أو

الدخول بواسطة حسابك بمواقع التواصل

#1

افتراضي تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير



تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير


) سورة النجم مكية

وآياتها اثنان وستون

بسم الله الرحمن الرحيم

والنجم إذا هوى (1) ما ضل صاحبكم وما غوى (2) وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4) علمه شديد القوى (5) ذو مرة فاستوى (6) وهو بالأفق الأعلى (7) ثم دنا فتدلى (8)

فكان قاب قوسين أو أدنى (9) فأوحى إلى عبده ما أوحى (10) ما كذب الفؤاد ما رأى (11) أفتمارونه على ما يرى (12) ولقد رآه نزلة أخرى (13) عند سدرة المنتهى (14) عندها جنة المأوى (15) إذ يغشى السدرة ما يغشى (16) ما زاغ البصر وما طغى (17) لقد رأى من آيات ربه الكبرى (18) أفرأيتم اللات والعزى (19)

ومناة الثالثة الأخرى (20) ألكم الذكر وله الأنثى (21) تلك إذا قسمة ضيزى (22) إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى (23) أم للإنسان ما تمنى (24) فلله الآخرة والأولى (25) وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى (26) إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى (27)

وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا (28) فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا (29) ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى (30) ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى (31)

الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى (32) أفرأيت الذي تولى (33) وأعطى قليلا وأكدى (34) أعنده علم الغيب فهو يرى (35) أم لم ينبأ بما في صحف موسى (36) وإبراهيم الذي وفى (37) ألا تزر وازرة وزر أخرى (38) وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (39) وأن سعيه سوف يرى (40)

ثم يجزاه الجزاء الأوفى (41) وأن إلى ربك المنتهى (42) وأنه هو أضحك وأبكى (43) وأنه هو أمات وأحيا (44) وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى (45) من نطفة إذا تمنى (46) وأن عليه النشأة الأخرى (47) وأنه هو أغنى وأقنى (48) وأنه هو رب الشعرى (49) وأنه أهلك عادا الأولى (50) وثمود فما أبقى (51) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى (52) والمؤتفكة أهوى (53) فغشاها ما غشى (54)

فبأي آلاء ربك تتمارى (55) هذا نذير من النذر الأولى (56) أزفت الآزفة (57) ليس لها من دون الله كاشفة (58) أفمن هذا الحديث تعجبون (59) وتضحكون ولا تبكون (60) وأنتم سامدون (61) فاسجدوا لله واعبدوا (62)



هذه السورة في عمومها كأنها منظومة موسيقية علوية، منغمة، يسري التنغيم في بنائها اللفظي كما يسري في إيقاع فواصلها الموزونة المقفاة. ويلحظ هذا التنغيم في السورة بصفة عامة; ويبدو القصد فيه واضحا في بعض المواضع; وقد زيدت لفظة أو اختيرت قافية، لتضمن سلامة التنغيم ودقة إيقاعه - إلى جانب المعنى المقصود الذي تؤديه في السياق كما هي عادة التعبير القرآني - مثل ذلك قوله: أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى .. فلو قال ومناة الأخرى ينكسر الوزن. ولو قال: ومناة الثالثة فقط يتعطل إيقاع القافية. ولكل كلمة قيمتها في معنى العبارة. ولكن مراعاة الوزن والقافية كذلك ملحوظة. ومثلها كلمة "إذا" في وزن الآيتين بعدها: ألكم الذكر وله الأنثى؟ تلك إذا قسمة ضيزى! فكلمة "إذا" ضرورية للوزن. وإن كانت - مع هذا - تؤدي غرضا فنيا في العبارة ... وهكذا.

تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

ذلك الإيقاع ذو لون موسيقي خاص. لون يلحظ فيه التموج والانسياب. وبخاصة في المقطع الأول والمقطع الأخير من السورة. وهو يتناسق بتموجه وانسيابه مع الصور والظلال الطليقة المرفرفة في المقطع الأول. ومع المعاني واللمسات العلوية في المقطع الأخير. وما بينهما مما هو قريب منهما في الجو والموضوع.

والصور والظلال في المقطع الأول، تشع من المجال العلوي الذي تقع فيه الأحداث النورانية والمشاهد الربانية التي يصفها هذا المقطع. ومن الحركات الطليقة للروح الأمين وهو يتراءى للرسول الكريم.. والصور والظلال والحركات والمشاهد والجو الروحي المصاحب، تستمد وتمد ذلك الإيقاع التعبيري وتمتزج به، وتتناسق معه، وتتراءى فيه، في توافق منغم عجيب.

ثم يعم ذلك العبق جو السورة كله، ويترك آثاره في مقاطعها التالية، حتى تختم بإيقاع موح شديد الإيحاء مؤثر عميق التأثير. ترتعش له كل ذرة في الكيان البشري وترف معه وتستجيب.

وموضوع السورة الذي تعالجه هو موضوع السور المكية على الإطلاق: العقيدة بموضوعاتها الرئيسية: الوحي والوحدانية والآخرة. والسورة تتناول الموضوع من زاوية معينة تتجه إلى بيان صدق الوحي بهذه العقيدة ووثاقته، ووهن عقيدة الشرك وتهافت أساسها الوهمي الموهون!

تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

والمقطع الأول في السورة يستهدف بيان حقيقة الوحي وطبيعته، ويصف مشهدين من مشاهده، ويثبت صحته وواقعيته في ظل هذين المشهدين; ويؤكد تلقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل - عليه السلام - تلقي رؤية وتمكن ودقة، واطلاعه على آيات ربه الكبرى.

ويتحدث المقطع الثاني عن آلهتهم المدعاة: اللات والعزى ومناة. وأوهامهم عن الملائكة. وأساطيرهم حول بنوتها لله. واعتمادهم في هذا كله على الظن الذي لا يغني من الحق شيئا. بينما الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى ما دعاهم إليه عن تثبت ورؤية ويقين.

والمقطع الثالث يلقن الرسول - صلى الله عليه وسلم - الإعراض عمن يتولى عن ذكر الله ويشغل نفسه بالدنيا وحدها، ويقف عند هذا الحد لا يعلم وراءه شيئا. ويشير إلى الآخرة وما فيها من جزاء يقوم على عمل الخلق، وعلى علم الله بهم، منذ أنشأهم من الأرض، ومنذ كانوا أجنة في بطون أمهاتهم. فهو أعلم بهم من أنفسهم، وعلى أساس هذا العلم المستيقن - لا الظن والوهم - يكون حسابهم وجزاؤهم، ويصير أمرهم في نهاية المطاف.

والمقطع الرابع والأخير يستعرض أصول العقيدة - كما هي منذ أقدم الرسالات - من فردية التبعة، ودقة الحساب، وعدالة الجزاء. ومن انتهاء الخلق إلى ربهم المتصرف في أمرهم كله تصرف المشيئة المطلقة. ومع هذا لفتة إلى مصارع الغابرين المكذبين. تختم بالإيقاع الأخير: هذا نذير من النذر الأولى. أزفت الآزفة. ليس لها من دون الله كاشفة. أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون، ولا تبكون، وأنتم سامدون؟ فاسجدوا لله واعبدوا .. حيث يلتقي المطلع والختام في الإيحاء والصور والظلال والإيقاع العام.

تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

والنجم إذا هوى. ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى. علمه شديد القوى. ذو مرة فاستوى. وهو بالأفق الأعلى. ثم دنا فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى. فأوحى إلى عبده ما أوحى. ما كذب الفؤاد ما رأى. أفتمارونه على ما يرى؟ ولقد رآه نزلة أخرى. عند سدرة المنتهى. عندها جنة المأوى. إذ يغشى السدرة ما يغشى. ما زاغ البصر وما طغى. لقد رأى من آيات ربه الكبرى ..

في هذا المطلع نعيش لحظات في ذلك الأفق الوضيء الطليق المرفرف الذي عاش فيه قلب محمد - صلوات الله وسلامه عليه - ونرف بأجنحة النور المنطلقة إلى ذلك الملإ الأعلى; ونستمع إلى الإيقاع الرخي المنساب، في جرس العبارة وفي ظلالها وإيحائها على السواء

. [ ] نعيش لحظات مع قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - مكشوفة عنه الحجب، مزاحة عنه الأستار. يتلقى من الملإ الأعلى. يسمع ويرى، ويحفظ ما وعى. وهي لحظات خص بها ذلك القلب المصفى; ولكن الله يمن على عباده، فيصف لهم هذه اللحظات وصفا موحيا مؤثرا. ينقل أصداءها وظلالها وإيحاءها إلى قلوبهم. يصف لهم رحلة هذا القلب المصفى، في رحاب الملإ الأعلى. يصفها لهم خطوة خطوة، ومشهدا مشهدا، وحالة حالة، حتى لكأنهم كانوا شاهديها.

ويبدأ الوصف الموحي بقسم من الله سبحانه: والنجم إذا هوى .. وحركة تلألؤ النجم ثم هويه ودنوه. أشبه بمشهد جبريل المقسم عليه: وهو بالأفق الأعلى. ثم دنا فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى. فأوحى إلى عبده ما أوحى .. وهكذا يبدأ التناسق والتوافق في المشهد والحركة والظل والإيقاع منذ اللحظة الأولى.

والنجم إذا هوى .. وقد رويت تفسيرات مختلفة للنجم المقصود في هذا القسم. وأقرب ما يرد على الذهن أنها إشارة إلى الشعرى، التي كان بعضهم يعبدها. والتي ورد ذكرها في السورة فيما بعد في قوله: وأنه هو رب الشعرى .. وقد كان للشعرى من اهتمام الأقدمين حظ كبير. ومما هو معروف أن قدماء المصريين كانوا يوقتون فيضان النيل بعبور الشعرى بالفلك الأعلى. ويرصدونها من أجل هذا ويرقبون حركاتها. ولها شأن في أساطير الفرس وأساطير العرب على السواء. فالأقرب أن تكون هذه الإشارة هنا إليها. ويكون اختيار مشهد هوي النجم مقصودا للتناسق الذي أشرنا إليه. ولمعنى آخر هو الإيحاء بأن النجم مهما يكن عظيما هائلا فإنه يهوي ويتغير مقامه. فلا يليق أن يكون معبودا. فللمعبود الثبات والارتفاع والدوام.

تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

ذلك هو القسم. فأما المقسم عليه، فهو أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الوحي الذي يحدثهم عنه:

ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى ..

فصاحبكم راشد غير ضال. مهتد غير غاو. مخلص غير مغرض. مبلغ بالحق عن الحق غير واهم ولا مفتر ولا مبتدع. ولا ناطق عن الهوى فيما يبلغكم من الرسالة. إن هو إلا وحي يوحى. وهو يبلغكم ما يوحى إليه صادقا أمينا.

هذا الوحي معروف حامله. مستيقن طريقه. مشهودة رحلته. رآه الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأي العين والقلب، فلم يكن واهما ولا مخدوعا:

علمه شديد القوى. ذو مرة فاستوى. وهو بالأفق الأعلى. ثم دنا فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى. فأوحى إلى عبده ما أوحى. ما كذب الفؤاد ما رأى. أفتمارونه على ما يرى؟ ..

والشديد القوى ذو المرة "أي القوة"، هو جبريل - عليه السلام - وهو الذي علم صاحبكم ما بلغه إليكم. وهذا هو الطريق، وهذه هي الرحلة، مشهودة بدقائقها: استوى وهو بالأفق الأعلى. حيث رآه محمد - صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك في مبدأ الوحي. حين رآه على صورته التي خلقه الله عليها، يسد الأفق بخلقه الهائل. ثم دنا منه فتدلى نازلا مقتربا إليه. فكان أقرب ما يكون منه. على بعد ما بين القوسين أو أدنى - وهو تعبير عن منتهى القرب - فأوحى إلى عبد الله ما أوحى. بهذا الإجمال والتفخيم والتهويل.

فهي رؤية عن قرب بعد الترائي عن بعد. وهو وحي وتعليم ومشاهدة وتيقن.

وهي حال لا يتأتى معها كذب في الرؤية، ولا تحتمل مماراة أو مجادلة: ما كذب الفؤاد ما رأى. أفتمارونه على ما يرى؟ .. ورؤية الفؤاد أصدق وأثبت، لأنها تنفي خداع النظر. فلقد رأى فتثبت فاستيقن فؤاده أنه الملك، حامل الوحي، رسول ربه إليه، ليعلمه ويكلفه تبليغ ما يعلم. وانتهى المراء والجدال، فما عاد لهما مكان بعد تثبت القلب ويقين الفؤاد.

تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

وليست هذه هي المرة الوحيدة التي رآه فيها على صورته. فقد تكررت مرة أخرى

ولقد رآه نزلة أخرى. عند سدرة المنتهى. عندها جنة المأوى. إذ يغشى السدرة ما يغشى. ما زاغ البصر وما طغى. لقد رأى من آيات ربه الكبرى .

وكان ذلك في ليلة الإسراء والمعراج - على الراجح من الروايات - فقد دنا منه - وهو على هيئته التي خلقه الله بها مرة أخرى عند سدرة المنتهى .. والسدرة كما يعرف من اللفظ شجرة. فأما أنها سدرة المنتهى. فقد يعني هذا أنها التي ينتهي إليها المطاف. فجنة المأوى عندها. أو التي انتهت إليها رحلة المعراج. أو التي انتهت إليها صحبة جبريل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث وقف هو وصعد محمد - صلى الله عليه وسلم - درجة أخرى أقرب إلى عرش ربه وأدنى.. وكله غيب من غيب الله، أطلع عليه عبده المصطفى، ولم يرد إلينا عنه إلا هذا. وكله أمر فوق طاقتنا أن ندرك كيفيته. فلا يدركها الإنسان إلا بمشيئة من خالقه وخالق الملائكة، العليم بخصائص الإنسان وخصائص الملائكة..

ويذكر ما لابس هذه الرؤية عند سدرة المنتهى. زيادة في التوكيد واليقين: إذ يغشى السدرة ما يغشى .. مما لا يفصله ولا يحدده. فقد كان أهول وأضخم من الوصف والتحديد.

وكان ذلك كله حقا يقينا: ما زاغ البصر وما طغى .. فلم يكن زغللة عين، ولا تجاوز رؤية. إنما هي المشاهدة الواضحة المحققة، التي لا تحتمل شكا ولا ظنا. وقد عاين فيها من آيات ربه الكبرى، واتصل قلبه بالحقيقة عارية مباشرة مكشوفة.

تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

فالأمر إذن - أمر الوحي - أمر عيان مشهود. ورؤية محققة. ويقين جازم. واتصال مباشر. ومعرفة مؤكدة. وصحبة محسوسة. ورحلة واقعية. بكل تفصيلاتها ومراجعها.. وعلى هذا اليقين تقوم دعوة "صاحبكم" الذي تنكرون عليه وتكذبونه وتشككون في صدق الوحي إليه. وهو صاحبكم الذي عرفتموه وخبرتموه. وما هو بغريب عنكم فتجهلوه. وربه يصدقه ويقسم على صدقه. ويقص عليكم كيف أوحى إليه. وفي أي الظروف. وعلى يد من وكيف لاقاه. وأين رآه!

ذلك هو الأمر المستيقن، الذي يدعوهم إليه محمد - صلى الله عليه وسلم - فأما هم فعلام يستندون في عبادتهم وآلهتهم وأساطيرهم؟ علام يستندون في عبادتهم للات والعزى ومناة؟ وفي ادعائهم الغامض أنهن ملائكة، وأن الملائكة بنات الله؟ وأن لهن شفاعة ترتجى عند الله؟ إلى أي بينة؟ وإلى أية حجة؟ وإلى أي سلطان يرتكنون في هذه الأوهام؟ هذا ما يعالجه المقطع الثاني في السورة:





أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى. ألكم الذكر وله الأنثى؟ تلك إذا قسمة ضيزى! إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان. إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى. أم للإنسان ما تمنى؟ فلله الآخرة والأولى. وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا، إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى. إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى. وما لهم به من علم، إن يتبعون إلا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ..

تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

وكانت "اللات" صخرة بيضاء منقوشة، وعليها بيت بالطائف له أستار وسدنة، وحوله فناء معظم عند أهل الطائف وهم ثقيف ومن تابعها، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب عدا قريش لأن عندهم [ ص: 3408 ] الكعبة بيت إبراهيم عليه السلام. ويظن أن اسمها "اللات" مؤنث لفظ الجلالة "الله". سبحانه وتعالى.

وكانت "العزى" شجرة عليها بناء وأستار بنخلة - وهي بين مكة والطائف - وكانت قريش تعظمها. كما قال أبو سفيان يوم أحد. لنا العزى ولا عزى لكم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم ."ويظن أن اسمها "العزى" مؤنث "العزيز"..

وكانت "مناة" بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة. وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتهم يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة.

وكان بالجزيرة كثير من هذه المعبودات تعظمها القبائل المختلفة. ولكن هذه الثلاثة كانت أعظمها.

والمظنون أن هذه المعبودات كانت رموزا لملائكة يعتبرهن العرب إناثا ويقولون: إنهن بنات الله. ومن هنا جاءت عبادتها، والذي يقع غالبا أن ينسى الأصل، ثم تصبح هذه الرموز معبودات بذاتها عند جمهرة العباد. ولا تبقى إلا قلة متنورة هي التي تذكر أصل الأسطورة!


← يتبع →




إظهار التوقيع
توقيع : حياه الروح 5
#2

افتراضي رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير





فلما ذكر الله هذه المعبودات الثلاثة معجبا منها ومن عبادتها كما تفيد صيغة السؤال ولفظه:

أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى؟ ..

والتعجيب والتشهير واضح في افتتاح السؤال: "أفرأيتم؟" وفي الحديث عن مناة.. الثالثة الأخرى..

لما ذكر الله هذه المعبودات عقب عليها باستنكار دعواهم أن لله الإناث وأن لهم الذكور:

ألكم الذكر وله الأنثى؟ تلك إذا قسمة ضيزى ..

مما يوحي بأن لهذه المعبودات صلة بأسطورة أنوثة الملائكة، ونسبتها إلى الله سبحانه. مما يرجح ما ذكرناه عنها. وقد كانوا هم يكرهون ولادة البنات لهم. ومع هذا لم يستحيوا أن يجعلوا الملائكة إناثا - وهم لا يعلمون عنهم شيئا يلزمهم بهذا التصور. وأن ينسبوا هؤلاء الإناث إلى الله!

رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

والله - سبحانه - يأخذهم هنا بتصوراتهم وأساطيرهم; ويسخر منها ومنهم: ألكم الذكر وله الأنثى؟ .. إنها إذن قسمة غير عادلة قسمتكم بين أنفسكم وبين الله! تلك إذا قسمة ضيزى! ..

والمسألة كلها وهم لا أساس له من العلم ولا من الواقع. ولا حجة فيها ولا دليل:

إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان. إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس. ولقد جاءهم من ربهم الهدى !

هذه الأسماء. اللات. العزى. مناة.. وغيرها. وتسميتها آلهة وتسميتها ملائكة. وتسمية الملائكة إناثا. وتسمية الإناث بنات الله... كلها أسماء لا مدلول لها، ولا حقيقة وراءها. ولم يجعل الله لكم حجة فيها. وكل ما لم يقرره الله فلا قوة فيه ولا سلطان له. لأنه لا حقيقة له. وللحقيقة ثقل. وللحقيقة قوة. وللحقيقة سلطان فأما الأباطيل فهي خفيفة لا وزن لها. ضعيفة لا قوة لها. مهينة لا سلطان فيها.

وفي منتصف الآية يتركهم وأوهامهم وأساطيرهم، ويترك خطابهم، ويلتفت عنهم كأنهم لا وجود لهم، ويتحدث عنهم بصيغة الغائب: إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس .. فلا حجة ولا علم ولا يقين. إنما هو الظن يقيمون عليه العقيدة، والهوى يستمدون منه الدليل. والعقيدة لا مجال فيها للظن والهوى; ولا بد فيها من اليقين القاطع والتجرد من الهوى والغرض.. وهم لم يتبعوا الظن والهوى ولهم عذر أو علة: ولقد جاءهم من ربهم الهدى .. فانقطع العذر وبطل التعلل!

[ ] ومتى انتهى الأمر إلى شهوة النفس وهواها فلن يستقيم أمر، ولن يجدي هدى; لأن العلة هنا ليست خفاء الحق، ولا ضعف الدليل. إنما هي الهوى الجامح الذي يريد، ثم يبحث بعد ذلك عن مبرر لما يريد! وهي شر حالة تصاب بها النفس فلا ينفعها الهدى، ولا يقنعها الدليل!

رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

ومن ثم يسأل في استنكار:

أم للإنسان ما تمنى؟ ..

فكل ما يتمنى يتحول إلى حقيقة وكل ما يهوى ينقلب إلى واقع! والأمر ليس كذلك. فإن الحق حق والواقع واقع. وهوى النفس ومناها لا يغيران ولا يبدلان في الحقائق. إنما يضل الإنسان بهواه، ويهلك بمناه. وهو أضعف من أن يغير أو يبدل في طبائع الأشياء. وإنما الأمر كله لله يتصرف فيه كما يشاء في الدنيا وفي الآخرة سواء:

فلله الآخرة والأولى ..

ولا ننسى أن نلحظ هنا تقديم الآخرة على الأولى. لمراعاة قافية السورة وإيقاعها. إلى جانب النكتة المعنوية المقصودة بتقديم الآخرة على الأولى. كما هي طبيعة الأسلوب القرآني في الجمع بين أداء المعنى وتنغيم الإيقاع. دون إخلال بهذا على حساب ذاك! شأنه شأن كل ما هو من صنع الله. فالجمال في الكون كله يتناسق مع الوظيفة ويؤاخيها!

وإذا خلص الأمر كله لله في الآخرة والأولى. فإن أوهام المشركين عن شفاعة الآلهة المدعاة - من الملائكة - لهم عند الله. كما قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى .. إن هذه الأوهام لا أصل لها. فالملائكة الحقة في السماء لا تملك الشفاعة إلا حين يأذن الله في شيء منها:

رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا. إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ..

ومن ثم تسقط دعواهم من أساسها، فوق ما فيها من بطلان تولى تفنيده في الآيات السابقة. وتتجرد العقيدة من كل غبش أو شبهة. فالأمر لله في الآخرة والأولى. ومنى الإنسان لا تغير من الحق الواقع شيئا. والشفاعة لا تقبل إلا بإذن من الله ورضى. فالأمر إليه في النهاية. والاتجاه إليه وحده في الآخرة والأولى.

وفي نهاية الفقرة يناقش للمرة الأخيرة أوهام المشركين - الذين لا يؤمنون بالآخرة - عن الملائكة; ويكشف عن أساسها الواهي، الذي لا ينبغي أن تقوم عليه عقيدة أصلا:

رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى. وما لهم به من علم. إن يتبعون إلا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ..

وهذا التعقيب الأخير يوحي بعلاقة اللات والعزى ومناة بأسطورة أنوثة الملائكة ونسبتهم إلى الله سبحانه! وهي أسطورة واهية، لا يتبعون فيها إلا الظن. فليس لهم من وسيلة لأن يعلموا شيئا مستيقنا عن طبيعة الملائكة. فأما نسبتهم إلى الله. فهي الباطل الذي لا دليل عليه إلا الوهم الباطل! وكل هذا لا يغني من الحق، ولا يقوم مقامه في شيء. الحق الذي يتركونه ويستغنون عنه بالأوهام والظنون!

وحين يبلغ إلى هذا الحد من بيان وهن عقيدة الشرك وتهافتها عند الذين لا يؤمنون بالآخرة، ويشركون بالله، وينسبون له البنات ويسمون الملائكة تسمية الأنثى! يتجه بالخطاب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - [] ليهمل شأنهم ويعرض عنهم، ويدع أمرهم لله الذي يعلم المسيء والمحسن، ويجزي المهدي والضال، ويملك أمر السماوات والأرض، وأمر الدنيا والآخرة، ويحاسب بالعدل لا يظلم أحدا، ويتجاوز عن الذنوب التي لا يصر عليها فاعلوها. وهو الخبير بالنوايا والطوايا، لأنه خالق البشر المطلع على حقيقتهم في أطوار حياتهم جميعا:

فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا. ذلك مبلغهم من العلم. إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى. ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش - إلا اللمم - إن ربك واسع المغفرة. هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض، وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم. فلا تزكوا أنفسكم. هو أعلم بمن اتقى ..

هذا الأمر بالإعراض عمن تولى عن ذكر الله، ولم يؤمن بالآخرة، ولم يرد إلا الحياة الدنيا. موجه ابتداء إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليهمل شأن أولئك المشركين الذين سبق الحديث في السورة عن أساطيرهم وأوهامهم وعدم إيمانهم بالآخرة.

وهو موجه بعد ذلك إلى كل مسلم يواجهه من يتولى عن ذكر الله ويعرض عن الإيمان به; ويجعل وجهته الحياة الدنيا وحدها، لا ينظر إلى شيء وراءها، ولا يؤمن بالآخرة ولا يحسب حسابها. ويرى أن حياة الإنسان على هذه الأرض هي غاية وجوده، لا غاية بعدها; ويقيم منهجه في الحياة على هذا الاعتبار، فيفصل ضمير الإنسان عن الشعور بإله يدبر أمره، ويحاسبه على عمله، بعد رحلة الأرض المحدودة، وأقرب من تتمثل فيه هذه الصفة في زماننا هذا هم أصحاب المذاهب المادية.

والمؤمن بالله وبالآخرة لا يستطيع أن يشغل باله - فضلا على أن يعامل أو يعايش - من يعرض عن ذكر الله، وينفي الآخرة من حسابه. لأن لكل منهما منهجا في الحياة لا يلتقيان في خطوة واحدة من خطواته، ولا في نقطة واحدة من نقاطه. وجميع مقاييس الحياة، وجميع قيمها، وجميع أهدافها، تختلف في تصور كل منهما. فلا يمكن إذن أن يتعاونا في الحياة أي تعاون، ولا أن يشتركا في أي نشاط على هذه الأرض. مع هذا الاختلاف الرئيسي في تصور قيم الحياة وأهدافها ومناهج النشاط فيها، وغاية هذا النشاط. وما دام التعاون والمشاركة متعذرين فما داعي الاهتمام والاحتفال؟ إن المؤمن يعبث حين يحفل شأن هؤلاء الذين يعرضون عن ذكر الله ولا يريدون إلا الحياة الدنيا. وينفق طاقته التي وهبه الله إياها في غير موضعها.


رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

على أن للإعراض اتجاها آخر، هو التهوين من شأن هذه الفئة. فئة الذين لا يؤمنون بالله; ولا يبتغون شيئا وراء الحياة الدنيا. فمهما كان شأنهم فهم محجوبون عن الحقيقة، قاصرون عن إدراكها، واقفون وراء الأسوار. أسوار الحياة الدنيا.. ذلك مبلغهم من العلم . وهو مبلغ تافه مهما بدا عظيما. قاصر مهما بدا شاملا. مضلل مهما بدا هاديا. وما يمكن أن يعلم شيئا ذا قيمة من يقف بقلبه وحسه وعقله عند حدود هذه الأرض. ووراءها - حتى في رأي العين - عالم هائل لم يخلق نفسه. ووجوده هكذا أمر ترفضه البداهة. ولم يوجد عبثا متى كان له خالق. وإنه لعبث أن تكون الحياة الدنيا هي نهاية هذا الخلق الهائل وغايته.. فإدراك حقيقة هذا الكون من أي طرف من أطرافها كفيل بالإيمان بالخالق. وكفيل كذلك بالإيمان بالآخرة. نفيا للعبث عن هذا الخالق العظيم الذي يبدع هذا الكون الكبير.

ومن ثم يجب الإعراض عمن يتولى عن ذكر الله ويقف عند حدود الدنيا، الإعراض على سبيل صيانة الاهتمام أن يبذل في غير موضعه والإعراض على سبيل التهوين والاحتقار لمن هذا مبلغ علمه. ونحن مأمورون بهذا إن أردنا أن نتلقى أمر الله لنطيعه. لا لنقول كما قالت يهود: سمعنا وعصينا.. والعياذ بالله من هذا!

إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ..

وقد علم أن هؤلاء ضالون. فلم يرد لنبيه ولا للمهتدين من أمته أن يشغلوا أنفسهم بشأن الضالين. ولا أن يصاحبوهم. ولا أن يحفلوهم. ولا أن يخدعوا في ظاهر علمهم المضلل القاصر، الذي يقف عند حدود الحياة الدنيا. ويحول بين الإدراك البشري والحقيقة الخالصة، التي تقود من يدركها إلى الإيمان بالله، والإيمان بالآخرة، وتتخطى به حدود هذه الأرض القريبة، وهذه الحياة الدنيا المحدودة.

وإن العلم الذي يبلغه هؤلاء القاصرون الضالون ليبدو في أعين العوام وأشباههم، عوام القلب والإدراك والحس، شيئا عظيما ذا فاعلية وأثر في واقع الحياة الدنيا. ولكن هذا لا ينفي صفة الضلال عنهم في النهاية، ولا صفة الجهل والقصور. فحقيقة الارتباط بين هذا الوجود وخالقه. وحقيقة الارتباط بين عمل الإنسان وجزائه. هاتان الحقيقتان ضروريتان لكل علم حق. وبدونهما يبقى العلم قشورا لا تؤثر في حياة الإنسان ولا ترقيها ولا ترفعها. وقيمة كل علم مرهونة بأثره في النفس وفي ارتباطات البشر الأدبية. وإلا فهو تقدم في الآلات وانتكاس في الآدميين. وما أبأسه من علم هذا الذي ترتقي فيه الآلات على حساب الآدميين!!!

وشعور الإنسان بأن له خالقا خلقه وخلق هذا الكون كله، وفق ناموس واحد متناسق. يغير من شعوره بالحياة، وشعوره بما حوله وبمن حوله; ويجعل لوجوده قيمة وهدفا وغاية أكبر وأشمل وأرفع، لأن وجوده مرتبط بهذا الكون كله; فهو أكبر من ذاته المعدودة الأيام. وأكبر من أسرته المعدودة الأفراد وأكبر من قومه، وأكبر من وطنه وأكبر من طبقته التي يطنطن بها أصحاب المذاهب المادية الحديثة. وأرفع من اهتمامات هذه التشكيلات جميعا!

رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

وشعور الإنسان بأن خالقه محاسبه في الآخرة ومجازيه. يغير من تصوراته ومن موازينه ومن حوافزه ومن أهدافه. ويربط الحاسة الأخلاقية في نفسه بمصيره كله، فيزيدها قوة وفاعلية. لأن هلاكه أو نجاته مرهونة بيقظة هذه الحاسة وتأثيرها في نيته وعمله. ومن ثم يقوى الإنسان ، ويسيطر على تصرفات هذا الكائن. لأن الرقيب الحارس قد استيقظ! ولأن الحساب الختامي ينتظره هناك. ومن الناحية الأخرى فهو مطمئن إلى الخير واثق من انتصاره في الحساب الختامي. حتى لو رآه ينهزم في الأرض في بعض الجولات! وهو مكلف دائما أن ينصر الخير ويكافح في سبيله سواء هزم في هذه الأرض أم انتصر لأن الجزاء النهائي هناك!

إنها مسألة كبيرة هذا الإيمان بالله والإيمان بالآخرة. مسألة أساسية في حياة البشر. إنها حاجة أكبر من حاجات الطعام والشراب والكساء. وإنها إما أن تكون فيكون الإنسان وإما ألا تكون فهو حيوان من ذلك الحيوان!

وحين تفترق المعايير والأهداف والغايات وتصور الحياة كلها هذا الاختلاف، فلا مجال حينئذ إلى مشاركة أو تعامل أو حتى تعارف ينشأ عنه قسط من الاهتمام.

ومن ثم لا يمكن أن تقوم علاقة أو صحبة أو شركة أو تعاون، أو أخذ وعطاء، أو اهتمام واحتفال بين مؤمن بالله، وآخر أعرض عن ذكره ولم يرد إلا الحياة الدنيا. وكل قول غير هذا فهو محال ومراء، يخالف عن أمر الله: فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ..


رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

إظهار التوقيع
توقيع : حياه الروح 5
#3

افتراضي رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير




ولله ما في السماوات وما في الأرض. ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ..

وهذا التقرير لملكية الله - وحده - لما في السماوات وما في الأرض، يمنح قضية الآخرة قوة وتأثيرا. فالذي جعل الآخرة وقدرها هو الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض وحده، فهو القادر على الجزاء، المختص به، المالك لأسبابه. ومن شأن هذه الملكية أن تحقق الجزاء الكامل العادل: ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ..

ثم يحدد الذين أحسنوا هؤلاء، والذين يجزيهم بالحسنى.. فهم:

الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش. إلا اللمم ..

وكبائر الإثم هي كبار المعاصي. والفواحش كل ما عظم من الذنب وفحش. واللمم تختلف الأقوال فيه. فابن كثير يقول: وهذا استثناء منقطع لأن اللمم من صغار الذنوب ومحقرات الأعمال. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله تعالى إذا كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة. فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه".

وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن ثور، حدثنا معمر، عن الأعمش، عن أبي الضحى أن ابن مسعود قال: زنا العين النظر، وزنا الشفتين التقبيل، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين المشي. ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه. فإن تقدم بفرجه كان زانيا وإلا فهو اللمم. وكذا قال مسروق والشعبي.

وقال عبد الرحمن بن نافع الذي يقال له ابن لبابة الطائفي، قال: سألت أبا هريرة عن قول الله: "إلا اللمم" قال: القبلة والنظرة والغمزة والمباشرة. فإذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل. وهو الزنا.

فهذه أقوال متقاربة في تعريف اللمم.

وهناك أقوال أخرى:

قال علي بن طلحة عن ابن عباس: "إلا اللمم" إلا ما سلف. وكذا قال زيد بن أسلم.

وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن منصور، عن مجاهد، أنه قال في هذه الآية: إلا اللمم قال: الذي يلم بالذنب ثم يدعه.

وقال ابن جرير: حدثني سليمان بن عبد الجبار: حدثنا أبو عاصم، حدثنا زكريا عن ابن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم .. قال:

هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب. وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:


إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك ما ألما؟



وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن عثمان البصري عن أبي عاصم النبيل. ثم قال: هذا حديث صحيح حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق. وكذا قال البزار لا نعلمه يروى متصلا إلا من هذا الوجه.

وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيع. حدثنا يزيد بن زريع. حدثنا يونس، عن الحسن، [] عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (أراه رفعه) في الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم . قال: اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود. واللمة من السرقة ثم يتوب ولا يعود. واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود. قال: فذلك الإلمام..

وروي مثل هذا موقوفا على الحسن.

فهذه طائفة أخرى من الأقوال تحدد معنى اللمم تحديدا غير الأول.

رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

والذي نراه أن هذا القول الأخير أكثر تناسبا مع قوله تعالى بعد ذلك: إن ربك واسع المغفرة .. فذكر سعة المغفرة يناسب أن يكون اللمم هو الإتيان بتلك الكبائر والفواحش، ثم التوبة. ويكون الاستثناء غير منقطع. ويكون الذين أحسنوا هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش. إلا أن يقعوا في شيء منها ثم يعودوا سريعا ولا يلجوا ولا يصروا. كما قال الله سبحانه: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون .. وسمى هؤلاء "المتقين" ووعدهم مغفرة وجنة عرضها السماوات والأرض .. فهذا هو الأقرب إلى رحمة الله ومغفرته الواسعة.

وختم الآية بأن هذا الجزاء بالسوأى وبالحسنى مستند إلى علم الله بحقيقة دخائل الناس في أطوارهم كلها.

هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض، وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم ..

فهو العلم السابق على ظاهر أعمالهم. العلم المتعلق بحقيقتهم الثابتة، التي لا يعلمونها هم، ولا يعرفها إلا الذي خلقهم. علم كان وهو ينشئ أصلهم من الأرض وهم بعد في عالم الغيب. وكان وهم أجنة في بطون أمهاتهم لم يروا النور بعد. علم بالحقيقة قبل الظاهر. وبالطبيعة قبل العمل.

ومن كانت هذه طبيعة علمه يكون من اللغو - بل من سوء الأدب - أن يعرفه إنسان بنفسه، وأن يعلمه - سبحانه - بحقيقته! وأن يثني على نفسه أمامه يقول له: أنا كذا وأنا كذا:

فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ..

فما هو بحاجة إلى أن تدلوه على أنفسكم، ولا أن تزنوا له أعمالكم; فعنده العلم الكامل. وعنده الميزان الدقيق. وجزاؤه العدل. وقوله الفصل. وإليه يرجع الأمر كله.

بعد ذلك يجيء المقطع الأخير في السورة. في إيقاع كامل التنغيم، أشبه بإيقاع المقطع الأول. يقرر الحقائق الأساسية للعقيدة كما هي ثابتة منذ إبراهيم صاحب الحنيفية الأولى. ويعرف البشر بخالقهم، بتعليمهم بمشيئته الفاعلة المبدعة المؤثرة في حياتهم ويعرض آثارها واحدا واحدا بصورة تلمس الوجدان البشري وتذكره وتهزه هزا عميقا.. حتى إذا كان الختام وكان الإيقاع الأخير تلقته المشاعر مرتجفة مرتعشة متأثرة مستجيبة:

أفرأيت الذي تولى، وأعطى قليلا وأكدى؟ أعنده علم الغيب فهو يرى؟ أم لم ينبأ بما في صحف موسى، وإبراهيم الذي وفى. ألا تزر وازرة وزر أخرى. وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. وأن سعيه سوف يرى. ثم يجزاه الجزاء الأوفى. وأن إلى ربك المنتهى. وأنه هو أضحك وأبكى. وأنه هو أمات وأحيا. وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى. وأن عليه النشأة الأخرى، وأنه هو أغنى وأقنى. وأنه هو رب الشعرى. وأنه أهلك عادا الأولى. وثمود فما أبقى. وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى. والمؤتفكة أهوى. فغشاها ما غشى. فبأي آلاء ربك تتمارى؟

هذا نذير من النذر الأولى. أزفت الآزفة. ليس لها من دون الله كاشفة. أفمن هذا الحديث تعجبون، وتضحكون ولا تبكون، وأنتم سامدون؟

رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير


فاسجدوا لله واعبدوا ..

وذلك الذي تولى، وأعطى قليلا وأكدى .. الذي يعجب الله من أمره الغريب، تذكر بعض الروايات أنه فرد معين مقصود، أنفق قليلا في سبيل الله، ثم انقطع عن البذل خوفا من الفقر. ويحدد الزمخشري في تفسيره "الكشاف" شخصه، أنه عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ويذكر في ذلك قصة، لا يستند فيها إلى شيء، ولا يقبلها من يعرف عثمان - رضي الله عنه - وطبيعته وبذله الكثير الطويل في سبيل الله بلا توقف وبلا حساب كذلك; وعقيدته في الله وتصوره لتبعة العمل وفرديته.

وقد يكون المقصود شخصا بذاته. وقد يكون نموذجا من الناس سواء. فالذي يتولى عن هذا النهج، ويبذل من ماله أو من نفسه لهذه العقيدة ثم يكدي - أي يضعف عن المواصلة ويكف - أمره عجيب، يستحق التعجيب ويتخذ القرآن من حاله مناسبة لعرض حقائق العقيدة وتوضيحها.

أعنده علم الغيب فهو يرى؟ ..

والغيب لله. لا يراه أحد سواه. فلا يأمن الإنسان ما خبئ فيه; وعليه أن يواصل عمله وبذله، وأن يعيش حذرا موفيا طوال حياته; وألا يبذل ثم ينقطع، ولا ضمان له في الغيب المجهول إلا حذره وعمله ووفاؤه، ورجاؤه بهذا كله في مغفرة الله وقبوله.

أم لم ينبأ بما في صحف موسى، وإبراهيم الذي وفى ... ..

وهذا الدين قديم، موصولة أوائله وأواخره، ثابتة أصوله وقواعده، يصدق بعضه بعضا على توالي الرسالات والرسل، وتباعد المكان والزمان. فهو في صحف موسى. وهو في ملة إبراهيم قبل موسى. إبراهيم الذي وفى. وفى بكل شيء. وفى وفاء مطلقا استحق به هذا الوصف المطلق. ويذكر الوفاء هنا في مقابل الإكداء والانقطاع، ويذكر بهذه الصيغة (وفى) بالتشديد تنسيقا للإيقاع المنغم وللقافية المطردة.

رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

فماذا في صحف موسى، وإبراهيم الذي وفى؟ فيها:
ألا تزر وازرة وزر أخرى
..

فلا تحمل نفس حمل أخرى; لا تخفيفا عن نفس ولا تثقيلا على أخرى. فلا تملك نفس أن تتخفف من حملها ووزرها. ولا تملك نفس أن تتطوع فتحمل عن نفس شيئا!

وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ..

[ ص: 3415 ] كذلك. فما يحسب للإنسان إلا كسبه وسعيه وعمله. لا يزاد عليه شيء من عمل غيره. ولا ينقص منه شيء ليناله غيره. وهذه الحياة الدنيا هي الفرصة المعطاة له ليعمل ويسعى. فإذا مات ذهبت الفرصة وانقطع العمل. إلا ما نص عليه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: من ولد صالح يدعو له. أو صدقة جارية من بعده. أو علم ينتفع به".. وهذه الثلاثة في حقيقتها من عمله. ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي - رحمه الله - ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم. ولهذا لم يندب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته، ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - ولو كان خيرا لسبقونا إليه. وباب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء. فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما..

رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير


وأن سعيه سوف يرى. ثم يجزاه الجزاء الأوفى ..

فلن يضيع شيء من السعي والعمل والكسب; ولن يغيب شيء عن علم الله وميزانه الدقيق. وسينال كل امرئ جزاء سعيه وافيا كاملا لا نقص فيه ولا ظلم.

وكذلك يتحدد مبدأ فردية التبعة، إلى جانب عدالة الجزاء. فتتحقق للإنسان قيمته الإنسانية. القائمة على اعتباره مخلوقا راشدا مسؤولا مؤتمنا على نفسه; كريما تتاح له الفرصة للعمل ثم يؤخذ بما عمل وتتحقق له كذلك الطمأنينة على عدالة الجزاء. عدالة مطلقة لا يميل بها الهوى، ولا يقعد بها القصور، ولا ينقص منها الجهل بحقائق الأمور.

وأن إلى ربك المنتهى ..

فلا طريق إلا الطريق الذي ينتهي إليه. ولا ملجأ من دونه. ولا مأوى إلا داره: في نعيم أو جحيم.. ولهذه الحقيقة قيمتها وأثرها في تكييف مشاعر الإنسان وتصوره فحين يحس أن المنتهى إلى الله منتهى كل شيء وكل أمر. وكل أحد. فإنه يستشعر من أول الطريق نهايته التي لا مفر منها ولا محيص عنها. ويصوغ نفسه وعمله وفق هذه الحقيقة; أو يحاول في هذا ما يستطيع. ويظل قلبه ونظره معلقين بتلك النهاية منذ أول الطريق!


رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

إظهار التوقيع
توقيع : حياه الروح 5
#4

افتراضي رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير




وبعد ما يصل السياق بالقلب البشري إلى نهاية المطاف يكر راجعا به إلى الحياة، يريه فيها آثار مشيئة الله. في كل مرحلة، وفي كل حال:


رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

وأنه هو أضحك وأبكى ..

وتحت هذا النص تكمن حقائق كثيرة. ومن خلاله تنبعث صور وظلال موحية مثيرة..

أضحك وأبكى.. فأودع هذا الإنسان خاصية الضحك وخاصية البكاء. وهما سر من أسرار التكوين البشري لا يدري أحد كيف هما، ولا كيف تقعان في هذا الجهاز المركب المعقد، الذي لا يقل تركيبه وتعقيده النفسي عن تركيبه وتعقيده العضوي. والذي تتداخل المؤثرات النفسية والمؤثرات العضوية فيه وتتشابكان وتتفاعلان في إحداث الضحك وإحداث البكاء .

[] وأضحك وأبكى.. فأنشأ للإنسان دواعي الضحك ودواعي البكاء. وجعله - وفق أسرار معقدة فيه - يضحك لهذا ويبكي لهذا. وقد يضحك غدا مما أبكاه اليوم. ويبكي اليوم مما أضحكه بالأمس. في غير جنون ولا ذهول إنما هي الحالات النفسية المتقلبة. والموازين والدواعي والدوافع والاعتبارات التي لا تثبت في شعوره على حال!

وأضحك وأبكى.. فجعل في اللحظة الواحدة ضاحكين وباكين. كل حسب المؤثرات الواقعة عليه. وقد يضحك فريق مما يبكي منه فريق. لأن وقعه على هؤلاء غير وقعه على أولئك.. وهو هو في ذاته. ولكنه بملابساته بعيد من بعيد!

وأضحك وأبكى. من الأمر الواحد صاحبه نفسه. يضحك اليوم من الأمر ثم تواجهه عاقبته غدا أو جرائره فإذا هو باك. يتمنى أن لم يكن فعل وأن لم يكن ضحك وكم من ضاحك في الدنيا باك في الآخرة حيث لا ينفع البكاء!

هذه الصور والظلال والمشاعر والأحوال.. وغيرها كثير تنبثق من خلال النص القصير، وتتراءى للحس والشعور. وتظل حشود منها تنبثق من خلاله كلما زاد رصيد النفس من التجارب; وكلما تجددت عوامل الضحك والبكاء في النفوس - وهذا هو الإعجاز في صورة من صوره الكثيرة في هذا القرآن.

رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

وأنه هو أمات وأحيا ..

وكذلك تنبثق من هذا النص صور لا عداد لها في الحس.

أمات وأحيا.. أنشأ الموت والحياة، كما قال في سورة أخرى: الذي خلق الموت والحياة . وهما أمران معروفان كل المعرفة بوقوعهما المتكرر. ولكنهما خافيان كل الخفاء حين يحاول البشر أن يعرفوا طبيعتهما وسرهما الخافي على الأحياء.. فما الموت؟ وما الحياة؟ ما حقيقتهما حين يتجاوز الإنسان لفظهما وشكلهما الذي يراه؟ كيف دبت الحياة في الكائن الحي؟ ما هي؟ ومن أين جاءت؟ وكيف تلبست بهذا الكائن فكان؟ وكيف سارت في طريقها الذي سارت فيه بهذا الكائن أو بهذه الكائنات الأحياء؟ وما الموت؟ وكيف كان.. قبل دبيب الحياة. وبعد مفارقتها للأحياء؟ إنه السر الخافي وراء الستر المسبل، بيد الله!

رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

أمات وأحيا.. وتنبثق ملايين الصور من الموت والحياة. في عوالم الأحياء كلها. في اللحظة الواحدة. في هذه اللحظة. كم ملايين الملايين من الأحياء ماتت. وكم ملايين الملايين بدأت رحلة الحياة. ودب فيها هذا السر من حيث لا تعلم ومن حيث لا يعلم أحد إلا الله! وكم من ميتات وقعت فإذا هي ذاتها بواعث حياة! وكم من هذه الصور يتراءى على مدار القرون، حين يستغرق الخيال في استعراض الماضي الطويل، الذي كان قبل أن يكون الإنسان كله على هذا الكوكب. وندع ما يعلمه الله في غير هذا الكوكب من أنواع الموت والحياة التي لا تخطر على بال الإنسان!

إنها حشود من الصور وحشود، تطلقها هذه الكلمات القلائل، فتهز القلب البشري من أعماقه. فلا يتمالك نفسه ولا يتماسك تحت إيقاعاتها المنوعة الأصداء!

وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى ..

وهي الحقيقة الهائلة الواقعة المتكررة في كل لحظة. فينساها الإنسان لتكرارها أمام عينيه، وهي أعجب من كل عجيبة تبدعها شطحات الخيال!

نطفة تمنى.. تراق.. إفراز من إفرازات هذا الجسد الإنساني الكثيرة كالعرق والدمع والمخاط! فإذا هي بعد فترة مقدورة في تدبير الله.. إذا هي ماذا؟ إذا هي إنسان! وإذا هذا الإنسان ذكر وأنثى! كيف؟ كيف تمت هذه العجيبة التي لم تكن - لولا وقوعها - تخطر على الخيال؟ وأين كان هذا الإنسان المركب الشديد التركيب، المعقد الشديد التعقيد؟ أين كان كامنا في النقطة المراقة من تلك النطفة. بل في واحد من ملايين من أجزائها الكثيرة؟ أين كان كامنا بعظمه ولحمه وجلده، وعروقه وشعره وأظافره. وسماته وشياته وملامحه. وخلائقه وطباعه واستعداداته؟! أين كان في هذه الخلية الميكروسكوبية السابحة هي وملايين من أمثالها في النقطة الواحدة من تلك النطفة التي تمنى؟! وأين على وجه التخصيص كانت خصائص الذكر وخصائص الأنثى في تلك الخلية. تلك التي انبثقت وأعلنت عن نفسها في الجنين في نهاية المطاف؟!


رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

وأي قلب بشري يقف أمام هذه الحقيقة الهائلة العجيبة. ثم يتمالك أو يتماسك. فضلا على أن يجحد ويتبجح، ويقول: إنها وقعت هكذا والسلام! وسارت في طريقها هكذا والسلام! واهتدت إلى خطها المرسوم هكذا والسلام! أو يتعالم فيقول: إنها سارت هذه السيرة بحكم ما ركب فيها من استعداد لإعادة نوعها، شأنها شأن سائر الأحياء المزودة بهذا الاستعداد! فهذا التفسير يحتاج بدوره إلى تفسير. فمن ذا أودعها هذا الاستعداد؟ من ذا أودعها الرغبة الكامنة في حفظ نوعها بإعادته مرة أخرى؟ ومن ذا أودعها القدرة على إعادته وهي ضعيفة ضئيلة؟ ومن ذا رسم لها الطريق لتسير فيه على هدى، وتحقق هذه الرغبة الكامنة؟ ومن ذا أودع فيها خصائص نوعها لتعيدها؟ وما رغبتها هي وما مصلحتها في إعادة نوعها بهذه الخصائص؟ لولا أن هنالك إرادة مدبرة من ورائها تريد أمرا، وتقدر عليه، وترسم له الطريق؟!

ومن النشأة الأولى. وهي واقعة مكرورة لا ينكرها منكر، يتجه مباشرة إلى النشأة الأخرى.

وأن عليه النشأة الأخرى ..

والنشأة الأخرى غيب. ولكن عليه من النشأة الأولى دليل. دليل على إمكان الوقوع. فالذي خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى، قادر - ولا شك - على إعادة الخلق من عظام ورفات. فليست العظام والرفات بأهون من الماء المراق! ودليل على حكمة الوقوع. فهذا التدبير الخفي الذي يقود الخلية الحية الصغيرة في طريقها الطويل الشاق حتى تكون ذكرا أو أنثى. هذا التدبير لا بد أن يكون مداه أبعد من رحلة الأرض التي لا يتم فيها شيء كامل; ولا يجد المحسن جزاء إحسانه كاملا، ولا المسيء جزاء إساءته كاملا كذلك. لأن في حساب هذا التدبير نشأة أخرى يبلغ فيها كل شيء تمامه. فدلالة النشأة الأولى على النشأة الأخرى مزدوجة. ومن هنا جاء ذكرها هكذا قبل النشأة الأخرى..

وفي النشأة الأولى. وفي النشأة الأخرى. يغني الله من يشاء من عباده ويقنيه:

رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير


وأنه هو أغنى وأقنى ..

أغنى من عباده من شاء في الدنيا بأنواع الغنى وهي شتى. غنى المال. وغنى الصحة. وغنى الذرية. وغنى النفس. وغنى الفكر. وغنى الصلة بالله والزاد الذي ليس مثله زاد.

وأغنى من عباده من شاء في الآخرة من غنى الآخرة!

وأقنى من شاء من عباده. من كل ما يقتنى في الدنيا كذلك وفي الآخرة!

والخلق فقراء ممحلون. لا يغتنون ولا يقتنون إلا من خزائن الله. فهو الذي أغنى. وهو الذي أقنى. وهي لمسة من واقع ما يعرفون وما تتعلق به أنظارهم وقلوبهم هنا وهناك. ليتطلعوا إلى المصدر الوحيد. ويتجهوا إلى الخزائن العامرة وحدها، وغيرها خواء!

رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

وأنه هو رب الشعرى ..

والشعرى نجم أثقل من الشمس بعشرين مرة، ونوره خمسون ضعف نور الشمس. وهي أبعد من الشمس بمليون ضعف بعد الشمس عنا.

وقد كان هناك من يعبد هذا النجم. وكان هناك من يرصده كنجم ذي شأن. فتقرير أن الله هو رب الشعرى له مكانه في السورة التي تبدأ بالقسم بالنجم إذا هوى; وتتحدث عن الرحلة إلى الملإ الأعلى; كما تستهدف تقرير عقيدة التوحيد، ونفي عقيدة الشرك الواهية المتهافتة.

وبهذا تنتهي تلك الجولة المديدة في الأنفس والآفاق، لتبدأ بعدها جولة في مصارع الغابرين، بعد ما جاءتهم النذر فكذبوا بها كما يكذب المشركون. وهي جولة مع قدرة الله ومشيئته وآثارها في الأمم قبلهم واحدة واحدة.

وأنه أهلك عادا الأولى. وثمود فما أبقى. وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى. والمؤتفكة أهوى. فغشاها ما غشى. فبأي آلاء ربك تتمارى؟ إنها جولة سريعة. تتألف من وقفة قصيرة على مصرع كل أمة، ولمسة عنيفة تخز الشعور وخزا.

وعاد وثمود وقوم نوح يعرفهم قارئ القرآن في مواضع شتى! والمؤتفكة هي أمة لوط. من الإفك والبهتان والضلال.. وقد أهواها في الهاوية وخسف بها فغشاها ما غشى .. بهذا التجهيل والتضخيم والتهويل، الذي تتراءى من خلاله صور الدمار والخسف والتنكيل، الذي يشمل كل شيء ويغشاه فلا يبين!

رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير


فبأي آلاء ربك تتمارى؟ ..

فلقد كانت إذن تلك المصارع آلاء لله وأفضالا. ألم يهلك الشر؟ ألم يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق؟ ألم يترك فيها آيات لمن يتدبر ويعي؟ أليست هذه كلها آلاء. فبأي آلاء ربك تتمارى! الخطاب لكل أحد. ولكل قلب، ولكل من يتدبر صنع الله فيرى النعمة حتى في البلوى!

وعلى مصارع الغابرين المكذبين بالنذر - بعد استعراض مظاهر المشيئة وآثارها في الأنفس والآفاق - يلقي بالإيقاع الأخير قويا عميقا عنيفا. كأنه صيحة الخطر قبيل الطامة الكبرى:

هذا نذير من النذر الأولى. أزفت الآزفة. ليس لها من دون الله كاشفة ..

هذا الرسول الذي تتمارون في رسالته وفي نذارته. هذا نذير من النذر الأولى التي أعقبها ما أعقبها! وقد أزفت الآزفة. واقتربت كاسحة جارفة. وهي الطامة والقارعة التي جاء هذا النذير يحذركم إياها أو هو هول العذاب الذي لا يعلم إلا الله نوعه وموعده. ولا يملك إلا الله كشفه ودفعه: ليس لها من دون الله كاشفة ..

وبينما الخطر الداهم قريب. والنذير الناصح يدعوكم إلى النجاة. إذا أنتم سادرون لاهون لا تقدرون الموقف ولا تفيقون.

أفمن هذا الحديث تعجبون؟ وتضحكون ولا تبكون؟ وأنتم سامدون ... ..

وهذا الحديث جد عظيم يلقي على كاهل الناس واجبات ضخمة وفي الوقت ذاته يقودهم إلى المنهج الكامل. فمم يعجبون؟ ومم يضحكون؟ وهذا الجد الصارم، وهذه التبعات الكبيرة، وما ينتظر الناس من حساب على حياتهم في الأرض.. كله يجعل البكاء أجدر بالموقف الجد، وما وراءه من الهول والكرب..

وهنا يرسلها صيحة مدوية، ويصرخ في آذانهم وقلوبهم، ويهتف بهم إلى ما ينبغي أن يتداركوا به أنفسهم، وهم على حافة الهاوية:

رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

فاسجدوا لله واعبدوا .

وإنها لصيحة مزلزلة مذهلة في هذا السياق، وفي هذه الظلال، وبعد هذا التمهيد الطويل، الذي ترتعش له القلوب:

ومن ثم سجدوا. سجدوا وهم مشركون. وهم يمارون في الوحي والقرآن. وهم يجادلون في الله والرسول! سجدوا تحت هذه المطارق الهائلة التي وقعت على قلوبهم والرسول - صلى الله عليه وسلم - يتلو هذه السورة عليهم. وفيهم المسلمون والمشركون. ويسجد فيسجد الجميع. مسلمين ومشركين. لا يملكون أن يقاوموا وقع هذا القرآن; ولا أن يتماسكوا لهذا السلطان.. ثم أفاقوا بعد فترة فإذا هم في ذهول من سجودهم كذهولهم وهم يسجدون!

بهذا تواترت الروايات. ثم افترقت في تعليل هذا الحادث الغريب. وما هو في الحقيقة بالغريب. فهو تأثير هذا القرآن العجيب ووقعه الهائل في القلوب!

هذا الحادث الذي تواترت به الروايات. حادث سجود المشركين مع المسلمين. كان يحتاج عندي إلى تعليل. قبل أن تقع لي تجربة شعورية خاصة عللته في نفسي، وأوضحت لي سببه الأصيل.

وكنت قد قرأت تلك الروايات المفتراة عما سمي بحديث الغرانيق، الذي أورده ابن سعد في طبقاته، وابن جرير الطبري في تاريخه. وبعض المفسرين عند تفسيرهم لقوله تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، فينسخ الله ما يلقي الشيطان، ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ... إلخ .. وهي الروايات التي قال فيها ابن كثير - جزاه الله خيرا - "ولكنها من طرق كلها مرسلة. ولم أرها مسندة من وجه صحيح".

رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

وأكثر هذه الروايات تفصيلا وأقلها إغراقا في الخرافة والافتراء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواية ابن أبي حاتم. قال: حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي، حدثنا محمد بن إسحاق الليثي، حدثنا محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب. قال: أنزلت سورة النجم، وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه; ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم، وأحزنه ضلالهم; فكان يتمنى هداهم. فلما أنزل الله سورة النجم قال: أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى؟

ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت فقال: وإنهن لهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى.. وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته.. فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة. وزلت بها ألسنتهم. وتباشروا بها. وقالوا: إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه.. فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخر النجم سجد، وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك.

غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا فرفع ملء كفه ترابا فسجد عليه. فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين. ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين.. فاطمأنت أنفسهم - أي المشركون - لما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحدثهم به الشيطان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قرأها في السورة، فسجدوا لتعظيم آلهتهم. ففشت تلك الكلمة في الناس [] وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين: عثمان بن مظعون وأصحابه. وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، وصلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه، وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة، فأقبلوا سراعا، وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته، وحفظه من الفرية. وقال: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ... إلخ .. فلما بين الله قضاءه وبرأه من سجع الشيطان، انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم على المسلمين، واشتدوا عليهم .. انتهى.

وهناك روايات أخرى أجرأ على الافتراء تنسب قولة الغرانيق.. تلك.. إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعلل هذا برغبته - حاشاه صلى الله عليه وسلم - في مراضاة قريش ومهادنتها!!!

وقد رفضت منذ الوهلة الأولى تلك الروايات جميعا.. فهي فضلا عن مجافاتها لعصمة النبوة وحفظ الذكر من العبث والتحريف، فإن سياق السورة ذاته ينفيها نفيا قاطعا. إذ إنه يتصدى لتوهين عقيدة المشركين في هذه الآلهة وأساطيرهم حولها. فلا مجال لإدخال هاتين العبارتين في سياق السورة بحال. حتى على قول من قال: إن الشيطان ألقى بهما في أسماع المشركين دون المسلمين. فهؤلاء المشركون كانوا عربا يتذوقون لغتهم. وحين يسمعون هاتين العبارتين المقحمتين ويسمعون بعدهما: ألكم الذكر وله الأنثى؟ تلك إذا قسمة ضيزى. إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم، ما أنزل الله بها من سلطان .. إلخ . ويسمعون بعد ذلك: إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى وما لهم به من علم. إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا .. ويسمعون قبله: وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى .. حين يسمعون هذا السياق كله فإنهم لا يسجدون مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأن الكلام لا يستقيم. والثناء على آلهتهم وتقرير أن لها شفاعة ترتجى لا يستقيم. وهم لم يكونوا أغبياء كغباء الذين افتروا هذه الروايات، التي تلقفها منهم المستشرقون مغرضين أو جاهلين!

رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

لغير هذا السبب إذن سجد المشركون. ولغير هذا السبب عاد المهاجرون من الحبشة ثم عادوا إليها بعد حين مع آخرين.

وليس هنا مجال تحقيق سبب عودة المهاجرين، ثم عودتهم إلى الحبشة مع آخرين..

فأما أمر السجود فهو الذي نتصدى له في هذه المناسبة..

لقد بقيت فترة أبحث عن السبب الممكن لهذا السجود. ويخطر لي احتمال أنه لم يقع; وإنما هي رواية ذكرت لتعليل عودة المهاجرين من الحبشة بعد نحو شهرين أو ثلاثة. وهو أمر يحتاج إلى التعليل.

وبينما أنا كذلك وقعت لي تلك التجربة الشعورية الخاصة التي أشرت إليها من قبل..

كنت بين رفقة نسمر حينما طرق أسماعنا صوت قارئ للقرآن من قريب، يتلو سورة النجم. فانقطع بيننا الحديث، لنستمع وننصت للقرآن الكريم. وكان صوت القارئ مؤثرا وهو يرتل القرآن ترتيلا حسنا.

وشيئا فشيئا عشت معه فيما يتلوه. عشت مع قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - في رحلته إلى الملإ الأعلى. عشت معه وهو يشهد جبريل - عليه السلام - في صورته الملائكية التي خلقه الله عليها. ذلك الحادث العجيب المدهش حين يتدبره الإنسان ويحاول تخيله! وعشت معه وهو في رحلته العلوية الطليقة. عند سدرة المنتهى. وجنة المأوى. عشت معه بقدر ما يسعفني خيالي، وتحلق بي رؤاي، وبقدر ما تطيق مشاعري وأحاسيسي..


رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

وتابعته في الإحساس بتهافت أساطير المشركين حول الملائكة وعبادتها وبنوتها وأنوثتها.. إلى آخر هذه الأوهام الخرفة المضحكة، التي تتهاوى عند اللمسة الأولى.

ووقفت أمام الكائن البشري ينشأ من الأرض، وأمام الأجنة في بطون الأمهات. وعلم الله يتابعها ويحيط بها.

وارتجف كياني تحت وقع اللمسات المتتابعة في المقطع الأخير من السورة.. الغيب المحجوب لا يراه إلا الله. والعمل المكتوب لا يند ولا يغيب عن الحساب والجزاء. والمنتهى إلى الله في نهاية كل طريق يسلكه العبيد. والحشود الضاحكة والحشود الباكية. وحشود الموتى. وحشود الأحياء. والنطفة تهتدي في الظلمات إلى طريقها، وتخطو خطواتها وتبرز أسرارها فإذا هي ذكر أو أنثى. والنشأة الأخرى. ومصارع الغابرين. والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى!

واستمعت إلى صوت النذير الأخير قبل الكارثة الداهمة: هذا نذير من النذر الأولى. أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة ..

ثم جاءت الصيحة الأخيرة. واهتز كياني كله أمام التبكيت الرعيب: أفمن هذا الحديث تعجبون. وتضحكون ولا تبكون. وأنتم سامدون؟ .

فلما سمعت: فاسجدوا لله واعبدوا .. كانت الرجفة قد سرت من قلبي حقا إلى أوصالي. واستحالت رجفة عضلية مادية ذات مظهر مادي، لم أملك مقاومته. فظل جسمي كله يختلج، ولا أتمالك أن أثبته، ولا أن أكفكف دموعا هاتنة، لا أملك احتباسها مع الجهد والمحاولة!

وأدركت في هذه اللحظة أن حادث السجود صحيح، وأن تعليله قريب. إنه كامن في ذلك السلطان العجيب لهذا القرآن، ولهذه الإيقاعات المزلزلة في سياق هذه السورة. ولم تكن هذه أول مرة أقرأ فيها سورة النجم أو أسمعها. ولكنها في هذه المرة كان لها هذا الوقع، وكانت مني هذه الاستجابة.. وذلك سر القرآن.. فهناك لحظات خاصة موعودة غير مرقوبة تمس الآية أو السورة فيها موضع الاستجابة; وتقع اللمسة التي تصل القلب بمصدر القوة فيها والتأثير. فيكون منها ما يكون!

رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

لحظة كهذه مست قلوب الحاضرين يومها جميعا. ومحمد - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه السورة يقرؤها بكيانه كله. ويعيش في صورها التي عاشها من قبل بشخصه. وتنصب كل هذه القوة الكامنة في السورة من خلال صوت محمد - صلى الله عليه وسلم - في أعصاب السامعين. فيرتجفون ويسمعون: فاسجدوا لله واعبدوا ويسجد محمد والمسلمون.. فيسجدون..

ولقد يقال: إنك تقيس على لحظة مرت بك، وتجربة عاينتها أنت. وأنت مسلم. تعتقد بهذا القرآن، وله في نفسك تأثير خاص.. وأولئك كانوا مشركين يرفضون الإيمان ويرفضون القرآن!

ولكن هنالك اعتبارين لهما وزنهما في مواجهة هذا الذي يقال:

الاعتبار الأول: أن الذي كان يقرأ السورة كان هو محمد - صلى الله عليه وسلم - النبي. الذي تلقى هذا القرآن مباشرة من مصدره. وعاشه وعاش به. وأحبه حتى لكان يثقل خطاه إذا سمع من يرتله داخل داره، ويقف إلى جانب الباب يسمع له حتى ينتهي! وفي هذه السورة بالذات كان يعيش لحظات عاشها في الملإ الأعلى. وعاشها مع الروح الأمين وهو يراه على صورته الأولى.. فأما أنا فقد كنت أسمع السورة من قارئ. والفارق ولا شك هائل !

والاعتبار الثاني: أن أولئك المشركين لم تكن قلوبهم ناجية من الرعشة والرجفة، وهم يستمعون إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - إنما كان العناد المصطنع هو الذي يحول بينهم وبين الإذعان.. والحادثان التاليان شاهد على ما كان يخالج قلوبهم من الارتعاش.

رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

روى ابن عساكر في ترجمة عتبة بن أبي لهب، من طريق محمد بن إسحاق، عن عثمان بن عروة ابن الزبير، عن أبيه، عن هناد بن الأسود، قال: كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزوا إلى الشام، فتجهزت معهما، فقال ابنه عتبة: والله لأنطلقن إلى محمد، ولأوذينه في ربه (سبحانه وتعالى) . فانطلق حتى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد. هو يكفر بالذي دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى.. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "اللهم سلط عليه كلبا من كلابك".. ثم انصرف عنه، فرجع إلى أبيه، فقال: يا بني، ما قلت له؟ فذكر له ما قاله. فقال: فما قال لك؟ قال: اللهم سلط عليه كلبا من كلابك. قال: يا بني والله ما آمن عليك دعاءه! فسرنا حتى نزلنا أبراه - وهي في سدة - ونزلنا إلى صومعة راهب. فقال الراهب: يا معشر العرب، ما أنزلكم هذه البلاد؟ فإنها يسرح فيها الأسد كما تسرح الغنم! فقال أبو لهب: إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي; وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوة والله ما آمنها عليه، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة، وافرشوا لابني عليها، ثم افرشوا حولها. ففعلنا. فجاء الأسد فشم وجوهنا، فلما لم يجد ما يريد تقبض فوثب وثبة فوق المتاع، فشم وجهه، ثم هزمه هزمة ففسخ رأسه. فقال أبو لهب: قد عرفت أنه لا ينفلت عن دعوة محمد!

هذا هو الحادث الأول صاحبه أبو لهب. أشد المخاصمين لمحمد - صلى الله عليه وسلم - المناوئين له، المؤلبين عليه هو وبيته. المدعو عليه في القرآن هو وبيته: تبت يدا أبي لهب وتب. ما أغنى عنه ماله وما كسب. سيصلى نارا ذات لهب. وامرأته حمالة الحطب. في جيدها حبل من مسد .. وذلك شعوره الحقيقي تجاه محمد وقول محمد. وتلك ارتجافة قلبه ومفاصله أمام دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - على ابنه.

رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير

والحادث الثاني: صاحبه عتبة بن أبي ربيعة. وقد أرسلته قريش إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - يفاوضه في الكف عن هذا الذي فرق قريشا وعاب آلهتهم، على أن يكون له منهم ما يريد من مال أو رياسة أو زواج. فلما انتهى من عرضه قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم: - "أفرغت يا أبا الوليد؟" قال: نعم. قال: "فاستمع مني". قال: أفعل. قال: بسم الله الرحمن الرحيم. حم. تنزيل من الرحمن الرحيم. كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون. بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون .. ثم مضى حتى قوله تعالى: فإن أعرضوا فقل: أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود .. عندئذ هب عتبة يمسك بفم النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذعر وهو يقول: ناشدتك الرحم أن تكف.. وعاد إلى قريش يقص عليهم الأمر. ويعقب عليه يقول: وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخشيت أن ينزل بكم العذاب .

فهذا شعور رجل لم يكن قد أسلم. والارتجاف فيه ظاهر. والتأثر المكبوت أمام العناد والمكابرة ظاهر.

ومثل هؤلاء إذا استمعوا إلى سورة النجم من محمد - صلى الله عليه وسلم - فأقرب ما يحتمل أن تصادف قلوبهم لحظة الاستجابة التي لا يملكون أنفسهم إزاءها. وأن يؤخذوا بسلطان هذا القرآن فيسجدوا مع الساجدين..

بلا غرانيق ولا غيرها من روايات المفترين

رد: تفسير سورة النجم ، سوره النجم مكتوبه مع التفسير


إظهار التوقيع
توقيع : حياه الروح 5


قد تكوني مهتمة بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى
احصاءات قرآنية حبيبة أبوها القرآن الكريم
معجزات وفواءد سورة البقره قوت القلوب 2 المنتدي الاسلامي العام
إعجاز القرآن في ترتيب سورة مريم,تعرفي علي إعجاز القرآن في ترتيب سورة مريم.روائع الاهية في ترتيب ايات سورة مريم جنا حبيبة ماما الاعجاز العلمي
مسابقة عدلات الدينية السؤال الثالث شقاوة آنثى المنتدي الاسلامي العام
برنامج تفسير القرآن للشيخ محمد حسان بدون تحميل emanway08 صوتيات ومرئيات اسلامية


الساعة الآن 03:49 PM


جميع المشاركات تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع


التسجيل بواسطة حسابك بمواقع التواصل