بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سفر الليل لا يطيقه إلى مضمر المجاعة، تجتمع جنود الكسل فتتشبث بذيل التواني، فتزين حب النوم، وتزخرف طيب الفراش، وتخوف برد الماء، فإذا ثارت شعلة من نار الحزم، أضاءت بها طريق القصد، فسمعت أذن اليقين هاتف: هل من سائل؟
فَقُمتُ أَفرِشُ خَدِّي في الطَريقِ لَهُ ... ذُلاً وَأَسحَبُ أَجفاني عَلى الأَثَرِ
نفس المحب في الليل على آخر نفس، وفي " المتعبدين قوة " وهم يستغفرونن صراخ الأطفال غير بكاء الرجال، سهر الليل هودج الأحباب، يوقظ نسيم الأسحار أعين ذوق الأخطار، فلو رأيتهم
وَقَد لاحَت الجوزاءُ وَأنحَدَرَ النَّسرُ
قد افترشوا بساط " قيس " وباتوا بليل " النابغة " إن ناموا توسدوا أذرع الهمم، وإن قاموا فعلى أقدام القلق، كأن النوم حلف على جفاء أجفانهم
هَذا رِضاكَ نَفى نَومي فأَرَقَني ... فَكَيفَ يا أَمَلي إِن كُنتَ غَضبانا
مازالوا على مطايا الأقدام إلى أن نم النسيم بالسحر، وقام الصارخ ينعي الظلام، فلما تمخض الدجى بحمل السحر، تساندوا إلى رواحل الإستغفار.
شَكونا إِلى أَحبابِنا طَولَ لَيلَنا ... فَقالوا لَنا ما أَقصَرَ اللَيلَ عِندَنا
رياح الأسحار أقوات الأرواح، رقت، فراقت، فبردت حر الوجد، وبلغت رسائل الحب.
أَلا يا صِبا نَجِدُ مَتى هُجتَ مِن نَجدٍ ... لَقَد زادَني مَسراكَ وَجداً عَلى وَجدِ
مكروب الوجدن يرتاح إلى النسيم، وإن قلقل الواجد.
بَينَ شَمالَ وَصِبا ... حَنَّ مَشوقٌ وَصَبا
فَلَم تَزِدهُ نَغَمات الشَوقِ إِلا وَصَبا
عبارة النسيم لا يفهمها إلا المشتاق، وحديث البروق لا يروق إلا للعشاق.
وَمُرنَّحِ فِطَنَ النَسيمُ بِوَجدِهِ ... فَروى لَهُ خَبَر العُذَييبِ مَعرِّضا
خلوا بالحبيب في دار المناجاة فكساهم ثياب الموصلة، وضمخهم بطيب المعاملة، وغالية السحر غالية، يصبحون وعليهم سيما القرب.
تفوح أرواح نجد من ثيابهم فتأسف يا جيفة النوم، وابك يا عريان الغفلة، أتدري كيف مر عليهم الليل، ألك علم بما جرى للقوم.
أيعلم خال ما جرى للمتيم رحلت رفقة (تَتَجافى) قبل السحر، ومطرود النوم في حبس الرقاد، فما فك عنه السجان القيد حتى استقر بالقوم المنزل، فقام يتلمح الآثار على باب الكوفة، والقوم قد شرعوا في الإحرام.
مَن يَطَّلَع شَرَفاً فَيُعَلِمُني ... هَل رَوَّضَ الرَعيانُ بالإِبِلِ
أَم قَعقَعت عُمُدُ الخِيامِ أَم ... اِرتَفَعَت قِبابُهُم عَلى النُزل
أَم غَرَّدَ الحادي بِقافِيةٍ ... مِنها غُرابُ البَين " يَستَملي "
كان " حسان بن أبي سنان " يخادع امرأته حتى تنام، ثم يخرج من الفراش إلى الصلاة.
جَرى حُبُّهُ مَجرى دَمي في مَفاصِلي ... فَأَصبَحَ لي عَن كُلُّ شُغلٍ شُغلُ
كَأَنّ سَوادِ اللَيلِ يَعشَقُ مُقلَتي ... فَبَينَهُما في كُلِ هَجرٍ لَنا وَصلُ
كانت " أم الربيعبن خيثم " إذا رأت تقلقله بالليل تقول: يا بني لعلك قتلت قتيلا، فيقول: نعم قتلت نفسي.
وقالت " أم عمر بن المنكدر " : أشتهي أن أراك نائما، فقال: يا أماه، من جن عليه الليل وهو يخاف البيات، حق له أن لا ينام، يا أماه إن الليل ليرد عليَّ فيهولني، فينقضي عني وما قضيت منه أربي.
ذق الهوى وإن استطعت الملام لم قيل لبعض الزهاد: إرفق بنفسك، فقال: الرفق أطلب.
كان " أمية الشامي " يبكي في المسجد وينتحب حتى يعلو صوته، فأرسل إليه الأمير: إنك تفسد على المصلين صلاتهم بكثرة بكائك وارتفاع صوتك، فلو أمسكت قليلا، فبكى وقال: إن حزن القيامة أورثني دموعا غزارا، فأنا أستريح إلى ذريها أحياناً.
اللَوَّمُ فيكَ يَنصَحوني ... وَالنُصحُ خِيانَةَ اللَوائِم
المُقعِد،ُ وَالمُقيمُ عِندي ... ما دُمتَ عَلى الصُدودِ دائِم
مالي أَجِدُ الحَمامَ أَنَّى ... ناحَت بِآراكِها الحَمائم
كَم صَحَّ عَلى السَّلو عَزمي ... وَالحُبُّ يُحَلِّلُ العَزائِم
وَكَم مِن حَديثٍ قَد خَبأناهُ لِلقَسا ... فَلَما اِلتَقينا صِرتُ أَخرسَ أَلكنا
ابن الجوزي