محمد والمسيح - عليهما السلام - إنما تصح بناء على اعتقاد المسلمين في المسيح - عليه السلام - بأنه عبدالله ورسوله، أما على اعتقاد النصارى بألوهية المسيح وربوبيته، فالمقارنة أبعد ما تكون، بل لا تصح البتة، فالبشارة الموسوية تقول: "يقيم لهم نبياً "، والنصارى يقولون: إن المسيح إله حق من إله حق، فهل يتخلى النصارى عن وصف المسيح بالألوهية حتى تنطبق عليه نبوة موسى ؟!!.
-------------------------------------------
المثال الثاني: البشارة بنبي الإسلام في الإنجيل
أما النصوص التي يستدل بها العلماء على وجود البشارة بنبي الإسلام في الإنجيل فهي ما ورد في إنجيل يوحنا (14:16-17) على لسان المسيح - عليه السلام – أنه قال: " أنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر، ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه، لأنه ماكث معكم ويكون فيكم ".
وجاء في إنجيل يوحنا (14: 25-26): "بهذا كلمتكم وأنا عندكم وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم".
وفي نفس الإنجيل أيضاً (15: 26-27): "ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من الابتداء".
وفيه كذلك (16: 7- 11): " لكني أقول لكم الحق، إنه خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم، ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية، وعلى بر، وعلى دينونة، أما على خطية؛ فلأنهم لا يؤمنون بي، وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضاً، وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دِين، إن لي أمورًا كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم".
فهذه النصوص الكثيرة من إنجيل يوحنا توضح البشارة التي حملها المسيح عليه السلام بمقدم ومبعث نبي جديد، لا يتكلم من عند نفسه، بل يتكلم بما يوحى إليه، غير أن النصارى حملت هذه البشارات على مقدم نبي جديد، بل على "الروح القدس" واعتمدت في ذلك على أمور:
------------------------------------------------
الأمر الأول: إنهم قالوا: إن الكلمة اليونانية محل البحث هي "IIAPAKAHTOE" و ليست ""IIEPIKAHTOE، وبالحروف الإفرنجية "PARACLETOS" (باراكليتس ) وليست "PERICLETOS" ( بركليتوس ) فالأولى معناها المُعزى، وهي التي نقلناه في النصوص السابقة، والثانية المشهور والمحمود .
الأمر الثاني: قالوا: إن المسيح وصف الباركليتس – وفق النصوص السابقة - بأنه لا يرى، وأنه يمكث إلى الأبد، وأنه يحل في التلاميذ، ولا شك أن محمداً بشر مرئي، وليس بمخلد، ولم يحل في التلاميذ .
الأمر الثالث: قالوا: إن المسيح قال : " ولكن إن ذهبت أرسله إليكم " فهل يعتقد المسلمون أن نبيهم رسول المسيح، وليس رسول الله .!!؟
الأمر الرابع: قالوا أن وعد المسيح لتلاميذه بإرسال المعزي، قد تحقق بحلول روح القدس عليهم، ففي أعمال الرسل: إصحاح 2/ 1- 4 : " ولما حضر يوم الخمسين كان الجميع معاً بنفس واحدة، وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة، وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين، وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت على كل واحد منهم، وامتلأ الجميع من الروح القدس، وابتدؤوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا ".
الأمر الخامس: قالوا: إن المسيح وصف الآتي بعده بأنه روح، فقال: " روح الحق" ومن المعلوم أن نبي الإسلام كان بشراً ولم يكن روحاً.
وقبل الرد على دعاوى النصارى هذه يجب أن نذكّر بنقطة غاية في الأهمية، وهي أن اللغة التي كان يتحدث بها المسيح - عليه السلام - وتلاميذه هي الآرامية، واللغة التي كتب به الإنجيل الرابع "يوحنا" هي اليونانية، وبالتالي فنحن نتحدث عن ترجمة كلمة هي في الأساس مترجمة، وبالتالي فاحتمال الخطأ في ترجمتها من اللغة الأساسية " الآرامية" إلى اللغة " اليونانية" وارد، وقد ظل الأوربيون واللاتينيون ولقرون طويلة يكتبون اسم "Muhammad" على أنه "Mahomet" وأسم "Mushi" على أنه "Moses"، فهل من عجب أن يكون أحد الرهبان النصارى أو النساخين قد حرف اسم ( أحمد periqlytos ) "بيروكليت" إلى ( paraklytos ) الذي تفسره النصارى بالمعزي والمؤيد والمحامي .
وقد أوضح الدكتور عبد الأحد داود القس السابق الذي أسلم، أن الكلمة التي ورد بها الإنجيل هي "بيروكليت" وتعني الأكثر شهرة وحمداً، وهو ما ينطبق على اسم النبي محمد، وأوضح خطأ تفسير الكنيسة لكلمة ( paraklytos ) ب"المعزي والمؤيد" وأيد ذلك بأن ترجمة المعزي في اللغة اليونانية هي: ( باراكالون parakalon ) أو باريجوريتس (parygorytys ) المشتقة من ( أنا أعزي )، وأن كلمة ( بارا كالون parakalon ) تحمل أيضاً معنى ( الوسيط أو المحامى ).
هذا ما يتعلق بالرد على الوجه الأول من الوجوه التي ذكروها في بيان أن المراد بال"
بيروكليت" - المعزي وفق ترجمتهم - هو الروح القدس لا نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم -.
أما الرد على بقية الوجوه، فنرى ضرورة الوقوف على الأوصاف التي وردت في النصوص السابقة من إنجيل يوحنا ودراستها لنستجلي من خلالها المقصود والمراد بها، هل هو الروح القدس حقاً ؟ أم أن المراد منها نبي الإسلام – عليه الصلاة والسلام- ؟ هذا مع غض النظر عن الاسم الوارد في البشارة هل هو "محمد أو أحمد" أو "المعزي والمؤيد والمحامي" فكل الألفاظ تصح في حقه، وتنطبق عليه – صلى الله عليه وسلم -، فهو محمد وأحمد، وهو المؤيد الذي أيد الله به دينه، ونشر به رسالته، وألغى به كل المعتقدات الفاسدة التي كانت في الأمم قبله، وهو المحامي الذي حمى الله به الدين الحق ودافع عنه، وهو المعزي الذي عزى البشرية في مصابها في دينها وأخلاقها، وأبدلها مكان الشرك توحيداً، ومكان الفساد أخلاقا ورفعة .
تابعوني حبيباتي لنستكمل جزاكن الله خيرا