الحمد لله المبدي المعيد، يُعطِي ويمنع، ويقبض ويبسط، ويخفض ويرفع، وهو الولي الحميد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وهو على كل شيءٍ شهيد، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، وصفيه وخليله، شهادةً أرجو بها النجاة يوم العرض على الكريم المجيد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم المزيد، أما بعد: فأوصيكم ونفسي -أيها المسلمون- بتقوى الله تعالى، فبالتقوى يصل المسلم إلى بَر السلامة، ويسعد في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة. أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه المناسبة بتعامل آخر، يحكُمه في ذلك الشرع والعقل، ومِن آثارِ هذا التعامل ومظاهره: 1/ أن المسلم ينظر إلى تصرم الأعوام والسنين، وهو يتذكر حقيقة هذه الدنيا، وأنها إلى زوال وفناء .. كل ما تراه عينك أو سَمِعَتْ به أذنك سيؤول إلى يباب وخراب، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[يونس: 24]. 2/ المسلم ينظر إلى بدية العام على أنه مرحلة من مراحل العمر، آذنت بطوْيِ صفحةِ عام، وفتْح صفحة عامٍ جديد، وكل هذا يشير إلى حقيقةِ مهمةٍ أخرى خاصة، وهي أن العبدَ يزداد بذلك قرباً من أجله، وبعداً عن دنياه، إلى أن يَصِل المحطة النهائية له في الدنيا، ثم ينتقل بعدها إلى دار أخرى. فهذه سُنّة الله في الحياة، والعاقل من جعل ذلك فرصة للتأمل فيما أمضاه من العمر! ماذا قدّم فيه لدينه ودنياه؟ وهل يسرُّه أن يلقى ربه اليوم بصحفية الزمن الماضي؟! 3/ مُضِيُّ عام -أيها المسلمون- يعني مُضيَّ أكثر من نصف مليون دقيقة من حياة كل واحدٍ منا! نبَضَ القلبُ في هذا العام قرابة 40 مليون نبضة، وزفرت النفس 11 مليون زفرة! مضتْ هذه الدقائق وتلك السويعات بما أُودِع فيها مِن خيرٍ وشر، فالموفَّق مَن ندم على تفريطه بكل ساعةٍ بل بكل دقيقة، بل بكل ثانية، والمغبون من لم يكتَرث بذلك ولم يُلقِ له بالاً، يقول الحسن البصري رحمه الله: "إن المؤمن قوّامٌ على نفسه، يحاسِب نفسَه لله، وإنما خفَّ الحسابُ يومَ القيامة على قومٍ حاسبوا أنفسَهم في الدنيا، وإنما شق الحسابُ يوم القيامة على قومٍ أخذوا هذا الأمر على غير محاسبة"([1]). أيها المؤمن المبارك..إن الشعور بأن الساعات والدقائق جزء من العمر؛ دافِعٌ للحرص على اغتنامها، وبذلك يوفِّق الله مَن شاء من الناس للغيرةِ على أوقاتهم كما يَغار أهلُ الدرهم والدينار على أموالهم، والحرص على المحافظة عليها، لئلا يضيع منها شيءٌ في غير فائدة، وإلا لو تأملتَ فكم في الدقيقة من تسبيحة، وتهليلة، وتحميدة، وتكبيرة؟ كم فيها من آية تتلى؟! كان أبو بكر بن عياش يقول: لو سقطَ مِن أَحدهم درهمٌ لظل يومَه يقول: إنا لله، ذهب درهمي! وهو يُذهِب عُمرَه، ولا يقول: ذهب عمري، وقد كان لله أقوامٌ يبادرون الأوقات، ويحفظون الساعات، ويلازمونها بالطاعات. لما تمّ لبعض السلف الصالح سبعون سنةً من عمره؛ وقف مع نفسه وقفةَ محاسبة، فنظر، فإذا به قد مضى عليه منذ بلوغه أكثرُ من عشرين ألف يوم، فعاتب نفسه وقال: ماذا لو لقيتُ ربي كلَّ يومٍ بذنبٍ واحدٍ فقط؟! أألقى الله بعشرين ألف ذنب؟ ثم بكى رحمه الله! أخي..قف قليلاً وافتح دفتر عامِك، وقلِّب صفحاته، قلّبه بكل ما فيه من لحظات، عبادات، قربات، نفقات، جلسات، ضحكات، أمسيات، دمعات، كلمات، ونظرات، أين ذهبت تلك اللحظات؟! هل ما كانت إلا ذكريات؟! كلا .. كلا .. إنها حسنات وسيئات. 4/ مضى عليك عام كامل، حدَث فيه من الأحداث ما حدث، سواء على مستوى مجتمعك الصغير، أو بلادك كلها، أو على مستوى العالم. مضى العام وما فيه من هم وغم، وسرورٍ وحزن، وعِللٍ وأسقام، وفتنٍ وحروب، أطفالٌ تيتموا، ونساءٌ ترملت، ودماءٌ أزهقت، وأشلاءٌ تمزقت، وبيوتُ هدِّمت، وحروث أهلكت! فإذا سلمّك الله من ذلك فاحمد الله واشكره، وإن كنت ابتُليت ببعض ذلك؛ فانظر إلى من كانت مصيبتهم أعظم منك، فبذلك تحصل السلوة. 5/ ومُضيّ عام، يعني في الحقيقة زيادة في العمر، وتقدّم في السنوات. وطولُ الأمل وحب البقاء في الدنيا مما جبل عليه الإنسان، كما في الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يَهرَم ابنُ آدم وتشبّ منه اثنتان: الحرصُ على المال، والحرصُ على العمر)).([2]) ولكن اسمح لي -أيها الأخ المبارك- أن أسألك: ما الذي يجعلك تتمنى طولَ العمر وتحرص على الحياة؟ هل أنت تتمنى طول الحياة فيها كما تمناها معاذٌ حينما حضرته الوفاةُ إذ يقول: اللهم إنك كنتَ تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لكري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لصيام الهواجر، وقيام الليل، ومزاحمة العلماء بالرُّكَب عند حِلَقِ الذكر! أم أنت تتمنى طولَ العمر لما تمناه ابنُ الجوزي رحمه الله-الذي عاش سبعاً وثمانين سنة- وكان يقول في أحد دعواته: "اللهم إنك تعلم أني لا أريد طولَ الحياة إلا لأزداد من العلم بك، وبأسمائك وصفاتك!"([3]). يقول ابن القيم رحمه الله: "وإنما حَسُنَ طول العمر ونَفَعَ؛ ليحصل التذكر والاستدراك، واغتنام الفرص، والتوبة النصوح كما قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ﴾[فاطر: 37] فمن لم يورثه التعمير وطول البقاء إصلاحُ معائبه، وتداركُ فارطه، واغتنامُ بقية أنفاسه، فيعمل على حياةِ قلبه، وحصول النعيم المقيم؛ وإلا فلا خير له في حياته، فإن العبد على جناح سفر، إما إلى الجنة وإما إلى النار، فإذا طال عمره، وحسُن عملُه؛ كان طول سفره زيادةً له في حصول النعيم واللذة،...وإذا طال عمره وساءَ عملُه؛ كان طول سفره زيادة في ألمه وعذابه، ونزولاً له إلى أسفل"([4]) انتهى كلامه –رحمه الله-. 6/ والمسلم الفطِن -عند دخول العام الجديد- يفكر ويخطط -إن أطال الله في عمره- لمجمل أعماله التي سيقوم بها خلال العام، فإنه ثبت بالتجربة أن مِن أهم أسباب النجاح حسنُ التخطيط للمهام التي يريد العبدُ القيام بها، ومِن أعظم أسباب الفشل: سوء التخطيط والترتيب، وقد قيل: الفشل في التخطيط هو التخطيط للفشل، وقبل ذلك وبعده: الاستعانة بالله، وسؤاله التوفيق، لكن لا بد من فعل الأسباب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((استعن بالله ولا تعجز؛ ولا تقل: لو أني فعلتُ كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعـل))([5])، فعندما تُوفَّق لترتيب أهدافك وأعمالك، وتستعين بربك؛ فسترى نتائجَ مذهلة، والعكس صحيح، وتأمل في تلك الآية التي يقرأها كثيرٌ منا يوم الجمعة، وربما لم يقف معها جيداً: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾[الكهف : 28] فتأمل كيف ذم اللهُ هذا النوع مِن الناس الذين تذهب أعمارُهم سدى، وأوقاتهم تنفرط عليهم مِن غير فائدةٍ دينية أو دنيوية. وقد أفادت الآية الكريمة -أيضاً-: أن ذِكر الله عز وجل من أعظم ما يستعان به على البركة في الوقت، قال شيخنا العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "إذا رأيتَ وقتك ينفرط، والزمن يمضي من دون إنتاج؛ ففتش عن قلبك، وعن موضع الذِّكر منه، فإن الأمر خطير"([6]). فما أجمل أن يضع الإنسانُ منا خطةً لبعض الأعمال ولو بطريقة أسبوعية أو شهرية، مثل: أن يأخذ على نفسه أن يحفظ كل أسبوع ورقةً من المصحف، أو وجهاً واحداً، وأن يقرأ كل شهرٍ كتاباً مفيداً، والله لن يمر عليه وقتٌ قليل إلا وقد شعر بالإنتاج المبارك. بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم
___________________________________________________
الخطبة الثانية
الحمد لله على إفضاله وإحسانه، والشكر على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعل آله وصحبه وإخوانه، أما بعد: فإن مما يحسن التنبيه له –ونحن في نهاية العام-: أن البعض اعتاد أن يرسل رسائل جوال تتضمن أشياء لا أصل لها شرعاً .. وهذا وإن كان خفّ شيئاً ما، إلا أنه لا زال موجوداً، وقد وصلني منه شيءٌ، وهذا يوجب علينا التواصي بالتنبيه على خطأِ مثل هذه الرسائل، ومن ذلك: · تأكيد كثير من هذه الرسائل على أن صحائف الأعمال تُطوى، ثم يتفرع عن هذا الطوي لها -عند هؤلاء المرسِلين- أمور: الحث على الاستغفار والتوبة، وطلب المسامحة والعفو عن كل من قصّر في حقه...الخ تلك الرسائل التي يغلب على الظن أنه لم يخل منها جوال! وهذا خطأ وغلط؛ فإن التوبة والتسامح معاني شرعية شريفة، ومطلوبة، لكن الخطأ هو ربط ذلك بنهاية العام، والزعم بأن صحف الأعمال تطوى! وهذا غلط بيِّن، فإن الاصطلاح على بداية العام الهجري ونهايته لم يقع إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي زمن الفاروق تحديداً، ولم يبلغنا في المقادير ابتداءً وانتهاءً إلا في ليلة القدر التي قال الله فيها: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾[الدخان: 4]. · ومن آفات هذه الرسائل وبلاياها: أن البعض يرسل لغيره رسالةً يطلب فيها ذِكراً معيناً، ويسأل من أرسلت إليه بالله إلا أرسَلَها، ويتجاوز ذلك إلى تحديد أجور معينة، كأن يقول : إذا أرسلتَ هذه الرسالة فسيكون لك -بعد ربع ساعة- مليون حسنة!...الخ أنواع التأثيم والتحريج لعباد الله، والقول على الله بغير علم. فاتقوا الله عباد الله .. ولا تحملنكم العواطفُ على القول على الله بغير علم، أو الابتداع في دينكم. نسأل الله تعالى أن يجعل عامنا هذا عام خير ورشد، وعز ونصر لأمة الإسلام..اللهم اجعلنا ممن طال عمره وحسُن عمله، ونعوذ بك أن تكون حياتنا غبناً، وأعمارنا نقصاً، اللهم استعملنا في طاعتك. _________________________________________________________ ([1]) حلية الأولياء: 2/157.
([2]) مسلم ح(1047). ([3]) ويقول ابن الجوزي رحمه الله: "واعجباً من موجود لا يَفهم معنى الوجود، فإن فهِم لم يَعمل بمقتضى فهمه، يعلم أن العمر قصير، وهو يضيّعه بالنومِ والبطالةِ والحديث الفارغِ وطلب اللذات، وإنما أيامُه أيام عملٍ لا زمان فراغ،...فالسعيدُ من انتبه لنفسه وعمل بمقتضى عقله، واغتنم زمناً نهايتُه الزمن، وانتهب عمراً يا قرب انقطاعه" انتهى من صيد الخاطر: (138). ([4]) الفوائد: (331). ([5]) مسلم ح(2664). ([6]) سمعتها منه في تعليقه على صحيح مسلم.
د. عمر بن عبد الله المقبل