﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [فاطر: 1]، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي أرسله ربُّه هاديًا ومُبشِّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، أمَّا بعد:
فإن الله تعالى هو العدل، ولا يُعذِّب أحدًا من الناس حتى يقيم الحجة الواضحة عليه.
• قال سبحانه: ﴿ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا * وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 15 - 17].
• قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "قوله تعالى: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 15] إخبار عن عدله تعالى، وأنه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه؛ كقوله تعالى: ﴿ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ﴾ [الملك: 8، 9]، وكذا قوله: ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [الزمر: 71]، وقال تعالى: ﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ﴾ [فاطر: 37] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى لا يُدخل أحدًا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه"؛ (تفسير ابن كثير، جـ5، صـ 49).
• قال الله تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47].
• قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [يونس: 54].
• قال جل شأنه: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء: 13، 14].
• قال الإمام ابن كثير رحمه الله: قوله تعالى: ﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ﴾ [الإسراء: 13]؛ أي: نجمع له عمله كله في كتاب يُعطاه يوم القيامة، إما بيمينه إن كان سعيدًا، أو بشماله إن كان شقيًّا {منشورًا}؛ أي: مفتوحًا يقرؤه هو وغيره، فيه جميع عمله من أول عمره إلى آخره ﴿ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾ [القيامة: 13 - 15]؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء: 14]؛ أي: إنك تعلم أنك لم تظلم ولم يكتُب عليك غير ما عمِلت؛ لأنك ذكرت جميع ما كان منك، ولا ينسى أحد شيئًا مما كان منه، وكل أحد يقرأ كتابه من كاتب وأمي"؛ (تفسير ابن كثير، جـ5، صـ 51).
• قال سبحانه: ﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 17].
• قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "قوله: ﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 17] يُخبر تعالى عن عدله في حكمه بين خلقه، أنه لا يُظلم مثقال ذرة من خير ولا من شرٍّ؛ بل يجزي بالحسنة عشر أمثالها، وبالسيئة واحدةً؛ ولهذا قال: {لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر: 17]"؛ (تفسير ابن كثير، جـ7، صـ 136).
• قال سبحانه: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46].
• قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "قوله: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ﴾ [فصلت: 46]؛ أي: إنما يعود نفع ذلك على نفسه،
قوله: ﴿ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ﴾ [فصلت: 46]؛ أي: إنما يرجع وبال ذلك عليه، قوله: ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]؛ أي: لا يُعاقِب أحدًا إلَّا بذنب، ولا يُعذِّب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه، وإرسال الرسول إليه"؛ (تفسير ابن كثير، جـ7، صـ 185).
• قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8].
• روى مسلم عن أبي ذَرٍّ الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ((يا عبادي، إني حرَّمْتُ الظُّلْم على نفسي، وجعلته بينكم مُحرَّمًا، فلا تظالموا))؛ (مسلم، حديث: 2577).
• قال الإمام النووي رحمه الله: "قوله: ((إني حرَّمْتُ الظُّلْمَ على نفسي))، قال العلماء معناه: تقدَّستُ عنه وتعاليت، والظلم مستحيل في حق الله سبحانه وتعالى، كيف يجاوز سبحانه حدًّا وليس فوقه من يطيعه؟! وكيف يتصرف في غير ملك والعالم كله في ملكه وسلطانه؟! وأصل التحريم في اللغة: المنع، فسمي تقدُّسه عن الظلم تحريمًا لمشابهته للممنوع في أصل عدم الشيء"؛ (صحيح مسلم بشرح النووي، جـ16، صـ 132).
• روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: ((هل تضارُّون في رؤية الشمس في الظهيرة، ليست في سحابة؟))، قالوا: لا، قال: ((فهل تضارُّون في رؤية القمر ليلة البدر، ليس في سحابة؟))، قالوا: لا، قال: ((فو الذي نفسي بيده، لا تُضارُّون في رؤية ربكم، إلا كما تُضارُّون في رؤية أحدهما، قال: فيلقى العبد، فيقول: أي فُلُ، ألم أُكرِمْكَ، وأُسوِّدْكَ، وأزوِّجْكَ، وأسخِّر لكَ الخيلَ والإبلَ، وأذَرْكَ تَرْأَس وتَرْبَع؟ فيقول: بلى، قال: فيقول: أفظننتَ أنَّكَ مُلاقيَّ؟ فيقول: لا، فيقول: فإني أنساكَ كما نسيتني، ثم يلقى الثاني، فيقول: أي فُلُ ألم أكرمْكَ، وأسوِّدْكَ، وأزوِّجْكَ، وأسخِّر لك الخيل والإبل، وأذَرْكَ تَرْأس وتَرْبَع، فيقول: بلى، أي رب، فيقول: أفظننْتَ أنَّكَ مُلاقيَّ؟ فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث، فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا رب آمنْتُ بِكَ، وبكتابِكَ، وبرُسُلِكَ، وصلَّيْتُ، وصُمْتُ، وتصدَّقْتُ، ويُثني بخيرٍ ما استطاع، فيقول: ها هنا إذًا، قال: ثم يُقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك، ويتفكر في نفسه: من ذا الذي يشهد عليَّ؟ فيختم على فيه، ويُقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فتنطق فخذُه ولحمُه وعِظامُه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه))؛ (مسلم، حديث 2968).
معاني الكلمات:
قوله: ((تضارُّون)): يلحقكم مشقَّة أو تعب.
قوله: ((فُلُ)): يا فلان.
قوله: ((أسوِّدْكَ)): أجعلك سيِّدًا على غيرك.
قوله: ((ترأس)): تكون رئيس القوم وكبيرهم.
قوله: ((أذرك)): أدَعَكَ.
قوله: ((تربع)): تأخذ ربع الغنيمة.
قوله: ((أفظننتَ)): أفعلمْتَ.
قوله: ((فيه)): فمه.
قوله: ((ليعذر من نفسه)): ليزيل الله عذره من قبل نفسه.
الشرح:
قوله: ((هل نرى ربَّنا؟)): الاستفهام للاستخبار والاستعلام.
قوله: ((يوم القيامة)): قيد به للإجماع على أنه تعالى لا يُرى في الدنيا؛ لأن الذات الباقية لا ترى بالعين الفانية.
قوله: ((هل تُضارُّون)): الاستفهام للتقرير، وهو حمل المخاطب على الإقرار، والمعنى: هل يحصل لكم تزاحُم وتنازُع يتضرَّر به بعضكم من بعض؟ ((في رؤية الشمس))؛ أي: لأجل رؤيتها أو عندها ((في الظهيرة)): وهي نصف النهار، وهو وقت ارتفاعها وظهورها وانتشار ضوئها في العالم كله، ((ليست))؛ أي: الشمس ((في سحابة))؛ أي: غيم تحجبها عنكم.
قوله: ((ألم أكرمك))؛ أي: ألم أفضلك على سائر الحيوانات.
قوله(وأسوِّدْكَ))؛ أي: ألم أجعلك سيِّدًا في قومك.
قوله: ((وأزوِّجْكَ))؛ أي: ألم أعطِكَ زوجًا من جنسك ومكَّنْتُكَ منها، وجعلت بينك وبينها مودةً ورحمةً ومؤانسةً وأُلْفةً.
قوله: ((وأُسخِّر لك الخيل والإبل))؛ أي: أذللها لك، وخُصِّتا بالذكر؛ لأنهما أصعب الحيوانات.
قوله: ((وأذَرَكَ تَرْأَس))؛ المعنى: ألم أدعك تكون رئيسًا على قومِكَ.
قوله: ((وتَرْبَع))؛ أي: تأخذ رباعهم وهو ربع الغنيمة؛ وكان ملوك الجاهلية يأخذونه لأنفسهم.
قوله: ((فإني أنساك كما نسيتني))؛ أي: اليوم أمنعك من رحمتي كما امتنعت عن طاعتي في الدنيا.
قوله: ((ليعذر من نفسه))؛ أي: ليزيل الله عذره من قبل نفسه بكثرة ذنوبه وشهادة أعضائه عليه بحيث لم يبق له عذر يتمسَّكُ به؛ (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح؛ علي الهروي، جـ 8، صـ3529:3528).
• روى الترمذي عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله سيخلص رجلًا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعةً وتسعين سجلًا، كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر، فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنةً؛ فإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فقال: إنك لا تظلم. قال: فتُوضَع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة فلا يثقل مع اسم الله شيء))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني، حديث 2127).
قوله: ((إن الله سيخلص))؛ أي: يختار.
((فينشر))؛ أي: فيفتح ((عليه تسعةً وتسعين سجلًا))؛ أي: كتابًا كبيرًا.
قوله: ((كل سجل مثل مد البصر))؛ أي: كل كتاب منها طوله وعرضه مقدار ما يمتدُّ إليه بصر الإنسان،
قوله: ((ثم يقول))؛ أي: الرب.
قوله: ((أتنكر من هذا))؛ أي: المكتوب.
قوله: ((شيئًا))؛ أي: مما لا تفعله.
قوله: ((أظلمك كتبتي))، والمراد: الكرام الكاتبون.
قوله: ((الحافظون))؛ أي: لأعمال بني آدم.
قوله: ((فيقول: لا يا رب)): جواب لهما جميعًا أو لكل منهما.
قوله: ((فيقول: أفلك عذر))؛ أي: فيما فعلته من كونه سهوًا أو خطأً، أو جهلًا ونحو ذلك.
قوله: ((قال: لا يا رب، فيقول: بلى))؛ أي: لك عندنا ما يقوم مقام عذرك.
قوله: ((إن لك عندنا حسنةً))؛ أي: واحدةً عظيمةً مقبولةً تمحو جميع ما عندك.
قال تعالى: ﴿
وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 40]، وإذا قال الله جل جلاله ولا إله غيره لشيء عظيم فهو عظيم.
قوله: ((وإنه))؛ أي: الشأن ((لا ظلم عليك اليوم))؛ أي: بنقصان أجر لك، ولا بزيادة عقاب عليك؛ بل لا حكم إلَّا لله، وهو إما بالعدل وإما بالفصل، ((فتخرج))؛ أي: فتظهر.
قوله: ((بطاقة))؛ أي: ورقة صغيرة.
قوله: ((فيها))؛ أي: مكتوب في البطاقة (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله).
قوله: ((فيقول: احضر وزنك))؛ أي: الميزان؛ ليظهر لك انتفاء الظلم وظهور العدل وتحقُّق العدل.
قوله: ((فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة؟))؛ أي: الواحدة.
قوله: ((مع هذه السجلات))؛ أي: الكثيرة، وما قدرها بجنبها ومقابلتها!
قوله: ((فيقول: إنك لا تظلم))؛ أي: لا يقع عليك الظلم؛ لكن لا بد من اعتبار الوزن؛ كي يظهر أنْ لا ظلم عليك، فاحضر الوزن.
قوله: ((فطاشت السجلات))؛ أي: خفَّتْ.
قوله: ((وثقلت البطاقة))؛ أي: رجحت، والتعبير بالمضي لتحقُّق وقوعه.
قوله: ((فلا يثقل))؛ أي: فلا يرجح ولا يغلب ((مع اسم الله شيء))، والمعنى: لا يقاومه شيء من المعاصي؛ بل يترجَّح ذكر الله تعالى على جميع المعاصي؛ قال تعالى: ﴿
إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: 114]، وقال سبحانه: ﴿
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ [العنكبوت: 45].
شبهة والرد عليها:
قال بعض الناس: الأعمال أعراض لا يمكن وزنها؛ وإنما توزَن الأجسام.
الجواب: يوزن السجل الذي كتب فيه الأعمال، ويختلف باختلاف الأحوال؛ (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح؛ علي الهروي، جـ 8، صـ 3531).
قال الله تعالى: ﴿
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [فصلت: 19-21].
قال الإمام ابن جرير الطبري (رحمه الله): "يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء الذين يحشرون إلى النار من أعداء الله سبحانه لجلودهم إذ شهدت عليهم بما كانوا في الدنيا يعملون: لم شهدتم علينا بما كنا نعمل في الدنيا؟ فأجابتهم جلودهم: ﴿
أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾، فنطقنا؛ وذكر أن هذه الجوارح تشهد على أهلها عند استشهاد الله إياها عليهم إذا هم أنكروا الأفعال التي كانوا فعلوها في الدنيا بما يسخط الله"؛ (تفسير الطبري، جـ 21، صـ 452).
وقال سبحانه: ﴿
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يس: 65].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "هذا حال الكفار والمنافقين يوم القيامة، حين ينكرون ما اجترموه في الدنيا، ويحلفون ما فعلوه، فيختم الله على أفواههم، ويستنطق جوارحهم بما عملت"؛ (تفسير ابن كثير، جـ6، صـ585).
روى مسلم عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: ((هل تدرون مِمَّ أضحك؟))، قال: قلنا الله ورسوله أعلم، قال: ((من مخاطبة العبد ربَّه، يقول: يا رب، ألم تجرني من الظلم، قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا وبالكرام الكاتبين شهودًا، قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام، قال: فيقول: بعدًا لكن وسحقًا فعنكن كنت أناضل))؛ أي: أدافع؛ (مسلم حديث 2969).
قوله: ((ألم تجرني من الظلم؟))؛ أي: ألم تجعلني في إجارة منك من الظلم بقولك: ﴿
وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]
قوله: ((لا أجيز))؛ أي: لا أقبل على نفسي إلا شاهدًا من جنسي.
فائدة هامة:
قوله: ((كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا))، قال الحسن بن محمد الطيبي رحمه الله: فإذا قلت: دلَّت أداة الحصر على ألا يشهد عليه غيره، فكيف أجاب بقوله: ((كفى بنفسك وبالكرام الكاتبين؟))، قلت: بذل مطلوبه (أي: حقَّق له رغبته)، وزاد عليه تأكيدًا وتقريرًا.
قوله: ((فيختم على فيه))؛ أي: على فمه؛ قال تعالى: ﴿
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يس: 65]، وقال سبحانه: ﴿
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النور: 24].
وهذا معنى قوله: ((فيقال لأركانه))؛ أي: لأعضائه وأجزائه ((انطقي)).
قوله: ((فتنطق بأعماله))؛ أي: بأفعاله التي ارتكبها.
قوله: ((ثم يخلى))؛ أي: يترك ((بينه وبين الكلام))؛ أي: يرفع الختم من فيه حتى يتكلم.
قوله: ((بُعدًا لكن وسُحقًا))؛ أي: فيقول العبد: هلاكًا لكم.
قوله: ((كنت أناضل))؛ أي: أدافع؛ (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، علي الهروي، جـ 8، صـ 3527).
ختامًا:
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذخرًا لي عنده يوم القيامة ﴿
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم الكرام.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.