إن أعظم ما يعين المسلم على تحقيق التقوى، والاستقامة على نهج الحق والهدى، مصاحبة الأخيار، ومصافاة الأبرار، والبعد عن قرناء السوء ومخالطة الأشرار.
لأن الإنسان بحكم طبعه البشري يتأثر بصفيه وجليسه، وتكتسب من أخلاق قرينه وخليله، والمرء إنما توزن أخلاقه، وتعرف شمائله بإخوانه وأصفيائه، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)) رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح.
أما بعد
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله حق تقاته، واستقيموا على طاعته ومرضاته، فلقد نادى سبحانه من أناب إليه واستقام بأكرم نداء وأحسن مقال، فقال عز شأنه: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَـئِكَ أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ خَـالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [البقرة:38-39].
ألا وإن أعظم ما يعين المسلم – يا عباد الله – على تحقيق التقوى، والاستقامة على نهج الحق والهدى، مصاحبة الأخيار، ومصافاة الأبرار، والبعد عن قرناء السوء ومخالطة الأشرار.
لأن الإنسان بحكم طبعه البشري يتأثر بصفيه وجليسه، وتكتسب من أخلاق قرينه وخليله، والمرء إنما توزن أخلاقه، وتعرف شمائله بإخوانه وأصفيائه، كما قال عليه الصلاة والسلام:
"الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"
رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه:
(ما من شيء أدل على شيء؛ من الصاحب على الصاحب)، ومن كلام بعض أهل الحكمة:
(يظن بالمرء ما يظن بقرينه).
فلا غرو حينئذٍ أن يعنى الإسلام بشأن الصحبة والمجالسة أيما عناية، ويوليها بالغ الرعاية، حيث وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كل فرد من أفراد الأمة إلى العناية باختيار الجلساء الصالحين، واصطفاء الرفقاء المتقين، فقال عليه الصلاة والسلام:
"لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي"
رواه أبو داود والترمذي بإسناد حسن .
كما ضرب صلى الله عليه وسلم للأمة مثل الجليس الصالح والجليس السوء بشيء محسوس وظاهر، كل يدرك أثره وعاقبته، ومقدار نفعه أو ضرره.
فقد أخرج الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة" .
قال الإمام ابن حجر تعليقًا على هذا الحديث:
(فيه النهي عن مجالسة من يتأذى من مجالسته في الدين والدنيا، والترغيب في
مجالسة من ينتفع بمجالسته فيهما).
لذا .. فإن من الحزم والرشاد ، ورجاحة العقل وحصافة الرأي، ألا يجالس المرء إلا من يرى في مجالسته ومؤاخاته النفع له في أمر دينه ودنياه، وإن خير الأصحاب لصاحبه، وأنفع الجلساء على جليسه من كان ذا برٍّ وتقى، ومروءة ونهى، ومكارم أخلاق، ومحاسن آداب، وجميل عوائد، مع صفاء سريرة، ونفس أبية، وهمّة عالية، وتكمل صفاته ويجل قدره حين يكون من أهل العلم والأدب، والفقه والحكمة.
إذاً .. هذه صفات الكمّل من الأنام الذين يأنس بهم الجليس، ويسعد بهم الصديق؛ لإخلاصهم في المودة، وإعانتهم على النائبة، وأمن جانبهم من كل غائلة، فمن وفق لصحبة من كانت هذه صفات وأخلاقه، وتلك شمائله وآدابه، فذلك عنوان سعادته، وأمارة توفيقه، فليستمسك بغرزه، وليعض عليه بالنواجذ، وليرع له حق الصحبة بالوفاء والصدق معه، وتوقيره وإجلاله، ومؤانسته حال سروره، ومواساته حال مصيبته، وإعانته عند ضائقته، والتغاضي عن هفواته، والتغافل عن زلاته، إذ السلامة من ذلك أمر متعذر في طبع البشر، وحسب المرء فضلاً أن تعد مثالبه ومعائبه.
وإن شر الأصحاب على صاحبه، وأسوأهم أثرًا على جليسه، من ضعفت ديانته وأخلاقه، وخبثت سريرته، ولم تحمد سيرته، من لا همّ له إلا في تحقيق مآربه وأهوائه، ونيل شهواته ورغباته، وإن كان على حساب دينه ومروءته، ولربما بلغ الحال في بعض هؤلاء ألا يقيم للدين وزنًا، ولا للمروءة اعتبارًا، ولا يرى للصداقة حقًا، فمؤاخاة هذا وأمثاله ضرب من الأنا، وسبيل من سبل الشقا؛ لما قد يجلبه على صاحبه وجليسه من شر وبلاء بصده عن ذكر الله وطاعته، وتثبيطه عن مكارم الأخلاق ومقتضيات المروءة، وتعويده على بذاءة اللسان والفحش في الكلام، وحمله على ارتكاب أنواع من الفسق والفجور والأخذ به في سبيل اللهو واللعب، وضياع الأوقات فيما يضر ولا ينفع من أنواع الملهيات والمغريات، وتبذير الأموال في صنوف من المحرمات.
وليتأمل يا عباد الله في حال من ابتلوا بإدمان المسكرات، وتعاطي المخدرات، واقتراف الفواحش والمنكرات، واكتساب الأموال المحرمة من ربا ورشوة وغيرها من المكاسب الخبيثة، وما هم عليه من سوء الحال في أنفسهم وأهليهم، وما كان لهم من أسوأ الأثر على من يخالطهم ويصافيهم.
فمن شقاء المرء أن يجالس أمثال هؤلاء الذين ليس في صحبته سوى الحسرة والندامة؛ لأنهم ربما أفسدوا عليه دينه وأخلاقه، حتى يخسر دنياه وآخرته، وذلك هو الخسران المبين، والغبن الفاحش يوم الدين
كما قال سبحانه:
(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّـالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ياوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً
لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ الشَّيْطَـانُ لِلإِنْسَـانِ خَذُولاً)
[ الفرقان:27-29].
فتلكم يا عباد الله بعض صفات من تحسن صحبتهم من أهل البر والتقى، والألباب والنهى، وبعض صفاتٍ من يجب الحذر من مجالستهم من قرناء السوء وذوي الفسق والفجور.
والناس بين ذلك على مراتب ..
فمنهم من إلى الخير والفضل أرجى، وآخرون إلى الشر والسوء أدنى، والحازم يزن الناس بميزان الشرع والعقل، فمن غلب خيره على شره، ونفعه على ضره، اتخذه خليلاً، واصطفاه جليسًا، والعكس بالعكس.
ومن تحرى صحبة الصالحين وحرص على مجالسة المتقين، وفق لذلك على قدر نيته واجتهاده.
وليتذكر يا عباد الله أن كل صحبة وخلة فمآلها إلى العداوة والبغضاء، إن عاجلاً أو آجلاً، إلا مؤاخاة المتقين، فإنها الباقية الدائمة لأصحابها في الدنيا والآخرة.
فاتقوا الله عباد الله .. واسلكوا سبيل الراشدين، وانهجوا نهج المهتدين في مؤاخاة الصالحين، ومجالسة المتقين، والحذر من مجالسة الفاسقين والظالمين، فقد قال سبحانه:
(لاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ) [الزخرف:67].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين ..
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشكره على ما أنعم وأولى، وأكرم وأعطى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليّ الأعلى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نبيه المصطفى، وخليله المجتبى، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى، وبدور الدجى
ومن سار على هديهم واقتفى ..
أما بعد :
فيا عباد الله .. (تَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
ولتتأملوا -رحمكم الله- حال كثير من الناس اليوم -ولا سيما الناشئة- وما هم عليهم من انحراف في العقائد والأخلاق، وفساد في السلوك والآداب، لتروا أن مرد ذلك ومنشأه في الغالب صحبة الأشرار وقرناء السوء، من دعاة الباطل والأهواء الذي أجلبوا بخيلهم ورجلهم عبر وسائل متنوعة، وقنوات مختلفة، يبثون الشرور، وينشرون السموم؛ حتى انحرف كثير من ناشئة المسلمين عن جادة الحق والرشاد، وطريق الفضيلة والصلاح، وسلكوا مسالك الضلالة، ونهجوا دروب الغواية، رغم تحذير الحق عز وجل من طاعة أهل الباطل
وذوي الأهواء، حيث قال جلّ وعلا:
(وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28].
وإن هذا النذير شؤم وبلاء على أمة الإسلام، إن لم يُتدارك من المصلحين الغيورين على الإسلام وأهله، من العلماء والدعاة وأرباب الفكر وحملة الأقلام، ورجال التربية والإعلام في بلاد الإسلام، ببذل الجهود وحشد الطاقات، واستغلال الوسائل النافعة المعينة على صلاح الناشئة وتهذيب أخلاقهم، وتقويم سلوكهم، والحيلولة دون تأثير دعاة السوء وأهل الأهواء..
وإن المسئولية لتقع في الدرجة الأولى على عاتق الآباء والأمهات في العناية بفلذات الأكباد، وتنشئتهم على آداب الدين وتعاليم الإسلام، وحفظهم من قرناء السوء ومخالطة الأشرار ووسائل الشر والفساد سعيًا في إصلاحهم، وتحقيق ما يسعدهم في الآجل والعاجل، وقيامًا بما أوجب الله تعالى لهم من رعاية وعناية..
فتلكم مسئولية الأداء، ولترعوها حق الرعاية، امتثالاً لتوجيه الله عز وجل إذ يقول:
(ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَـئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[ التحريم:6].
ألا وصلوا عباد الله على نبي الرحمة والهدى، كما أمركم بذلك المولى جل وعلا بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً
[ الأحزاب:56].
الشيخ د. : عمر بن محمد السبيل
ملتقى الخطباء