أولاً: ما خُصَّ به لذاته في الحياة الدنيا
1. أخذ العهد والميثاق من جميع الأنبياء والرسل إذا بعث محمد ليؤمنن به ولينصرنه
الأدلة على ذلك
· قال تعالى: "وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ"2.
· وعن جابر رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه النبي صلى الله عليه وسلم فغضب، فقال: "أمتهوِّكون3 فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا، أوبباطل فتصدقوا، والذي نفسي بيده، لو كان موسى صلى الله عليه وسلم حياً ما وسعه إلا أن يتبعني".4
· روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية السابقة: "ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه"، وقال ذلك عدد من أئمة5 التفسير.
· ومن أقوى الأدلة على أن جميع الرسل وأتباعهم الذين حضروا بعثته مطالبون بالإيمان به وبنصرته أن عيسى عليه أفضل الصلاة والسلام عندما ينزل في آخر الزمان لا ينزل بشرعه، لأن شرعه نُسخ، ولا بشرع جديد، وإنما ينزل متبعاً لشرع محمد، يشهد أن محمداً رسول الله، ويصلي، ويصوم، ويحج، ويعتمر كما نفعل.
· ومن باب أولى وأحرى اليهود والنصارى الحاليين، فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو موسى وأبو هريرة رضي الله عنهما أنه قال: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة6 ولا يهودي ولا نصراني ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار".7
قال الحافظ ابن كثير: (فالرسول محمد خاتم الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين، هو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر لكان هو الواجب الطاعة، المقدم على الأنبياء كلهم، ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس).8
2. رسالته رسالة عامة
كان الرسول قبل يرسل إلى أمته خاصة، وأرسل هو إلى الخلق عامة، إلى الثقلين الإنس والجن.
قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا"9.
وقال: "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا"10.
وقال صلى الله عليه وسلم: "أعطيتُ خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، وبُعثت إلى الناس عامة"11، وفي رواية: "وبُعثت إلى كل أحمرَ وأسود".
قال العز بن عبد السلام: (ومن خصائصه أن الله تعالى أرسل كل نبي إلى قومه خاصة، وأرسل نبينا محمد إلى الجن والإنس، ولكل نبي من الأنبياء ثواب تبليغه إلى أمته، ولنبينا ثواب التبليغ إلى كل من أرسل إليه، تارة لمباشرة البلاغ، وتارة بالنسبة إليه، ولذلك تمنن عليه بقوله: "وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا"12، ووجه التمنن أنه لو بعث في كل قرية نذيراً لما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أجر إنذاره لأهل قريته).13
3. ختمت به النبوة والرسالة
من خصائصه كذلك أن الله ختم به النبوة والرسالة، فلا نبي بعده ولا رسول، فكل من ادعى النبوة أوالرسالة فهو كذاب أشر، ولذلك احتال بعض الزنادقة وجاء ببدعة خاتم الأولياء، ولم ترج هذه الفرية إلا على السذج والمغفلين، أما أصحاب العلم واليقين فعدوا من ادعى ذلك من الدجاجلة الكذابين.
قال تعالى ذكره: "مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا"14.
وصح في الحديث: "وخُتم بي النبيون".15
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي؛ قال: فشق ذلك على الناس، قال: ولكن المبشرات؛ قالوا: يا رسول الله، وما المبشرات؟ قال: رؤيا الرجل، وهي جزء من أجزاء النبوة".16
ومن ثم نصح وحذر أمته من أنه: "لن تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالاً، كل يزعم أنه نبي"، أوكما قال، وهؤلاء يختمون بالمسيح الدجال، مع ذلك فما من أحد خرج إلا ووجد له أتباعاً.
وعن جبير بن مطعم يرفعه إلى الرسول: ".. وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد"17، من الأنبياء والرسل.
4. الرحمة المهداة للعالمين
قال تعالى في مدح رسوله صلى الله عليه وسلم والثناء عليه: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"18، فهو الرحمة المهداة للعالمين، والنعمة المسداة، والسراج المنير، والرسول الصادق الأمين.
ولهذا صح عنه، وقد قيل له: ادعُ على المشركين؛ قال: "إني لم أبعث لعاناً، وإنما بُعثتُ رحمة"19، وقال: "يا أيها الناس، إنما أنا لكم رحمة مهداة".20
قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ": (كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع الناس، فمن تبعه كان له رحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يتبعه عوفي مما كان يُبتلى به سائر الأمم من الخسف والمسخ والقذف).21
5. كان أمنة لأصحابه من العذاب
كان صلى الله عليه وسلم أمنة على أصحابه أن ينزل عليهم عذاب يستأصلهم وهو بين ظهرانيهم، وأمنة لأمته من بعده أن يعذبهم الله وهم يستغفرونه بحكم الله عز وجل.
خرَّج الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو جهل: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أوائتنا بعذاب أليم؛ فنزلت: "وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ"22.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف: ".. ربِّ ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم؟ ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون؟".23
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إن الله جعل في هذه الأمة أمانين، لا يزالون معصومين مجارين من قوارع العذاب ما داما بين أظهرهم، فأمان قبضه الله إليه، وأمان بقي فيكم"، ثم تلا الآية السابقة.
6. خلود معجزته الكبرى وهي القرآن الكريم
مما خُصَّ به صلى الله عليه وسلم على سائر من سبقه من الرسل بقاء معجزته الكبرى، وهي هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بينما انقضت معجزات من قبله بزمانهم، وذلك لأنه كان خاتمهم، وشريعته كانت ناسخة لشرائعهم، وجامعة لكل خير فيها، وكتابه مهيمن على جميع كتبهم.
قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام وهو يعدد خصائصه على إخوانه من الرسل السابقين: (ومن خصائصه أن معجزة كل نبي تصرَّمت وانقرضت، ومعجزة سيد الأولين والآخرين وهي القرآن العظيم باقية إلى يوم الدين).24
7. حفظ الذكر الشامل للوحيين: القرآن والسنة
لم يتكفل الله عز وجل بحفظ الكتب السابقة، وإنما أوكل حفظها لأتباعها، قال تعالى: "بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء"25، لأنها إنما أرسلت إلى أمم معينة ولفترات محدودة، أما رسالة خاتم الأنبياء فكانت عامة وخاتمة، مما يحتم حفظها وصيانتها، قال تعالى: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"26.
والذكر شامل للوحيين القرآن والسنة، ولذلك فقد هيأ الله للسنة رجالاً أمناء أوفياء، بينوا صحيحها من سقيمها، ولهذا ما من حديث يُنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وتجد هؤلاء الرجال في كل عصر ومصر بينوا حاله، عرف ذلك من عرفه وجهله من جهله، ولهذا أوجب الله على العامة سؤال الخاصة: "فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ"27، ومن ثم فلا يحل لأحد أن يروي حديثاً موضوعاً أوضعيفاً ضعفاً شديداً إلا إذا أراد أن يبين ذلك، وإلا دخل في وعيد قوله صلى الله عليه وسلم: "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".28
جاء في تفسير قوله تعالى: "لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ"29 عن الحسن البصري رحمه الله: "حفظه الله تعالى من الشيطان30 فلا يزيد فيه باطلاً ولا ينقص منه حقاً".
قال يحيى بن أكثم: (دخل يهودي على المأمون فتكلم، فأحسن الكلام، فدعاه المأمون إلى الإسلام فأبى، فلما كان بعد سنة جاءنا مسلماً، فتكلم على الفقه فأحسن الكلام، فقال له المأمون؟ ما كان سبب إسلامك؟ قال: انصرفت من حضرتك فأحببت أن أمتحن هذه الأديان، فعمدت إلى التوراة فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الكنيسة فاشتريت مني، وعمدت إلى الإنجيل فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت، فأدخلتها البيعة فاشتريت مني، وعمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها على الوراقين فتصفحوها، فلما وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها فلم يشتروها، فعلمت أن هذا الكتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي.
قال يحيى: فحججت تلك السنة، فلقيت سفيان بن عيينة، فذكرت له الحديث – القصة – فقال لي: مصداق هذا في كتاب الله تعالى، قلت: في أي موضع؟ قال: في قوله تعالى في التوراة والإنجيل: "بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء").
لذلك عندما أراد مسيلمة الكذاب لعنه الله أن يجاري القرآنَ جاء بكلام غث فج، مع أنه عربي قح، نحو قوله عندما سأل عمرو بن العاص قبل إسلامه وقد زاره: ماذا أنزل على صاحبكم؟ فقال له عمرو: سورة قصيرة وجيزة؛ يعني سورة العصر، فقال: وأنا كذلك أنزل عليَّ؛ فقال له عمرو: ماذا أنزل عليك؟ فقال: الفيل، وما أدراك ما الفيل، له خرطوم طويل، وذنب قصير؛ فقال له عمرو: والله إنك تعلم أني أعلم أنك كاذب.
ونحو قوله: يا ضفدع بنت الضفدعين، نقي كما تنقين، لا الماء تكدرين، ولا الشرب تمنعين.
ولذات السبب تحدى الله العرب عامة، وقريشاً خاصة، أن يأتوا بمثله، ثم تدرج معهم أن يأتوا بسورة مثله، أوبآية، فعجزوا، فقال حاسماً ذلك بقوله عز وجل: "قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا"31.
8. غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
على الرغم من أن الأنبياء جميعاً عليهم الصلاة والسلام معصومون من الشرك، والكبائر، والصغائر، وكل ما يشين المروءة، وما صدر من بعضهم ولم يقروا عليه نتج إما عن نسيان، أوخطأ في اجتهاد، إلا أنه خُصَّ رسولنا بخصيصة انفرد بها على سائرهم، واستحق أن يكون بها صاحب الشفاعة الكبرى التي اعتذر عنها جميع أولي العزم، فقال: "أنا لها".
قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ"32: (هذا من خصائصه التي لا يشركه فيها غيره، وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال لغيره غفره له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم).33
وقال العز بن عبد السلام: (من خصائصه أنه أخبره الله بالمغفرة، ولم يُنقل أنه أخبر أحداً من الأنبياء بمثل ذلك، بل الظاهر أنه لم يخبرهم، بدليل قولهم في الموقف: نفسي نفسي34).35
9. القَسَم بحياته صلى الله عليه وسلم
مما مُيِّز به على الأنبياء قسمه عز وجل بحياة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يقسم قط بحياة أحد منهم، حيث قال: "لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ"36.
قال ابن عباس: (ما خلق الله، وما ذرأ، وما برأ نفساً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال تعالى: "لَعَمْرُكَ.." الآية).37
وقال العز بن عبد السلام: (والإقسام بحياة المُقسَم بحياته يدل على شرف حياته وعزتها عند المُقسِم بها، وأن حياته جديرة بأن يُقسَم بها لما فيها من البركة العامة والخاصة، ولم يثبت هذا لغيره).38
10. لم يناده ربه باسمه المجرد إلا مقروناً بالنبوة والرسالة
لم يناد المولى عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم باسمه مجرداً كما نادى غيره من الرسل والأنبياء، فقال: "يَا آدَمُ"39، "يَا نُوحُ"40، "يَا إِبْرَاهِيمُ"41، "يَا مُوسَى"42، "يَا عِيسَى"43.
وقال في حق رسولنا صلى الله عليه وسلم: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ"44، وقال: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ"45.
قال ابن الجوزي رحمه الله: (ولما ذكر اسمه للتعريف قرنه بذكر الرسالة، فقال تعالى: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ"46، "مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ"47، "وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ"48).