اختلف العلماء في محل العقل، فقال بعضهم: محله الدماغ في الرأس، وقال آخرون: محله القلب في الصدر ولذلك يسمى العقل قلباً أحياناً، وقال بعضهم: ليس له محل خاص في الجسد، وإنما هو ذات الروح، وسميت الروح عقلاً لأنها مُدْرِكة، والله أعلم.
ولا شك أن العقل مستمِدٌّ من الروح ومرتبط بها كارتباط سائر عوالم الإنسان، لكن لا بد من التفريق بين العقل والروح، فقد يكون الإنسان حياً بروحه، وليس صاحب عقل، فيسقط عنه التكليف، وقد يكون حياً ذا روح وصاحبَ عقلٍ ومكلفاً، ومع ذلك يوصف بأنه ليس بعاقل لعدم استعماله عقله، ولذلك جاز وصف الكافرين والمنافقين بأنهم ﴿ لا يعقلون ﴾
والقول بأن العقل هو في القلب تشهد له النصوص في ظاهرها أكثر من الأقوال الأخرى، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ﴾ [الحج: 46]، فوصف القلوب بأنها تعقل، وقوله « بها » يدل صريحاً على أن القلب هو آله التعقل، على رأي من يقول بذلك.
وقال تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾ [الأعراف: 179]، والفقه هو الفهم والإدراك وهو عمل العقل، فلما وصف القلب أنه لا يفقه دل على أن العقل الذي فيه هو الذي لا يفقه ولا يدرك.
ويشهد لذلك قول الله تعالى: ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾ [الإسراء: 36]، ومعلوم أن المسؤولية تترتب على العقل، فلما جعلها مترتبة على الفؤاد مع السمع والبصر دل على أن الفؤاد هو محل العقل.
وعلى القول بأن العقل والتعقل محله القلب، فيكون القلب محلاً لثلاثة أشياء: الأول : العقل، فيكون القلب بالعقل الذي فيه هو الذي يميز بين الأشياء والحقائق والمتقابلات من خير أو شر، الثاني: العواطف والأهواء، فيكون القلب بما فيه من عواطف وميول ورغبات هو الذي يميل بصاحبه إلى خير أو شر أو إلى مصلحة أو مفسدة، الثالث: الإرادة، فتنشأ عن تلك المعقولات وعن الرغبات إرادة موافقة للعقل أو مخالفة له، تحقق رغبة صحيحة أو رغبة فاسدة.
استقبال القلب بعواطفه للحقائق التي يدركها العقل يسمى عقلاً، لأنه من مقتضى التصديق بالعقل ، ومن مقتضى الانتفاع به
ومن قال بأن العقل في الدماغ تشهد لقوله النصوص السابقة نفسها، فإن المخاطبين بما سبق هم من أهل االعقول، ولو كانوا غير عقلاء لما جاز أن يخاطبوا بالتكليف، فدل ذلك على أن العقل موجود رغم عدم وجوده في القلب، أو رغم عدم عقل القلب، ودل ذلك على أن العقل يستعمل بأكثر من معنى، فاستقبال القلب بعواطفه للحقائق التي يدركها العقل يسمى عقلاً، لأنه من مقتضى التصديق بالعقل، ومن مقتضى الانتفاع به.
قال والدي الشيخ سعيد حوى رحمه الله حيث قال: « فالعقل: هو محل إدراك الخطاب، فحيثما وجد كان التكليف، والقلب: هو محل القبول للتكليف، فهو صاحب القرار في القبول والرفض.
والظاهر من التجربة ومن النصوص ومن الإحساسات ومن الأذواق؛ أن العقل الذي هو محل إدراك الخطاب مقره الدماغ، وأن القلب الذي هو محل القرار في القبول والرفض مقره الصدر ».
وقد يشهد لذلك أن الإنسان يحس بأن محل التفكير الدماغ، كما يشهد لذلك أن الإنسان إذا أصيب دماغه في بعض المواضع يفقد تفكيره.
وقد استدل بعض العلماء على كون العقل في الدماغ بقوله تعالى: ﴿ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴾ [العلق: 16]، فنسب الخطأ والكذب إلى الناصية، مما يدل على أنها محل التفكير الذي يدفع إلى الكذب والخطأ هو في الناصية، وهي مقدمة الرأس.
وقد يقال إن إدراك العقل يختلف عن إدراك القلب، في أن العقل والدماغ يدرك حقائق الأشياء علمياً، والقلب يدركها ذوقياً، فالعقل ـ مثلاً ـ يدرك معنى الخوف، والقلب يحس بالخوف ويشعر به، والعقل يدرك معنى الحب وأنه ميل قلبي، والقلب يتذوق الحب، ويحس بما فيه من شوق وعاطفة وميل.
ـ وقد ذهب بعض العلماء إلى أن هناك علاقة بين العقل وبين الدماغ والقلب معاً، فقالوا: إن العقل في القلب وليس في الدماغ، لكن الدماغ عبارة عن الشاشة التي تتلقى إدراكات العقل ومعلوماته من القلب، لذلك يحس الإنسان أن التفكير في رأسه ودماغه
وبغض النظر عن محل العقل، فإن الذي يهمنا في هذا الكتاب حيثما ذكرنا العقل أن نتكلم عما يدركه العقل ويعرفه ويميزه، سواء أدركه في القلب أو في الدماغ أو بالروح، فلا يتوقف على هذا الأمر أثر في علم التزكية.
قد نبه بعض العلماء إلى أن هذا الأمر لا يترتب عليه فائدة، فأينما كان العقل ومهما كانت ماهية العقل؛ فذلك لا يهمنا، إنما يهمنا إثبات عملية التعقل وما ينتج عنها من مُدرَكات ومعقولات، والقرآن الكريم لم يذكر العقل أبداً وإنما ذكر عملية التعقل، كقوله: ﴿ تعقلون ﴾ و ﴿ يعقلون ﴾ و ﴿عقلوه ﴾ و ﴿ نعقل ﴾
القلب ينعني جانب التقلب والعواطف والقرارات من قبول أو رفض لما يَرِدُ من العقل،حتى لو كان العقل في القلب،فكأن القلب حينئذ يضم أكثر من عالَم
وحيث ذكرنا القلب فنعني جانب التقلب والعواطف والقرارات من قبول أو رفض لما يَرِدُ من العقل، حتى لو كان العقل في القلب، فكأن القلب حينئذ يضم أكثر من عالَم.
منقوووووووول