آية الكرسي، وهي من أعظم آيات القرآن الكريم. يقول الله عزَّ وجل:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾
"الله" عَلَمٌ على الذات، الذاتُ الإلهيةُ اسمها (الله) وهو علَمٌ على الذات، أو علمٌ على واجب الوجود، لأن هناك واجبَ الوجود، وممكن الوجود، ومستحيل الوجود، فالله جل جلاله واجب الوجود، والكون ممكن الوجود، ممكنٌ أن يكون، وممكنٌ ألا يكون، وإذا كان فهو ممكنٌ على ما هو كان، أو على غير ما هو كان، لكن الله جل جلاله واجب الوجود.
فكلمة (الله) علمٌ على الذات الإلهية، صاحب الأسماء الحسنى، والصفات الفضلى، خالق السماوات والأرض، لا إله إلا هو؛ الرحيم، الكريم، البَرّ، الغفور، الفعَّال لما يريد، القاهر فوق عباده، القوي، المتين، ذو الجلال والإكرام، الحَكَمُ، العدل، فإذا قلت: الله، فكل أسمائه الحسنى منطويةٌ في هذه الكلمة. وجرت الآيات الكريمة أن الله جل جلاله إذا تحدَّث عن ذاته تحدث بضمير المُفْرَد:
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾
[ سورة طه: 14]
الله جلّ جلاله إذا تحدث عن أفعاله تحدث بضمير الجمع :
وإذا تحدث عن أفعاله، يأتي ضمير الجمع لأن كل أسمائه الحسنى في أفعاله، فكل أفعاله فيها علمٌ، وفيها حكمةٌ، وعدلٌ، ورحمةٌ، ولُطفٌ، إن تحدث عن ذاته..
﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى﴾
[ سورة يس: 12]
وإن تحدث عن ذاته العليّة:
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾
[ سورة طه: 14]
فـ"الله" صاحب الأسماء الحسنى، والصفات الفضلى، والله علمٌ على الذات، والله واجب الوجود..
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾
فالإله هو المعبود، والإنسان مَن يجب أن يَعبد؟ أن يعبد الذي خلقه، فالله هو الخالق، ومَن يجب أن يعبد؟ أن يعبد الذي يعلم سرَّه ونجواه، فالله يعلم السر والنجوى، من هو الذي ينبغي له أن يُعبَد؟ يُعبَد مَن يستمع إليه إذا ناجاه، الله هو السميع العليم، ومن يجب أن يُعبَد؟ يُعبَد من هو على كل شيءٍ قدير، فالله على كل شيءٍ قدير، ومَن ينبغي له أن يُعبَد؟ يُعبَد الرحيم الذي يحبُّه ويرحمه، فإذا قلت: لا إله إلا الله، أي لا معبود بحقٍ إلا الله، أي لا يستحق العبادة إلا الله، ليس لك أن تَعبُد إلا الله، أما إذا توجهت إلى غير الله، فتوجَّهت إلى لا شيء:
﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ﴾
[ سورة فاطر: 14 ]
أسماء الذات وأسماء الأفعال :
قال تعالى:
﴿ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾
الحقيقة (الحي) مِن أسماء الذَّات، وأسماء الذات لا نقيض لها، والله عزَّ وجل يعطي ويمنع، وهذه من أسماء الأفعال، ويرفع ويخفض، فمن أسماء الأفعال، وكذلك يعز ويذل، لكن الحي ليس لها نقيض، فالله عزَّ وجل حي على الدوام، فأسماء الله عزَّ وجل التي لا نقيض لها أسماء الذات، والتي لها نقيض فأسماء الأفعال، والله عزَّ وجل حي، وتقول: فلان حيٌ يُرْزَق، ولا يستطيع إنسان على وجه الأرض أن يسمي نفسه (الله) ولكن هناك إنسانٌ يقال له: حيٌ يرزق، والله عليم، وهناك مَن يقول: أنا عالِم، والله رحيم، وهناك من عباده مَن يرحم، فإذا كانت حياةُ الله عزَّ وجل حياةً أزليةً أبديةً، لم يسبقها عدم وليس بعدها عدم، فحياةُ اللهِ غيرُ حياتنا، والإنسان إذا كان حياً فقد سبقه عدم:
﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ﴾
[ سورة الإنسان: 1]
فالإنسان سبقه عدم، وسوف ينتهي إلى عدم:
﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾
[ سورة الرحمن: 26-27 ]
فإذا قلنا: فلان حي، فحياته ليست كحياة الله عزَّ وجل، وكلمة "حي" تسبق في الذهن أيَّ اسمٍ آخر، فهو حيّ عليم، وهو حيّ قدير، وأول اسمٍ يسبق إلى الذهن أنه حيّ، هو حيّ ومصدر حياة الخلق، وحياتنا منه، واستمرار حياتنا منه، فالوردة فيها حياة، فإذا صنع إنسانٌ وردةً من مواد صناعية لا يوجد فيها حياة، ويضعون في بعض الواجهات شكلَ امرأة لبيع الثياب والألبسة، ولكن هذه بلا حياة، فهي من الشمع، والمرأة الحقيقية فيها حياة؛ تتكلم، وتفكِّر، وتتألَّم، وتفرح، وتعبّر عن ذاتها، فالإنسان فيه حياة، والوردة فيها حياة.
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ ﴾
هو حيٌ، ومصدر حياة المخلوقات، ومصدر استمرار حياتهم، والموت يخلقه الله عزَّ وجل، الموت لا علاقة له بالمرض، فحينما ينتهي أجل الإنسان يموت، فهو:
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾
[سورة الملك: 2]
الله عز وجل حيٌ قيوم يقوم على العناية بخلقه لأنه رب العالمين :
قال تعالى:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾
حيٌ قيوم، يقوم على العناية بخلقه، ومما يؤكد ذلك..
﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾
أي إشراف دائم؛ متابعة، ومراقبة، ومحاسبة، ومُعالجة، واهتمام، وعطاء، وأخذ، وتأديب، وإكرام، ومتابعة، وكل مؤمن بحسب معاملة الله له، كأن الله عزَّ وجل ليس عنده مخلوق إلا هذا الإنسان، وهو مع كل الخلق، ومع كل المخلوقات، ومع كل البشر، ومع كل من تحت الشمس والقمر.
حيٌ قيوم، يقوم على العناية بخلقه، لأنه رب العالمين، والإنسان أحياناً يأتيه خاطر لا يعلمه أحدٌ إلا الله، ويدفع الثمن، ويعالجه الله عزَّ وجل على خاطر أحياناً، فقيوم السماوات والأرض يقوم على إدارتها، والعناية بها، وتربيتها، وإمدادها، و..
﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾
هناك معيَّة عامة ومعية خاصة :
إنه حيٌّ باقٍ على الدوام، وحيٌّ قيّوم، وهو معكم أينما كنتم، فمعكم بعلمه:
﴿ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
[ سورة الأنفال: 19]
ومعكم بالنصر، والتأييد، والحفظ، والتوفيق، وهناك معيَّة عامة ومعية خاصة، والمعية العامة أنه مع المخلوقات بعلمه، والمعية الخاصة بالإكرام، والتأييد، والحفظ..
﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ ﴾
كل هذا الكون له، ولا تستطيع جهةٌ على وجه الأرض أن تفعل شيئاً إلا بإذنه..
﴿ لَهُ ﴾
لام المُلك؛ فله المُلكُ خلقاً، وتصرُّفاً، ومصيراً، أما أنت كإنسان فقد تملك بيتاً ولا تنتفع به، إنها مُلْكِيَّة ناقصة، فالبيت لك ولكنه مؤجَّر قبل السبعين، فأجرته مئة ليرة في الشهر، تملكه ولا تنتفع به، وقد تنتفع به ولا تملكه، وقد تملكه، وتسكنه، وتنتفع به، فصدَر قرار تنظيم، فأخذتَ عشرَ قيمته، فذهبَ من يدك، إنها ملكية ناقصة، أما إذا قلنا:
﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾
فإنه يملك الكون؛ إيجاداً، وتصرُّفاً، ومصيراً، فقد تبيع دولة طائرة، وبعد أن باعتها أصبحت هذه الطائرة بيد مَن اشتراها، غير أنَّ الله سبحانه وتعالى مُلكيته دائمة:
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾
[ سورة الزمر: 62]
فأمرُ هذه الطائرة بعد أن بيعَت ليس لصانعها بل للذي اشتراها، لكن الله عزَّ وجل له الخلق والأمر، وهو الخالق وهو الآمر،
﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾
السماوات والأرض تعبيرٌ قرآني عن الكون :
قال تعالى:
﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾
لا يمكن أن يقع شيءٌ في مُلكه إلا بإرادته، لذلك قالوا: كل شيءٍ وقع أراده الله، وكل شيءٍ أراده الله وقع، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المُطلقة، وحكمته المطلقة متعلقةٌ بالخير المطلق، فالأمر بيده..
﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾
السماوات والأرض تعبيرٌ قرآني عن الكون، فالكون كله له، والكون ما سوى اللهِ، أيْ أيّ مكانٍ في الأرض؛ ولذلك فالموَحِّد مرتاح، وهو سعيدٌ سعادة كُبرى، والموحد يرى أنه لا إله إلا الله، ولا يرى مع الله أحداً، ويرى أن يد الله وحدها التي تعمل، والموحِّد لا يحقد، ولا يتألم، وليس عنده إحباط، ولا سَأَم، ولا ضَجَر، ولا يأْس، ولا خُذلان، إنه موحِّد، والأمر بيد الله، وله مُلك السماوات والأرض.
فلو دققنا، ودخلنا في التفاصيل، فقُطرُ الشريان التاجي بيده، أحياناًَ يضيق، وأحياناً يبقى متّسعاً، فإذا كان متسع فأنت مرتاح، وعمل الكبد بيده، والدَسَّامات بيده، وعمل الكليتين بيده، والأعصاب بيده، ونمو الخلايا بيده، فأحياناً يفلتها فيكون السرطان، ويضيق الشريان، فلا بد من قسطرة، أو عملية القلب المفتوح، ويتعطل الكبد، فيُزرَع بستة ملايين، والنجاح ثلاثون في المئة، فالإنسان مُحاط باحتمالات مخيفة.
نحن جميعاً في مُلك الله وفي قبضته :
قال تعالى:
﴿ لَهُ ﴾
أنت في ملكه، وأنت في قبضته، وأجهزتك وأعضاؤك بيده..
﴿ لَهُ ﴾
زوجتك بيده، وعملك بيده، ورزقك، ومَن حولك، ومَن هم فوقك، ومَن هم دونك كلهم بيده، فهو الذي يعطي وهو الذي يمنع، سبحانه يرفع ويخفض، ويعز ويذل، فإذا أعطى أدهش، وهناك رجل يعد خامس رجل ثري في تركيا، ثروته بألوف الملايين، كل أمواله بيوت بأجمل منطقة بتركيا، أبنية فخمة، وهو يقول متبجِّحاً: سأسكن كل إنسانٍ في بيت، لقد جاء الزلزال بأمر الله فلم يُبقِ له من أبنيته كلِّها بيتاً واحداً، فسكن تحت الخيمة، وأمسك الصحن ليأكل الطعام الذي جاءت به الجمعيّات الخيرية، وقد صوِّر ونشر هذا، خامس غني سلبه الله عزَّ وجل كل شيء في ثوانٍ معدودات..
له شارع على البحر في ( أزمير ) بأكمله؛ بأبنيته الشاهقة، وبمركباته الأنيقة، فابتلعه البحر، وبعد حين نزلوا بغواصة وصوروا، فإذا هذا الشارع كما هو في قاع البحر، فالبناء مثلما هو، وكذا الطوابق، حتى بالتدقيق؛ الأنترفون، والاسم، والسيارة بجانب البيت في قاع البحر..
الشفاعة بالمعنى الواسع :
قال تعالى:
﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾
المعنى الواسع جداً: مَن يستطيع أن يجمع شيئين؟ الشفع هو الزوج، أي يجمع هذا العقرب مع هذا الإنسان ويلدغه، مَن؟ إلا بإذنه، أبسط مثال: شخص في أثناء السفر ينام في فلاة، فيها عقارب، لا يستطيع العقرب أن يلدغ نائماً إلا بإذن الله، ولا أن تدخل رصاصة إلى إنسان إلا بإذن الله، شظية طائشة لا تجد هذا عند الله عزَّ وجل، بل شظية مسوَّمة عليها اسم مَن تقتله، " لكل شيءٍ حقيقة، وما بلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه "..
﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ ﴾
بالمعنى الواسع: إنّه لا يمكن أن يجتمع عنصران في الكون إلا بإذن الله، فإنسان ينالك بأذى وليس عند الله علم هذا مستحيل، ولكن بعلمه، وإرادته، وحكمته، وعدله، ورحمته، فلذلك " لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت":
﴿ مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِك فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
[ سورة فاطر: 2 ]
الآية التالية هي آية التوحيد :
قال:
﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾
(عنده) في ملكه..
﴿ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾
إذا نجح الطبيبُ في علاج ابنك، يكون اللهُ قد سمح له، وألهمه، ومكَّنه، وأطلعه على المرض، ووفقه في تشخيصه، ووفقه في الدواء، وسمح الله للدواء أن يفعل فعله..
﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾
هذا التوحيد، هذه آية التوحيد، فأول شيء؛ نحن في ملكه، فالحركة بأمره، نحن في ملك الله؛ الأرض، والسماء، والبحار، والأطيار، والأسماك، والأراضي، والنباتات، والرياح، والأعاصير، والأمطار، والسُحُب، والبراكين، كل شيء بيده، والآن الحركة، فلان ضرب فلاناً، حركة، لا يستطيع مخلوق أن يفعل شيئاً مع مخلوق إلا بإذن الله، لا خيراً ولا شرّاً، فحينما ترى إنساناً يُردي إنساناً فهذا بأمر الله، أو يكرمه فكذلك بأمر الله.
الشفاعة بمعناها المحدود بإذن الله عزَّ وجل :
الشفع هو الزوج، لا يلتقي عنصران في الكون إلا بإذن الله، والمعنى الضيق الشفاعة التي ذكرها الله عزَّ وجل:
﴿ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ﴾
[ سورة يونس: 3 ]
فهو الذي يشفع لمن ارتضى، والشفاعة بمعناها المحدود بإذن الله عزَّ وجل، أي إن النبي لا يشفع إلا من بعد إذن الله عزَّ وجل..
﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾
(ما بين أيديهم) أي أمامهم..
﴿ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾
أيْ وراءهم، أو ( ما بين أيديهم ) عالم الشهادة، و( ما خلفهم ) عالم الغيب، فهذا الإنسان وُلِد، تُرى ماذا سيكون؟ تاجراً، أم عالماً، أم مصلحاً اجتماعيّاً، أم مجرماً، أيموت إعداماً، أم يموت بحادث، أم على فراشه؟ أينجب أولاداً..
﴿ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾
هو عالم الشهادة أي المشهود، وعالم الغيب، فنحن عندنا غيب الحاضر، وغيب الماضي، وغيب المستقبل، وغيب المستقبل ما سيأتي، وغيب الحاضر ما كان بعيداً..
﴿ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾
عالم الشهادة..
﴿ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾
عالم الغيب، فهو الذي يعلم، ولذلك قال الإمام علي: " علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون ".
كلُّ شيءٍ يفعله الإنسان هو من إلهام الله له :
قال تعالى:
﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾
كل شيء تسمعونه عن اختراع، واكتشاف، وقفزة في عالم المجهول، هذا كله مما سمح الله به، قال الله عزَّ وجل:
﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ﴾
[ سورة النحل: 8 ]
ثم قال في آخر الآية:
﴿ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة النحل: 8 ]
عُزِيَ صنعُ الطائرة إلى الله، هو الذي ألهم الإنسان صنع الطائرة، وألهم الإنسان اكتشاف وقودها، فإذاً كلُّ شيءٍ يفعله الإنسان هو من إلهام الله له.
الآن يقال لك: عرفنا جنس المولود ذكراً كان أو أنثى..
﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾
فقد شاء لهم ذلك، أما الآية:
﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾
[ سورة لقمان: 34]
ما قال: يعلم مَن في الأرحام، قال: ما، (ما) تشمل كل المعلومات المبرمجة التي في النويَّة، لأن هناك خمسة آلاف مليون معلومة مبرمجة، هذه يعلمها الله، سمح لهم أن يعرفوا ذكراً كان أو أنثى عن طريق الأجهزة، أي إن كل شيء سمعتموه عن كشف علمي، واختراع، وتفوّق، فهذا مما سمح الله به، نقلوا الصورة من قارة إلى قارة، وهذا مما سمح الله به، ونقلوا الصوت، واخترعوا طائرة، واخترعوا مركبة وأرسلوها إلى الفضاء، وغاصوا في البحار، واخترعوا أجهزة حديثة، كل شيءٍ علمه الإنسان هو مما سمح الله له به، وانتهى الأمر.
الكون بكامله لا يكفي أن يخلق حمضاً أمينيّاً واحداً مصادفةً :
قال تعالى:
﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾
وفي آية ثانية:
﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ﴾
[سورة الإسراء: 85]
فلدينا حموض أمينية، ويحتاج حمض أميني واحد كي يأتي مصادفةً إلى حجم يزيد عن حجم الكون، فتركيب الحمض الأميني معقَّد، وهو الحمض الأساسي في الإنسان، هل من الممكن أن يكون هذا الحمض مخلوقاً مصادفةً؟ فأنت لو وضعت عشرة أرقام في كيس، ثم سحبتها، فاحتمالُ خروجِ هذه الأرقام بالتسلسل هو واحد من عشرة آلاف مليون، عشرة أصفار، واحد وبعده تخرج تسعة، ثم يأتي الواحد، واحد من عشرة، وبعد الواحد اثنان، واحد من مئة، بعد اثنين ثلاثة، واحد من ألف، فعندنا عشرة أصفار، الستة مليون، والأربعة عشر ألف مليون، أي أن تسحب عشر أرقام متسلسلة احتمالُها حالة واحدة من عشرة آلاف مليون حالة، وتركيب الحمض الأميني معقد، وقالوا: الكون بكامله لا يكفي أن يخلق حمضاً أمينيّاً واحداً مصادفةً. فلا تدهش إذا سمعت عن كشفٍ علمي، بل يجب أن توقن يقيناً قطعياً أن الله سمح لهم أن يعرفوه، لحكمةٍ أرادها الله عزَّ وجل.
الكرسي والعرش أسلم تفسير أن نفوض أمرهما إلى الله :
قال تعالى:
﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾
وهذا الذي شاءه قليل جداً:
﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ﴾
[سورة الإسراء: 85]
وهناك مَن يؤلِّه الإنسان مع أنّ الإنسان عبد فقير، قال بعض العلماء المخترعون: العبقرية تسعة وتسعون بالمئة منها عَرَق ـ أي تعب ، وواحد بالمئة إلهام، وهذا الإنسان حينما صدق في كشف هذه الحقيقة التي سمح الله بها، لأنّ الله لا يعطي الشيء بسهولة، ولكن بصبر شديد، وبإصرار عجيب، فأيّ مُخْتَرَع أو أي كشف علمي لا ينبغي أن يزلزل الإنسان، وهذه الآية تغطيه..
﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾
فالكرسي والعرش، أسلم تفسير: أن نفوض أمرهما إلى الله، لأن هناك آيات لا تزيد عن أصابع اليد تتعلق بذات الله.
آياتٌ لا تزيد عن أصابع اليد متعلقةٌ بذات الله تعالى :
كيف أنه يأتي:
﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ ﴾
[ سورة الفجر: 22 ]
وكيف أن:
﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾
[ سورة الفتح: 10 ]
وكيف أنه:
﴿ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾
[ سورة المائدة: 116]
آياتٌ لا تزيد عن أصابع اليد متعلقةٌ بذات الله تعالى، أسلم تفسير أن نَكِلَ أمرها إلى الله، فالاستواء معلوم والكيف مجهول، وهناك من أوَّلها تأويلاً يليق بكمال الله، والأوْلى أن نفوِّض، فإن لم نفوض نؤوِّل بما يليق بكمال الله، أما أن نجسِّد، فهي عقيدة فاسدة، وأما أن نُعَطِّل، فالتعطيل عقيدة فاسدة، فإذا أنكرنا أن لله سمعاً، فهذا تعطيل، وإذا قلنا: إذا كان ثلث الليل الأخير نزل ربكم إلى السماء الدنيا، فالخطيب نزل درجة، وقال: ينزل كما أنزل، فهذا تجسيد، والتجسيد عقيدة فاسدة، والتعطيل عقيدةٌ فاسدة، والآيات القليلة التي لا تزيد عن أصابع اليد المتعلقة بذات الله فالأوْلى أن نفوِّض أمرها إلى الله، أو أن نؤوِّلها تأويلاً يليق بكمال الله، والتفويض أولى. قال بعض العلماء: الكرسي علمه..
﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ﴾
أي علمه..
﴿ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾
أي لا يعجزه حفظهما، ولا يتعبه حفظهما، وما مسنا من لغوب، اللغوب التعب.
فضل آية الكرسي :
قال تعالى:
﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾
هذه الآية أيها الأخوة هي آية الكرسي، هناك أحاديث كثيرة جداً في فضلها، والإنسان يقرؤها قبل أن يسافر، وقبل أن يستلقي إلى فراشه لأنها مُرِيحة..
﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾
أحياناً ينشأ خطأ في البيت فيحترق البيت كله وهو نائم، فإذا نِمتَ، فأنت في رعاية الله. وهذه الآية تقرأ قبل السفر، وعند الدخول إلى البيت، وعند الاستلقاء للنوم، وتعطيك التوحيد، والأمر بيد الله، وكان سيدنا رسول الله إذا سافر يقول كما روى عنه أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَافَرَ فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ قَالَ: بِإِصْبَعِهِ وَمَدَّ شُعْبَةُ إِصْبَعَهُ قَالَ:
((اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ اللَّهُمَّ اصْحَبْنَا بِنُصْحِكَ وَاقْلِبْنَا بِذِمَّةٍ، اللَّهُمَّ ازْوِ لَنَا الْأَرْضَ وَهَوِّنْ عَلَيْنَا السَّفَرَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ ))
[ من كنز العمال عن جرير]
لا يوجد في الكون إلا جهة واحدة؛ هي معك في السفر، ومع أهلك وأولادك في بيتهم:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾
ولعلك في الشام المباركة إذا دخلت إلى مئة بيت تجد تسعين بيتاً فيها آية الكرسي معلَّقة، طبعاً بخيوط من الذهب وإطار جميل، ولكن الأفضل من ذلك ـ علقها فلا مانع ـ ولكن أن تفقه معناها، وأن توحِّد الله عزَّ وجل، وأن تطمئن لله عزَّ وجل، ويجب أن تكون في قلبك وتزين بها جدار بيتك، واجعلها في البيت فهي مفيدة جداً، ولكن الأولى أن تعيش معانيها، وأن تكون في مستواها، وأن تقرأها وأنت فاهم لمضامينها.
موسوعة النابلسى للعلوم الاسلامية