التـربية بالأماني
يخبرنا أهل الاختصاص أن للتربية أنواعاً عدة, فهناك ما يعرف بالتربية بالملاحظة, وهناك التربية بالعادة, وهناك التربية بالإشارة, وهناك التربية بالموعظة, وهناك التربية بالترهيب والترغيب, وهناك التربية بالقدوة, وهناك التربية بالأهداف...
وهكذا, ولكن هل سمعت من قبل عما يعرف "بالتربية بالأماني" ؟ !!
آفة خطيرة
إن "التربية بالأماني" آفة من الآفات الخطيرة التي تسربت إلى واقعنا – أفراداً وأمماً وجماعات - كما يتسرب النوم إلى جفوننا. متى ؟ وكيف ؟ لا أحد يعرف. والحقيقة أن هناك قطاعات غير قليلة من أبناء المسلمين تمارس هذا النوع من التربية باقتدار:
•فمثلا كل أب يتمنى أن يتحلى أولاده بكل الصفات الحميدة ويكونوا كأبي بكر, وعمر, وعثمان, وعلي.
•وكل أم تتمنى أن تتحلى بناتها بالعفاف, والاحتشام, والأدب, والعفة, والطهارة. ويصبحنَّ كخديجة, وعائشة, وزينب, وأم كلثوم, ورقيه, و فاطمة الزهراء.
•و كل مدير مدرسة يتمنى أن يتحلى طلاب مدرسته بكل الفضائل ومكارم الأخلاق ليصبح منهم في المستقبل العالم, والمفكر, و المعلم, و الأديب, و المهندس, والطبيب .
•وكل إمام مسجد يتمنى أن يتحلى رواد مسجده بالآداب والسلوكيات الإسلامية الصحيحة.
•وكل مدير شركة يتمنى أن يتحلى العاملون في شركته بالصدق والإخلاص المصحوبين بالهمة العالية من أجل أن يحققوا معدلات الانجاز المستهدفة.
•و كل رئيس دولة يتمنى أن يتحلى أبناء شعبه بأخلاق الفرسان ويكونوا نماذجاً يحتذي في الانضباط, والتفاني, والعطاء, وحسن السير, والسلوك .
اعتراض
وحقيقة الأمر إن كل هذه الأماني لا غبار عليها ولا اعتراض, ولكن الاعتراض ينصب على أننا نتمنى بلا حركة ولا فعل, نتمنى بلا تربية ولا تكبير, نتمنى بلا تعهد ولا متابعة لأمانينا وأحلامنا. وما أشبه هذا الذي يمارس "التربية بالأماني" بذلك الذي تمنى أن يرزقه الله الولد من غير جماع ! أو بهذا الذي تمنى أن يصير أعلم أهل زمانه من غير طلب العلم ! أو بهذا المسكين الذي تمنى الفوز بالدرجات العلى والنعيم المقيم، من غير طاعة ولا تقرب إلى الله تعالى !
خطورة التربية بالأماني
إن خطورة "التربية بالأماني" تكمن في أن ممارسيها يرسمون صوراً وهمية, وأحلاماً وردية, وطموحات غالية فقط بالقول دون الفعل, وتكمن خطورتها أيضاً في أن ممارسيها ينظرون إلى من يربونهم - أو من هم تحت إمرتهم - وهم يرتدون نظارات الأحلام الوردية تارة,أو وهم يقفون على تلال الأماني العالية تارةً أخرى. و يبقى أخطر جوانب هذا النوع من التربية في أنَّ ممارسيها بمرور الوقت يصدقون أوهام أمانيهم ويستمرون في إهمال برامج التربية الحقيقية, ويتعلقون بالحبال الواهية للتربية بالأماني حتى تأتي لحظة المكاشفة, ويفاجأ الجميع بكوارث أخلاقية واجتماعية من النوع الثقيل سواء على المستوى الشخصي, أو المستوى العام .
الأماني لا تسدد الديون
وإذا كنا نحذر أنفسنا لهذا الأمر. فهناك من بيننا الأفاضل من يمارس "التربية بالأماني" بدون قصد. ففي الوقت الذي يحترقون فيه من أجل إضاءة الطريق أمام الآخرين, قد ينسى بعض هؤلاء نصيب أبنائهم من التربية الحقة, ويستعيضون عنها بممارسة "التربية بالأماني". فترى بعض هؤلاء الأجلاء يُقدِمون على ممارسة هذه التربية وهم مرتكزون على وَهْمِ أن أبنائهم لا يرتكبون هكذا ذنب, أو يقعوا في هكذا محظور, أو أنهم لا يمكن أن يفعلوا ما يفعله أقرناءهم من أخطاء. أليس كذلك ؟!!!.
وكل هذا أماني كأماني هذا الذي يملك أرضاً للزراعة ويتمنى أن يعود عليه نفعها دون حرثٍ أو بذرٍ أو ريّ!
إن مثل هذه الأماني التربوية لا يهبط بها من علياء الخيال إلى واقع الحال إلا وَجَبات التربية الحقيقية المتوالية, فكما أن الأماني لا تسدد الديون, فإنها أيضاً لا تُرَبي, ولا تُهذّب, ولا تحل مشاكل.
بذل جهد
إن الأحلام الكبيرة والأهداف العظيمة لا يمكن أن تتحقق بالأماني ولكنها تحتاج إلى تربية حقيقية دائمة, وتعهد حقيقي مستمر. فكل حلم نحلمه, أو أمنية نتمناها على الصعيد الشخصي أو على الصعيد العام- صغر هذا الحلم أو عظم- فإنه يحتاج إلى جهد مبذول, وعمل مدروس, وبرامج هادفة, وخطط محكمة, ووسائل ناجعة – أخذاً بالأسباب وإعذاراً إلى الله عز وجل - من أجل تحقيق هذه الأحلام الخاصة أو تلك الأهداف العامة.
بناء وهدم
إن التربية ليست سوى عملية من البناء والهدم الدائمين, بناءً للقيَم الايجابية, وهدم للقيم السلبية التي قد يكتسبها الإنسان أثناء رحلته في الحياة. وهي تبدأ منذ الميلاد وحتى لحظة الممات دون توقف ولا كللٍ ولا ملل. وهي فرض لازم لازب في حق الأفراد, والمؤسسات, والجماعات, والأمم والشعوب سواءً بسواء. ويجب ألا يحول بيننا وبينها لا مشاكل, ولا مشاغل ولا زحمة عمل ولا ترتيب أولويات ولا غيره. فلا يوجد أولوية تسبق التربية ولا تتقدم عليها إلا في أدبيات أصحاب العقول الصغيرة.
الخروج من الكبوة
إننا إذا أردنا أن نخرج من كبَوتنا فلابد من ممارسة التربية الفعلية, وليست "التربية بالأماني" فالتربية لم تعد بالنسبة لنا خياراً، بل أضحت ضرورةً وإلزاماً. وهذا إدمون ديمولان العالم الاجتماعي الفرنسي الشهير الذي ترك الطب واشتغل بأمور التربية، فلما سُئل عن ذلك كان جوابه:
( وجدت بالاستقراء الدقيق أن معظم أسباب العلل الإنسانية الجسمية والنفسية يرجع إلى نقص في التربية, فآثرت أن أستأصل الداء من جذوره باستئصال سببه الأول, على أن أقضي الوقت في علاج ما ينجم عن هذا السبب, والوقاية خير من العلاج, ولا أشك أني بذلك أقوم بخدمة أعظم للإنسانية بقدر ما بين طب الأمم وطب الأفراد ).
•فالبيت لا بد وأن يربي
•والمدرسة لا بد وأن تربي
•والمسجد لا بد وأن يربي.
•والنادي لا بد وأن يربي
•والشركة لابد وأن تربي.
•والإعلام لابد وأن يربي.
•والدولة بكل ما تملك لابد وأن تربي .
أما أن نظل نمارس "التربية بالأماني" فلا ننتظر غير المزيد من الكوارث والنكبات سواء على المستوى الشخصي, أو المستوى العام.
هامش أول :
وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملاً , وإنما يكمل ويقوى بالنشوء والتربية بالغذاء, فكذلك النفس تخلق ناقصةً قابلةً للكمال, وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم."من كتاب : إحياء علوم الدين - للإمام أبي حامد الغزالي
هامش ثان :
في البيئة المتأخرة تُهمَل التربية، لأنها تبدو - في وسط الجهل والمسغبة - ترفاً لا تتطلع إليه العيون." من كتاب : شبهات حول الإسلام - للأستاذ محمد قطب "
هامش أخير :
الطفل الذي لم نعلمه كيف يتصرف تصرفاً لائقاً لن يتصرف تصرفاً لائقاً.
" من كتاب : مفاتيح التربية البناءة - للكاتب : رونالد موريش