"من بين رماد الهزيمة صعدت ألمانيا الجديدة".. هكذا يمكن أن نلخص قصة ألمانيا القوية الآن، التى كانت منكسرة ومنهزمة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية فى الثانى من سبتمبر عام 1945، فبعد انتحار "هتلر" وسقوط برلين استسلمت ألمانيا استسلامًا غير مشروط وأعلنت الوصاية عليها من قبل دول الحلفاء، وقسمت بين ألمانيا الشرقية تحت سيطرة الاتحاد السوفيتى الاشتراكى، وألمانيا الغربية تابعة للمعسكر الغربى الرأسمالى، وفقدت ألمانيا الكثير من مقومات الدولة، كل بنيتها الأساسية انهارت، حتى قواها البشرية ترنحت كثيراً بسبب المعارك العسكرية التى طالت غالبية المدن الألمانية فحولتها إلى خراب.
وسط هذا الخراب والدمار برز عنصر أساسى هو الذى ساعد على أن تتحول ألمانيا من الدولة المنهزمة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وحتى اجتماعياً فى الحرب العالمية الثانية، إلى قاطرة القارة الاوربية حالياً، والقوة الاقتصادية التى لا يستهان عالمياً.. هذا العنصر هو المواطن الألمانى الذى لم يرتكن للماضى، وقت أن كانت ألمانيا قبل هزيمتها فى الحرب العالمية الثانية، بعبع العالم، وإنما فطن إلى حقيقة واحدة وهى أنهم مهما انتظروا مساعدة الآخرين فلن يتقدموا خطوة واحدة للأمام، وأن البناء لن يكون إلا بأيدهم فقط، فلم ينتظروا مساعدة منه أو من أحد، بل راحوا يبنون بلدهم بأنفسهم، فتحت ضغط الحاجة تولد لدى الألمان تدريجيًا الشعور بالمسئولية فى إعادة بناء مساكنهم المهدمة، وتولت المرأة الألمانية المسئولية حيث كانت لها الغلبة فى المشاركة مقارنة بالرجال، ومن ركام الحطام صاغوا شعارات أعلنوا من خلالها تحدى واقع الهزيمة المريرة.. كتبوا على جدران المنازل المهدمة "المستحيل ليس ألمانيًا" و"ألمانيا لا تعرف المستحيل"، ولم يكتفوا بالشعارات وإنما استخدموا لتكون وقود عمل لهم، ومن هنا بدأت مرحلة بناء المنازل وترميم ما تم تدميره.
بناء ألمانيا بدأ بعد أن وضعت الحرب أوزارها بأيام قليلة، فالتكاتف بين الألمان هو ما أوصلهم إلى الحالة التى عليها الدولة الألمانية حالياً.. وإذا راجعت أرشيف الدولة الألمانية المنشور على شبكة الإنترنت سواء فى صور أو فيديوهات تؤرخ لمرحلة ما بعد الهزيمة سترى بعينك كيف أصطف الألمان بجانب بعضهم البعض، لا فرق بينهم مطلقاً، اصطفوا ليرفعوا أنقاض الحرب بأنفسهم دون حتى انتظار لمساعدة من أحد، حتى من مؤسسات الدولة التى خرجت منهارة أساساً من الحرب.
"الشعب الألمانى بعد أسبوعين من انتهاء الحرب العالمية الثانية"، اسم لفيديو عبقرى موجود على موقع "يوتيوب" إذا شاهدته ستكتشف عظمة هذا الشعب، فبعد الهزيمة كان من المفترض كما الحال عندنا أن يرتكن الشعب إلى الحديث عن الأسباب ومن يتحمل المسئولية وغيرها من الحوارات التى تأخذ الكثير من وقتنا دون أن تصل بنا إلى نتيجة عملية على أرض الواقع.. نتحدث دون نتيجة، كل منا يتحول إلى فيلسوف وخبير.. الألمان وقتها لم يفعلوا ذلك، إنما حاولوا بداية رفع الروح المعنوية لما تبقى من جنودهم، ثم تحول كل ألمانى إلى يد عاملة لا تبحث عن المجد السوشيالى، وإنما المساعدة فى رفع أنقاض الحرب ومساعدة من أعيتهم الحرب سواء بإمدادهم بالمياه أو انتشال أنقاضهم من تحت الركام التى خلفتها آليات الحرب.
النتيجة المنطقية التى ستخرج منها عزيزى القارئ بعد مشاهدتك لهذا الفيديو وغيره من الفيديوهات التى توثق لنا وللأجيال المتعاقبة كيف صنع الألمان نهضتهم من تحت ركام الحرب، أن الشعب الألمانى يدين بالولاء، والولاء هنا ليس كلمات شعر تقال أو أغنية يتغنى بها الشعب الألمانى بل أن الولاء عندهم يعنى الإتقان فى العمل، فكل منهم يمجد عمله ويتقنه حتى عامل النظافة يؤمن بقيمة وأهمية ما يقوم به، وربما هذا ما يجعلنا أكثر ثقة فى المنتجات الألمانية، فهذه الثقة لم تأت من فراغ، بل هى نتاج عمل وإيمان قوى لدى الألمان بالولاء لبلدهم.
من ينظر لألمانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وألمانيا الآن سيتأكد أن الفارق كبير، حتى وأن حاول البعض القول بان خطة "مارشال" الاقتصادية ساعدت فى نهضة ألمانيا، لكن هذه الخطة لم تكن قاصرة فقط على ألمانيا بل على كل الدول التى خسرت بسبب الحرب العالمية الثانية، لكن الألمان وحدهم من حققوا النجاح بشكل مبهر، والسبب أنهم شعب لديه أيمان قوى بدولته، وأنه هو الوحيد القادر على بناء دولته، دون انتظار مساعدة من أحد.
ألمانيا الآن تنتمى لقائمة أكثر بلدان العالم الصناعى تطورا وأقواها أداء، ووفقاً للأرقام فأنها تشكل بعد الولايات المتحدة واليابان والصين رابع أكبر اقتصاد فى العالم، وهى أكبر وأهم سوق فى الاتحاد الأوروبى، حدث ذلك لأن الشعب الألمانى لا يعرف المستحيل، فاستطاعت ألمانيا بسواعد أبنائها النهوض لتسترد كرامتها المهدرة بعد هزائم الحربين العالميتين الأولى والثانية، ونجحت فى تقديم نفسها كنموذج للدولة الرائدة والمتقدمة اقتصاديًا وإداريًا، ونجحت فى بناء نهضتها الاقتصادية التى أبهرت العالم كله.