ومما يعين على التوبة، ويرغِّب النفس في سلوك الهدى أن يعلم العبد أن للذنوب والمعاصي أضرارًا جسيمة؛ في النفس والآفاق، وفي الأفراد والمجتمعات.
فإن عقوبات السيئات تتنوع إلى: عقوبات شرعية. وعقوبات قدرية. وهي إما في القلب، وإما في البدن، وإما فيهما. وعقوباب في دار البرزخ بعد الموت. وعقوباب يوم حشر الأجساد. فالذنب لا يخلو من عقوبة البتة، ولكن لجهل العبد لا يشعر بما هو فيه من العقوبة؛ لأنه بمنزلة السكران والمخدر والنائم الذي لا يشعر بالألم، فإذا استيقظ وصحا أحس بالمؤلم. فترتب العقوبات على الذنوب كترتب الإحراق على النار، والكسر على الانكسار، والإغراق على الماء، وفساد البدن على السموم، والأمراض على الأسباب الجالبة لها"[1].
من يهن يسهل الهوان عليه --- ما لجرح بميت إيلام
وإليك بعض تلك الأضرار والآثار السيئة على العباد والبلاد:
(1) حرمان العلم:
فإن العلم نور يقذفه الله في قلب العبد، والمعصية تطفئ ذلك النور، وإن الذنوب تعمي بصيرة القلب، وتطمس نوره، وتسد طرق العلم، وتحجب موارد الهداية، قال علي بن خشرم رحمه الله: "سألت وكيعًا عن دواء الحفظ فأجاب: ترك المعاصي" . ولما رأى الإمام مالك رحمه الله من تلميذه الشافعي رحمه الله ما رأى أعجب بفطنته وذكائه وفهمه وقال له: "إني أرى أن الله قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بظلمة المعصية".
وقال الضحاك رحمه الله: "ما نعلم أحدًا حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب، ثم قرأ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}[الشّورى: 30].
(2) وحشة في القلب:
تكون بين العبد وربه، ثم يمتد أثرها لتكون بينه وبين عباد الله، وتقوى هذه الوحشة حتى مع أهله وأقاربه، فتراه لا ينتفع بمجالس الخير والصلاح بل يؤثر مجالس السوء والشيطان عليها. وهذه الوحشة التي يجدها العاصي في قلبه لا توازنها لذة مهما اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها، قال بعض السلف رحمه الله: "إني لأعصي الله فأرى ذلك في خُلُقِ دابتي وامرأتي".
وحشة تجعل للحياة مرارة؛ لأن المعصية والغفلة توجب البعد من الله وكلما ازداد البعد قويت الوحشة. أما الطاعة فإنها توجب القرب من الله، وكلما اشتد القرب قوي الأنس، وقد قيل:
فإن كنت قد أوحشتك الذنوب --- فدعها إذا شئت واستأنس
(3) قلة التوفيق وتعسر الأمور:
فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقًا، أو متعسرًا عليه، وكما أن من اتقى الله جعل الله له من أمره يسرًا، فكذلك من عطل التقوى، وأسرف في المعاصي جعل الله له من أمره عسرًا؛ كيف لا وقد انقطعت عنه أسباب الخير واتصلت به أسباب الشر. فأي توفيق وفلاح، وأي رجاء ونجاح يرجو العبد ويأمل وقد قطع ما بينه وبين خالقه ومولاه؟!
(4) وهن البدن:
فالمؤمن المطيع لربه قوته في قلبه، وكلما قوي قلبه قوي بدنه، أما الفاجر والعاصي وإن كان قوي البدن فهو أضعف شيء عند الحاجة فتخونه قوته أحوج ما يكون إلى نفسه.
(5) حرمان الرزق:
فكما أن تقوى الله يجلب الرزق كما في قوله سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ}[الطّلاَق: 2-3]. وقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعرَاف: 96]. كذلك فإن ترك التقوى يجلب الفقر والفاقة، وأشد تركٍ للتقوى هو مقارفة المعاصي بترك واجب أو فعل محرم فما استُجْلِب رزقُ الله بمثل ترك المعاصي.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ"([2]).
(6) محق بركة العمر:
فإن المعاصي تمحق بركة الدين والدنيا، وتمحق بركة العمر فالعبد إذا أعرض عن الله واشتغل بالمعاصي ضاعت عليه أيام حياته الحقيقية..
فإن عمر الإنسان هو حياته بالله، كما أن حقيقة الحياة هي حياة القلب، والتي لا تكون إلا بالبر والتقوى والطاعة، لذلك وصف الله الكافرين الذين هم أكثر الخلق إضاعة للحياة بأنهم أموات؛ فقال عنهم: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}[النّحل: 21].
(7) حرمان الطاعة:
فإن الطاعات بيد الله، ولا تحصل إلا بتوفيق الله وهدايته للعبد، فحين يختار العبد الحياة المظلمة المسودة بالذنوب، فإن ذلك يقطع عليه طريق الطاعة، فلا يوفق لها، بل تضعف عنده إرادة التوبة شيئًا فشيئًا حتى تنسلخ من قلبه، وتقوى إرادة المعصية لديه فيُحرَم الطاعة والعياذ بالله.
جاء رجل إلى الحسن البصري رحمه الله فسأله قائلًا: يا أبا سعيد، إني أبيت معافى، وأحب قيام الليل، وأعد طهوري، فما بالي لا أقوم؟، فقال: "ذنوبك قيدتك". قال النووي رحمه الله: "حرمت قيام الليل مرة بذنب أذنبته".
قال سليمان الداراني رحمه الله: "لا تفوت أحدًا صلاة الجماعة إلا بذنب" .
(8) لباس الذل:
إن الرجل إذا أصاب الذنب و لو سرًا أصبح وعليه مذلته، ووجد عقوبة ذنبه عاجلًا أو آجلًا، فالعز في طاعة الله والذل في معصيته.
قال الحسن البصري رحمه الله: "أبى الله إلا أن يذل من عصاه".
وقال سليمان التيمي رحمه الله: "إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته".
(9) هوان المذنب على الله:
قال الحسن البصري رحمه الله: "هانوا على الله فعصوه ولو عزُّوا عليه لعصمهم وإن هان العبد على ربه لم يكرمه أحد"، قال تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}[الحَجّ: 18].
أما ما يُرى من تعظيم الناس لأهل المعصية، فهو في الظاهر فقط إما لمصلحة أو بسبب اتفاق في الأهواء والمشارب، أو بسبب خوف ونحوه.
(10) هوان المذنب على الناس :
فيحدث له سقوط الجاه والمنزلة والكرامة، وسقوط في أعين الناس وقلوبهم، فيصبح خامل الذكر ساقط القدر يرثى لحاله، ولا حرمة له أو شأن، بينما ترى العبد إذا كان من أهل الطاعة والتقوى كان من أكرم الخلق عند الله قال الكريم جل في علاه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[الحُجرَات: 13].
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "إن العبد ليخلو بمعصية الله تعالى فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر".
(11) لعنة البهائم للمذنب:
فلا يكفي المذنب عقاب ذنبه حتى يبوء بلعنة من لا ذنب له حتى البهائم والدَّواب تلعن عصاة بني آدم حيث مُنِعَت القطر من السماء بشؤم معصية العصاة، قال تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29].
(12) انعدام الغيرة:
فكلما اشتدت مقارفة العبد للذنوب كلما انطفأت وخرجت من قلبه الغيرة على نفسه وأهله، فلا يستقبح القبيح بل يستحسن الفواحش ويزينها لغيره، ويدعو لها ويحث عليها، ولهذا كان الديوث أخبث خلق الله، فإن أصل الدين الغيرة ومن لا غيرة له لا دين له.
(13) زوال النعم:
فإن نعم الله تُحفظ وتُستَجلَبُ بطاعة الله، أما المعاصي فهي الآفات المانعة التي تحجب النعم، فإذا أراد الله حفظ النعمة لعبده ألهمه رعايتها بطاعته، وإذا أراد الله زوالها عنه خذله الله حتى ربما عصاه العبد بها، وقد قيل:
إذا كنت في نعمة فارعها --- فإن المعاصي تزيل النعم
(14) الرعب والخوف في القلب:
فلا تراه إلا خائفًا مرعوبًا أحاطت به المخاوف من كل جانب؛ لأنه عصى الله دون خوف من الله أو عقابه، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شئ.
(15) ذهاب الحياء:
فالذنوب تضعف حياء العبد، فلا يتأثر بعلم الناس بسوء حاله، ولا باطلاعهم عليه، وربما أخبر عن حاله، وقبح ما يفعل؛ لانسلاخه من الحياء، فلا يستحيي من الله ولا من عباده، فتجده يركب المعاصي، ويعلن بها ويجاهر دون خوف من الله أو حياء من الناس، ويفعل ما يهوى من القبائح وما يشاء.
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ"([3]) .
فإن الإلمام بالمحاقر دون تورع، والوقوع في الصغائر دون اكتراث دليل على فقدان النفس لحيائها، ثم فقدانها لإيمانها.
ومتى ما فقد المرء الحياء تدرج من سيئ إلى أسوأ، ومن رذيل إلى أرذل ولا يزال يهوي حتى ينحدر إلى الدرك الأسفل، ويكون عرضة للهلاك والبوار.
(16) اعتياد الذنوب وتوالد السيئات:
فإن المذنب قد يألف المعصية ولا يستقبحها، بل تصير له عادة، وربما افتخر بفعله للذنب، وعدَّ هذا من تمام اللذة، وغاية التهتك، كما عند بعض العصاة والعياذ بالله، فالمعاصي تزرع أمثالها.
قال أحد السلف رحمه الله: "إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها حتى إن العاصي قد لا يجد أحيانا لذة للمعصية لكنه يجد ألمًا وربما ضاقت عليه نفسه لمفارقة المعصية".
(17) الطبع على القلب:
فإن الذنوب إذا تكاثرت طُبع على قلب المرء فكان من الغافلين؛ لأن القلب يصدأ من المعصية. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ، صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ، حَتَّى يَعْلُوَ قَلْبَهُ ذَاكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ"([4]) .
{كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطفّفِين: 14].
قال الحسن رحمه الله: "هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب"، حتى يصير الران طبعًا وقفلًا وختمًا، فيصير القلب في غشاوة وغلاف، فيتولاه الشيطان ويسوقه حيث أراد.
(18) أسر الشيطان:
ولا أسير أسوأ حالًا من أسير أسره الشيطان، الذي هو أعدى عدو للإنسان، فإن العبد بمعصيته لربه يصبح بعيدا عن الله وحينها لم يكن عليه من الله حافظ، فيقع في سجن الشيطان وأسره، حينها يفترسه الشيطان، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
(19) نزول النقم:
يقول ابن القيم رحمه الله:[5] "ومن تأثير المعاصي في الأرض: ما يحل بها من الخسف والزلازل، ويمحق بركتها، وكثير من هذه الآفات أحدثها الله سبحانه وتعالى بما أحدث العباد من الذنوب".
إن للذنوب شؤما وآثارا سيئة في الدنيا والآخرة؛ كمنع إجابة الدعاء، وضيق الصدر، وسوء الخاتمة، وعذاب الآخرة، إضافة إلى ما يُرى ويُشاهد من الفساد فى البر والبحر، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الرُّوم: 41].
"إن الذنوب والمعاصي تحدث في الأرض أنواعًا من الفساد في المياه والهواء والزروع والثمار والمساكن"، قال صلى الله عليه وسلم: "لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا"([6]).
ولايزال للطاعة ثمرات يانعة وطيبة، وآثار حسنة ومباركة ، يقابل ذلك آثار للمعصية هي في غاية الضنك والسوء، وربما كان الجزاء معجلًا في الدنيا قبل الآخرة كما هو معلوم ومشاهد، قال تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}[النِّسَاء: 123].
جاء في الأثر:
إن للحسنة لنورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وقوةً في البدن، وسعةً في الرزق، ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة لظلمةً في القلب، وسوادًا في الوجه، ووهنًا في البدن، وضيقا في الرزق، وبغضًا في قلوب الخلق.
***
======================
صيد الفوائد
أنور إبراهيم النبراوي
داعية إسلامي وباحث في الدراسات القرآنية والتربوية
ومهتم بشؤون الأسرة