نشأة علم الدعوة
عند الحديث عن علم الدعوة وتاريخ نشأة هذا العلم، ينبغي أولا هنا أن نقرر أننا نتكلم عن الدعوة إلى الله تعالى لا غيرها من الدعوات.. فالدعوات متعددة وكثيرة ووجهاتها لا حصر لها: منها الدعوة إلى الخير ومنها الدعوة إلى الشر والسوء وما لا يرضي الله، وهذا التفريق جاء في كتاب الله تعالى:
{والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من شاء إلى صراط مستقيم}،
وقال سبحانه:
{أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه}.
وقال عليه الصلاة والسلام:
[مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى, كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ, لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا, وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ, كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ, لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أوزارهم شَيْئًا]
(رواه مسلم عن أبي هريرة)، وقال عن بعض دعاة الباطل: [دعاة على أبواب جهنم من أطاعهم قذفوه فيها](البخاري عن حذيفة بن اليمان).
بين الدعوة وعلم الدعوة:
فنحن هنا نقصد بالدعوة الدعوة إلى الله تعالى وإلى دينه الإسلام.ثم ينبغي ثانيا أن نفرق بين "الدعوة" و"علم الدعوة".
فالدعوة كما يعرفها أهل الفن أو كثير منهم بأنها: "دلالة الخلق على الله، وتعليمهم دينه، وحثهم على طاعته وعبادته واتباع أمره وشرعه، وبيان ما لهم إذا فعلوا ذلك".
وبعضهم يقول: "دعوة الناس إلى الإسلام، وتعليمهم إياه، وحثهم على تطبيقه" (المدخل إلى علم الدعوة).
فالدعوة بهذا المعنى تاريخها قديم بقدم البشرية، ولعله كان موجودا منذ عهد آدم عليه السلام، فلا شك أنه كان يربي أولاده وذريته على الإيمان بالله واتباع مراضيه واجتناب مساخطه، وهذا هو عين الدعوة.
واستمرت الدعوة إلى أن بعث نوح، فكان أول الرسل إلى أهل الأرض، فقام يدعو قومه ليلا ونهارا وسرا وجهارا، وبكل ما أيتح له من سبب وسبيل، ثم جاء من بعده هود وصالح وشعيب وإبراهيم وبقية أنبياء بني إسرائيل، كلهم يدعو قومه إلى عبادة ربه
{اعبدوا الله مالكم من إله غيره}.
ثم ختمت النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي دعا إلى ربه وقام بحق عبوديته ودعوته حق القيام، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في سبيل دينه حتى أتاه اليقين.
نشأة علم الدعوة
كان هذا حال الدعوة، على عجالة، وهناك بلا شك فارق بين تاريخ ونشأة الدعوة وبين نشأة علم الدعوة كعلم مستقل، متخصص له مؤسسات دعوية خاصة تعنى بكل شؤونه.
فالدعوة الإسلامية كعملية للبلاغ والنشر قديمة في نشأتها، لكنها كعلم مستقل بذاته له قواعد وأصول في إطار محدد لكنه لا يخرج عن هذا الإطار القديم، فهو علم جديد نافع شأنه في ذلك شأن العلوم الشرعية الأخرى.
في كتابه "المدخل إلى علم الدعوة"، يقول الأستاذ محمد البيانوني في معرض حديثه عن نشأة علم الدعوة:
"بدأت الدعوة الإسلامية أول ما بدأت علماً وعملاً، إذ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس داعياً إلى الله، يتلو عليهم آياته، ويُعَلِّمُ من استجاب منهم لدعوته الكتابَ والحكمة ويُزكيهم.
وتحمَّلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل ذلك ما تحمل، وصبر وصابر حتى أظهر الله دينه، وأعلى كلمته، وحَقَّق للمؤمنين وعده:
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}
(التوبة:33).
فتَبعَه على ذلك صحابته الأكرمون، وخلفاؤه الراشدون، فكانوا هادين مهديّين، تابعوا المسيرة، وحملوا الأمانة.. وجاء مِنْ بَعْدِهم التابعون لهم بإحسان، فاقتفوا آثارهم وقاموا بوظيفتهم حق القيام.
ثم تبعهم في ذلك أجيال وأجيال، نشروا هذا الإسلام، وبلغوا فيه كل مَبْلغ، وتضافرت على حمل هذه الرسالة في تلك العصور جميعُ الجهود الفردية والجماعية، حيث كان الفرد المسلم يرى في الدعوة إلى الله حياتَه ومناط سعادته في الدنيا والآخرة، فلا يصرفه عنها صارف، ولا يثنيه عن القيام بواجبها عقبة من العقبات، فيبذل في سبيل دعوته كل شيء.
كما كانت الدولة المسلمة ترى الدعوة إلى الله أولى وظائفها وأهم واجباتها، بل ترى الدعوة سِرَّ وجودها وقيامها، فكانت للدعوة تُخطِّط ولصالحها تتحرك داخلياً وخارجياً، تحفظ الأحكام، وتطبق النظام، وتقيم الحدود، وترسل الدعاة، وتستقبل الوفود، وتسد الثغور، وتُنْفِذ الجيوش، وتُعد العُدة.
كل هذا جعل المجتمع الإسلامي ـ بكل وحداته ومؤسساته ـ مجتمعاً دعوياً يعمل لصالح هذه الدعوة، ويحقق ما وَصَفَهُ الله به بقوله:
{الذين إن مَكَّناهم في الأرض أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونَهَو عن المنكر، ولله عاقبةُ الأمور}
(الحج:41).
ومجتمعٌ كهذا المجتمع، لم يكن في حاجة ليبرز فيه علم خاص يُعرف بعلم الدعوة، أو توجَدَ فيه مؤسسات دعوية، وأخرى غير دعوية!
حتى خلف في المسلمين خَلْف، أضاعوا كثيراً من تلك الخصائص، وغفلوا عن كثير من هذه الواجبات، فكانت هناك مجتمعاتٌ كَثُر فيها القاعدون، وقَلَّ فيها الدعاة العاملون.. كما نَمت فيها مفاهيم مغلوطة فصلت العلم عن العمل، وأضاعت بركته، وأفرزت عناصر تهتم بالعلم على حساب العمل، وأخرى تعمل على جهل، وذلك على مختلف المستويات الفردية والجماعية، فتتابعت بذلك على المسلمين المصائب، وفقدت الدعوةُ كثيراً من حيويتها وحركتها، إلى أن طُعِنت الدعوة الإسلامية في أعلى مؤسساتها، وأقوى دعائمها بسقوط الخلافة الإسلامية، فكانت قاصمة الظهر. ووضح مدى الحاجة لتأصيل هذا العلم.
ثم استيقظ بعض المسلمين من غفلتهم، وعرفوا عِظَم مصيبتهم، واجتهدوا في النهوض بدعوتهم، فكانت هناك محاولات فردية وجماعية، وتعددت في سبيل ذلك الاجتهادات العلمية والعملية، وانبثقت الحاجة الجديدة إلى وجود عِلْم يعرف بعلم الدعوة، يعتمد على فهم الكتاب والسنة، ويقوم على سَنَن النبوة الطاهرة، والخلافة الراشدة، ويستنير بالتجربة الطويلة الرائدة لرحلة الدعوة على مدى العصور والأزمان، ويعود بالمسلمين إلى وظيفتهم التي أخرجوا بها للناس، قال تعالى:
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}
(آل عمران:110).. فكتبَ حول الدعوة الكاتبون والدعاة ما كتبوا، وقدموا لخدمة هذا العلم ما قدموا، حتى قامت باسم الدعوة منظماتٌ ومؤسسات، وعُرِفَ بها أفراد وجماعات، وأصبحنا في عصر صارت فيه الدعوة عِلْماً من العلوم المتعددة، له مؤسساته التعليمية، ومناهجه الدراسية.
ولا يزال هذا العلم الناشئ بحاجة ماسة إلى تأصيل موضوعاته، وتحديد مصطلحاته، وتصحيح تطبيقاته، وما إلى ذلك، شأنه في ذلك شأن أي علم جديد ناشئ".
اسلام ويب