السؤال:
أنا شاب استقمت منذ 7 أشهر ، وفي هذا الشهر أصابتني شبه تتعلق بآيات الله ، وكيف للبشر أن يصنعوا طائرة وسيارات ، وكيف أنها أفضل من الجمال والخيول ، وكيف صنعوا الأسلحة ، وكيف أنها أفضل من السيوف ، وشبهة إسقاط الأمطار من السحب ، وشبهة الأرحام وكيف اكتشفوا الأنثى ، ولقد أصبح قلبي مريضا ، قرأت القرآن ، وأديت النوافل ، ودعوت ، ودعوت ، وبإذن الله تكون استجابة الله لي على أيديكم .
الجواب :
الحمد لله
أولاً :
هنيئا لك الاستقامة على أمر الله جل وعلا ، ونسأل الله تعالى لك الثبات وأن يشرح صدرك وينير قلبك ، وأن يصرف عنك وسواس الشيطان وكيده إنه سبحانه كريم.
أيها السائل الكريم ، هل وقفت مع نفسك وسألتها إذا كنت ترى أن الطائرات والسيارات أفضل من الجمال والخيول وأن هذا يدل على عظمة العقل البشري وشموخ القدرة البشرية كما يوسوس لك الشيطان ، فهل يقدر البشر جميعا على خلق فرس أو جمل أو ناقة من العدم ؟
بل هل يقدرون على خلق دجاجة أو عصفورة ؟ بل هل يقدرون على خلق حشرة أو ذبابة ؟
والجواب : قطعا لا يقدرون على شيء من ذلك ، ولهذا جاء الحديث القدسي في المصورين الذين يصنعون التماثيل أو صور ذوات الأرواح ، جاء الحديث مبينا عجزهم عن أن يخلقوا شيئا كخلق الله عز وجل ، فقال الله تعالى : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي ، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً ، أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً ، أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً ) رواه البخاري (7559) ، ومسلم (2111).
والذرة : النملة .
قال النووي :
"فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّة فِيهَا رُوح ، تَتَصَرَّف بِنَفْسِهَا ، كَهَذِهِ الذَّرَّة الَّتِي هِيَ خَلْق اللَّه تَعَالَى ، وَكَذَلِكَ فَلْيَخْلُقُوا حَبَّة حِنْطَة أَوْ شَعِير ، أَيْ : لِيَخْلُقُوا حَبَّة فِيهَا طَعْم تُؤْكَل وَتُزْرَع وَتَنْبُت ، وَيُوجَد فِيهَا مَا يُوجَد فِي حَبَّة الْحِنْطَة وَالشَّعِير وَنَحْوهمَا مِنْ الْحَبّ الَّذِي يَخْلُقهُ اللَّه تَعَالَى ، وَهَذَا أَمْر تَعْجِيز" انتهى .
وقال ابن حجر رحمه الله :
"وَالْغَرَض تَعْجِيزهمْ تَارَة بِتَكْلِيفِهِمْ خَلْق حَيَوَان ، وَهُوَ أَشَدّ وَأُخْرَى بِتَكْلِيفِهِمْ خَلْق جَمَاد ، وَهُوَ أَهْوَن ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا قُدْرَة لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ" انتهى .
إن الله جلت قدرته يخلق الخلق من العدم بأن يقول للشيء : كن فيكون ، قال تعالى لعبده زكريا: (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) مريم/ 9، فهل يقدر البشر أن يخلقوا كائنا حيا من العدم ؟ ولو كان ذلك الكائن يضرب به المثل في الصغر كالنملة ؟
ثم يقال : هل يقدرون على أن يخلقوا جمادا من العدم مهما كان صغيرا، كحبة شعير أو قمح ؟!
إن غاية ما يقدر عليه البشر أن يصنعوا شيئا من العناصر والمواد التي خلقها الله لعباده في الكون ؛ وكل ما هنالك أنهم يقومون بتحويلها من صورة إلى أخرى ؛ وحينئذ يقال : إن الله سبحانه هو الذي خلق للناس الأشياء ، قال تعالى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ) البقرة/ 29، ثم بعد أن خلقها لهم سخرها لهم ، ولولا ذلك لم يقدروا على الانتفاع بها لا في قليل ولا كثير ، قال تعالى : ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) الجاثية/13 ، قال ابن كثير في تفسيره (7 / 266): " قال تعالى: ( وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض) أي: من الكواكب والجبال، والبحار والأنهار، وجميع ما تنتفعون به ، أي: الجميع من فضله وإحسانه وامتنانه ؛ ولهذا قال: (جميعا منه) أي: من عنده وحده لا شريك له في ذلك ، كما قال تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون) " انتهى .
بل إن الإنسان نفسه ، وعقله الذي يفكر به ، وقوته التي يعمل بها ، وحيلته التي يحتال بها : كل ذلك هو من خلق الله عز وجل ، قال الله تعالى : ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) الصافات/96.
فحقيقة الأمر : أن هذه السيارات والطائرات ... ، وغيرها من الأشياء ، وبدائع الحضارات التي يوسوس لك الشيطان أنها أفضل من خلق الله ؛ هي في حقيقتها أمرها : من خلق الله !!
وجميع ما وصلت إليه البشرية من علوم وتقدم وازدهار وتطور في اللباس والمراكب ووسائل الاتصال والأسلحة وغير ذلك إنما هو من فضل الله عليهم جل جلاله ومن تعليمه لهم ، وهو الذي سَهَّلَ لهم طرقَ الوصول إليها واكتشافها واختراعها .
إن مصدر العلم إنما هو الله تبارك وتعالى قال تعالى : ( فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) البقرة/239، وقال سبحانه: ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) النساء/ 113 ، وقال تعالى : ( اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) العلق/ 3 - 5.
وإن الله جلت قدرته لو حجب معونته عن هؤلاء العلماء : لتخبطوا أعظم التخبط ، وضاعت كل هذه الجهود ، وكل هذه العلوم ؛ ولفنيت البشرية كلها .
تأمل يا عبد الله ؛ لو أن الله جلت قدرته ، قد حجب الشمس عن عباده ، أو سلط عليهم الرياح ، أو منعهم الماء ، أو الهواء ؛ كيف سيكون مصير العباد ؟ وكيف سيكون حال مخترعاتهم ، وآلاتهم ، وطائراتهم ؟!
وأنصت بقلبك ، قبل أذنك ، إلى قول الله جل جلاله : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ) الملك/30.
وإنك لتلاحظ ـ يا عبد الله ـ أن البشرية مع كل هذا التقدم والعلم ، فإنها كثيرا ما تقف حائرة عاجزة أمام مرض يظهر فجأة ، حينا بعد حين ، كالإيدز والزهايمر ونحوهما من الأمراض المستعصية، وتقف البشرية كلها وتتضافر جهودها حتى تجد الحل ، ثم إن وجدته ـ بعد لَأْيٍ ـ فإنما وجدته بتوفيق الله تعالى وخلقه ومشيئته ، ثم بعد ذلك تُفَاجأ بمرض آخر يظهر حيرتها وعجزها .
ثانيًا :
أما عملية الاستمطار: هو محاولة إسقاط الأمطار من السحب الموجودة في السماء، سواء ما كان منها مدراً للأمطار بشكل طبيعي، أم لم يكن كذلك ؛ فهذه العملية لا تعدو كونها تهيئة الأجواء لنزول الأمطار ، والاستفادة مما خلقه الله تعالى كالسحب وبخار الماء ... إلخ .
مع الاستفادة أيضا من القوانين الثابتة التي جعلها الله تعالى في هذا الكون ، ولولاها لم يستفد الإنسان شيئا ولم يمكنه الانتفاع بشيء مما حوله ، كتكثيف بخار الماء في الأجواء الباردة ، وإذا حصل التكثف فإن البخار يتجمع في قطرات ، فيكون أثقل من الهواء فينزل المطر ...
ودور الإنسان في هذا هو مجرد الاستفادة مما خلقه الله ، أما الإنسان فلم يخلق شيئا ، لا السحاب ، ولا بخار الماء ، ولا هو الذي أودع في البخار خاصية التكثف بالبرودة ، ولا هو الذي جعل الماء أثقل من الهواء ، ولا هو الذي جعل في الأرض جاذبية تجذب الأشياء إليها ، ... وإنما كل ذلك من صنع الله تعالى وخلقه (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) النمل /88 .
ثالثا :
وأما قولك : إن البشرية قد علمت ما في الأرحام . فهذا أيضا من تعليم الله لهم ، وإقدارهم على ذلك ، ولا ينافي هذا قوله تعالى : ( وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ) لقمان/ 34، لأن قوله تعالى : (ويعلم ما في الأرحام ) ، أي : ويعلم تفاصيل ما في جميع الأرحام ، فهل يقدر البشر على معرفة تفاصيل جميع ما في أرحام النساء والبهائم والحيوانات في نفس الوقت؟
هل بإمكان البشرية معرفة ما في الأرحام لحظة حدوث الحمل وعلوق الحيوان المنوي بالبويضة؟ ثم إذا علموا هل بإمكانهم معرفة هل هو ذكر أو أنثى في أول يوم من تكونه؟ لا شك أن البشر جميعا عاجزون عن هذا بل وعن بعضه.
ثم : هل للبشر ، كل البشر : علم بما يكون من حال هذا الجنين : أشقي هو أم سعيد ؟ أذكي هو أم بليد ؟ أقريب من ربه ، أم بعيد ؟ أمرحوم هو أم طريد ؟ أغني يكون في دنياه ، أو فقير ؟
ثم إن الله تعالى إذا أعلم ملائكته بما في الأرحام ، فقد خرج الأمر عن كونه غيبا مطلقا ، وصار العلم به ممكنا لمن تيسرت له آلته من المخلوقين .
قال ابن كثير في تفسيره (6 / 352): " ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ) ، هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها، فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها؛ فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب، ( لا يجليها لوقتها إلا هو) [الأعراف: 187] ، وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله ، ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك ومن شاء الله من خلقه. وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه الله تعالى سواه، ولكن إذا أمر بكونه ذكرا أو أنثى، أو شقيا أو سعيدا علم الملائكة الموكلون بذلك، ومن شاء الله من خلقه" انتهى.
وينظر للفائدة ، جواب السؤال رقم : (12368) .
نسأل الله تعالى لنا ولك الهدى والتقى ، والعفو والمعافاة في الدين والدنيا .
ونوصيك أن تكثر من الدعاء والتضرع بين يدي الله جل وعلا ، خصوصا في ثلث الليل الأخير وأثناء السجود ، وأكثر من الأدعية القرآنية نحو ( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) الأنبياء/ 83، ونحو (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) الأنبياء/ 87 .
والله أعلم.
موقع الإسلام سؤال وجواب