ذكر الله تعالى قصص أنبيائه ورسله في القرآن ، لنأخذ منها العبرة والعظة، ونستخلص منها الذِّكرى والموعظة، فقال سبحانه” : لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ” يوسف(111)
ومن أبرز هذه القصص، قصَّة إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السَّلام ، وذلك أنَّ إبراهيم عليه السَّلام دعا قومه إلى توحيد الله تعالى وترك عبادة الأصنام، فلمَّا لم يستجيبوا له، أراد أن يقيمَ عليهم الحجُّةَ، ويبيِّنَ لهُم أنَّ هذه الأصنامَ لا تنفع ولا تضرُّ، بل هي عاجزة عن نفع نفسها ودفع الضَّررِ عنها، فكيف تنفع من يعبدها؟! فجعلها حطاما.
فلمَّا أقام عليهم الحجُّةَ حكموا عليه بالإعدام حرقا، فأنجاه الله تعالى من النار وجعلها عليه بردا وسلاما ، وأظهره الله عليهم، فلمَّا نصره الله تعالى على قومه، وأيِس من إيمانِهم، تركهم وهاجر مِن بَيْنِ أظهرهم.
وسأل ربَّه أن يَهَبَه ولدًا صالحًا، عوضًا عن قومه، ويؤنسه في غربته، ويعينُه على طاعة ربِّه والدَّعوةِ إلى دينِه.
فاستجابَ اللهُ دعاءَه فَرَزَقَهُ ولدًا صالحًا،
” وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ ٱلصَّالِحِينِ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ “الصافات 101،99
رزق إبراهيم بولده إسماعيل في سن كبير ، ورد في التوراة أنه كان في السادسة والثمانين من العمر ،ولنا أن نتخيل كم يكون قدر هذا الطفل الذي جاء على شوق كبير وانتظار طويل ، فأحبَّه وقرَّت عينُه، وتعلَّق قلبُه به…
ترى كم يكون قدره عند والديه ومحبتهما له؟!!!
وبلغ إسماعيل مرحلة السعي أَيْ كَبِرَ وَتَرَعْرَعَ وَصَارَ يَذْهَب مَعَ أَبِيهِ وَيَمْشِي مَعَهُ ، وعلى هذا فإن إسماعيل في سن بداية الشباب ثلاثة عشر عاما تقريبا ، ووالده قد قاربا المائة عام ، ومن المعلوم أن الوالد حينما يكبر في السن يزداد ضعفه ، ويبدأ في الاعتماد على ولده بصورة كبيرة .
“فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ قَالَ يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ” الصافات 102
لقد ابتُلِىَإبراهيم في شبابه حين أُلْقى في النار،فقال “حسبنا الله ونعم الوكيل ” ، أما هذه المرة فالابتلاء يأتيه وهو شيخ كبير، وقد جاءه الولد على كِبَر، فهو أحبُّ إليه من نفسه وهاهو يُؤمَر بقتله.
ونلاحظ شدة البلاء حينما يأمر الله تعالى أن يتولى إبراهيم بنفسه الذبح ، لم يخبره الله أنه سيموت فيهون الأمر، ولا يطلب منه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة، ولا يطلب منه أن يكلفه أمراً تنتهي به حياته.. إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده….. يتولى ماذا؟
يتولى ذبحه.. وهو ـ مع هذا ـ يتلقى الأمر هذا التلقي، ويعرض على ابنه هذا العرض؛ ويطلب إليه أن يتروى في أمره، وأن يرى فيه رأيه!
ونلاحظ أن إسماعيل كان هو الوحيد في هذا الوقت ليس له إخوة آخرين ، لو تخيل أحدنا هذا الأمر ماذا لو أمرك الله بذبح ولدك وحيدك ؟ هل تقوى على ذلك ؟ والله إنه لبلاء لا يطيقه إلا الأنبياء .
وقوله يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَام)
عبّر بالمضارع، والرؤيا قد انتهت، فلم يقل : إني رأيت ، كأنّ إبراهيم عليه السلام يشاهد الرؤيا وقت كلامه مع ابنه، فهو يستحضر ذلك وهو يخاطبه، وهذا أهون في التزام الأمر.
يا الله! يا لروعة الإيمان والطاعة والتسليم.
هذا إبراهيم الشيخ الذي قارب المائة عام ، المقطوع من الأهل والقرابة، المهاجر من الأرض والوطن، ها هو ذا يرزق في كبره بغلام، طالما تطلع إليه مشتاقا فلما رزق به ما كاد يأنس به، ويبلغ معه السعي، ويرافقه في الحياة.. ، حتى يرى في منامه أنه يذبحه!!!
فلم يتردد، ولم يخالجه إلا شعور الطاعة، والتسليم.. إنه لا يلبي في انزعاج، ولا يستسلم في جزع، ولا يطيع في اضطراب.. كلا إنما هو القبول والرضا والطمأنينة والهدوء.
يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب:
{ قال: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك. فانظر ماذا ترى }الصافات 102
لماذا أخبر إبراهيم ولده بالأمر ؟
إن إبراهيم لم يأخذ ابنه على غرة ( فجأة) لينفذ أمر ربه، وينتهي؛ إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر؛ فالأمر في حسه هكذا….. ربه يريد !! فليكن ما يريد !!!
وابنه ينبغي أن يعرف، وأن يأخذ الأمر طاعة وإستسلاماً، لا قهراً واضطراراً، لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم!
إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها؛ وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى.
أَعْلَمَ اِبْنه بِذَلِكَ لِيَكُونَ أَهْوَن عَلَيْهِ وَلِيَخْتَبِرَ صَبْره وَجَلَده وَعَزْمَهُ فِي صِغَره عَلَى طَاعَة اللَّه تَعَالَى، وبره بوالده ” قَالَ يَا أَبَتِ اِفْعَلْ مَا تُؤْمَر ” أَيْ اِمْضِ لِمَا أَمَرَك اللَّه مِنْ ذَبْحِي
” سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّه مِنْ الصَّابِرِينَ “أَيْ سَأَصْبِرُ وَأَحْتَسِب ذَلِكَ عِنْد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ .
إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب، ولكن في رضى ويقين.. ولم يقُلْ: افعل ما تريد؛ لأن طاعته لأبيه هنا من باطن طاعته لله تعالى وامتثاله لأمر ربه، فهو يدرك تماماً أن أباه مُتلَقٍّ الأمر من الله، وإنْ جاء هذا الأمر في شكل رؤيا، إذن: هو يعلم رغم صِغَره أن رؤيا الأنبياء وَحْىٌ حَقٌّ.
وسيدنا إبراهيم ينادى ولده {يٰا بُنَيَّ }هكذا بالتصغير، لأن بُنى تصغير ابن فلم يقل يا ابني، فقد أوثقه الحنان الأبوي، وعرض عليه هذا الابتلاء، وهو مشحون بعاطفة الحب لولده والشفقة عليه، لأنه ما يزال صغيراً ، ويجيب الابن{ يا أبت } وأصلها يا أبي والتاء أضيفت عوضا عن ياء المتكلم وهي تشير في دلالتها القوية بالاحترام والتقدير من الابن تجاه أبيه .
(يا أبت )هكذا في مودة وقربى، فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده ، بل لا يفقده أدبه ومودته.
رؤيا الأنبياء وحي :
رُؤْيَا الْأَنْبِيَاء وَحْيٌ ،لأن الأنبياء ليس للشيطان عليهم في التخييل سبيل، وإنما قلوبهم صافية، وھكذا الأنبیاء علیھم الصلاة والسلام تنام أعینھم ولا تنام قلوبھم ، وفي الحديث : “إنا معاشر الأنبیاء تنام أعیننا ولا تنام قلوبنا”.
ولھذا قد یوحي الله تبارك وتعالى إلى النبي وھو نائم كما في الآيات التي معنا ؛ فرؤیا الأنبیاء وحي من الله تعالى، بخلاف رؤیا غیرھم من الناس؛ فإنھا قد تكون وحیا، أو تخلیطا من الشیطان، أو حدیث نفس، كما جاء في الحدیث، أما بالنسبة للأنبیاء فإن رؤیاھم وحي من الله تعالى.
فمنهج أهل السنة والجماعة أن الرؤى والأحلام لغير الأنبياء لا يؤخذ منها حكم شرعي ، إلا إذا رآها نبي أو أقرها نبي (كما في رؤيا الصحابة للأذان )
ولو كان الذي رأى الرؤيا من كان في الصلاح والتقوى ، وأما غلاة الصوفية فإن من مصادر التلقي عندهم المنامات ، فهم يعتبرون المنامات تشريعا .
وحدث في زمن الإمام العز بن عبد السلام أن الناس تراءوا الهلال فلم يروه، -والحكم الشرعي حينئذ إتمام شعبان ثلاثين يوما- ،فرأى أحدهم النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له : الليلة أول رمضان ، فقال له الإمام العز : إن أقصى ما نحمل عليه رؤياك أنها حديث ضعيف وقد حدثنا الثقات عن رسول الله :” صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاثِينَ ”
فالرائي هنا وإن كانت رؤياه حقا ، لكن لا يجوز إثبات حكم شرعي بما جاء فيها ، لأن حالة النوم ليست حالة ضبط وتحقيق لما يسمعه الرائي ، وقد اتفقوا على أن من شروط من تقبل روايته وشهادته أن يكون متيقظا لاغافلا ولا كثير الخطأ ، ولا مختل الضبط ،
والنائم ليس بهذه الصفة .ا.هـ.
الحكمة من أمر الله إبراهيم بذبح ولده :
والمقصود من هذا الابتلاء إظهار عزمه وإثبات علوّ مرتبته في طاعة ربّه فإن الولد عزيز على نفس الوالد، والولد الوحيد الذي هو أمل الوالد في مستقبله أشدّ عزّة على نفسه لا محالة، وقد علمتَ أنه سأل ولداً ، فبعد أن أقرّ الله عينه بإجابة سؤله وترعرع ولده أمره بأن يذبحه وذلك أعظم الابتلاء. فقابَل أمر ربه بالامتثال وحصلت حكمة الله من ابتلائه، وهذا معنى قوله تعالى:{ إنَّ هٰذَا لهو البلاء المبينُ } الصافات: 106.
وهنا تتجلَّى الحكمةُ من القصَّة ؛ وذلك أنَّ أَصْلَ التَّوحيدِ بل لبّه وروحه هو محبّةُ اللهِ تعالى، ولهذا كان رأسَ الإيمان الحبُّ في الله والبغضُ في الله، وكان من أحبَّ لله وأبغضَ لله، وأعطى لله ومنع لله فقدِ اسْتكمَلَ الإيمانَ ؛فابتَلَى الله تعالى إبراهيمَ في محبَّتِه له سبحانه، وإيثارِها وتقدِيمِها على محبَّةِ ابنِهِ، فأمره بذَبْحِه ليختبر محبَّته لله تعالى، حتَّى يكونَ اللهُ أحبَّ إليه من ابنِه، ويبلغَ كمالَ المحبَّةِ ومرتبةَ الخَلّة. فلمَّا حصَلَ المطْلُوبُ فَداهُ الله بذِبْحٍ عظيمٍ.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في جلاء الأفهام(274):
(ولما اتَّخذه ربُّه خليلاً؛ والخَلّة هي كمال المحبَّة، وهي مرتبة لا تَقبَلُ المشاركةَ والمزاحمةَ،وكان قد سأل ربَّه أن يهَبَ له ولدًا صالحًا، فوهَب له إِسماعيلَ، فأخذ هذا الولدُشعبةً من قلْبه، فغار الخليلُ على قلب خليلِه أن يكونَ فيه مكانٌ لغيرِه، فامتحَنَه بذَبْحِه ليظهرَ سرُّ الخَلّة في تقدِيمه محبّةَ خليلِه على محبَّةِ ولدِه، فلمَّااستسلم لأمر ربّه، وعزم على فعله، وظهر سلطان الخَلَّة في الإقدام على ذبح الولدإيثارًا لمحبَّة خليله على محبّته، نسخ الله ذلك عنه، وفداه بالذِّبح العظيم، لأنَّالمصلحة في الذَّبح كانت ناشئةً من العزم وتوطين النَّفس على ما أمر به، فلمَّا حصلت هذه المصلحة، عاد الذَّبح مفسدة، فنُسخ في حقِّه، فصارت الذَّبائح والقرابين من الهدايا والضَّحايا سُنَّة في اتّباعه إلى يومالقيامة)
مشهد الذبح
قال تعالى ” فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ ” الصافات 110:103
{ فلما أسلما وتله للجبين }أرأيتم قلبا أبويا…………….يتقبل أمرا يأباه
يعنى: ألقاه على وجهه، حتى لا يرى أبوه وجهه ساعةَ يذبحه، فتأخذه الشفقة به، فلا يذبح، وكأن الولد يُعين والده ويساعده على إتمام الأمر، وهكذا الاستسلام واضحاً، فالولد مُلقىً على الأرض، والوالد في يده السكين، يحاول بالفعل ذَبْح ولده، وأىّ ولد؟ ولده الوحيد الذى رُزِق به على كِبَر.
إن الرجل يمضي فيكب ابنه على جبينه استعداداً. وإن الغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعاً، وقد وصل الأمر إلى أن يكون عياناً.
أرأيتم ابنا يتلقى …………….أمرا بالذبح و يرضاه
ويجيب الابن بلا فزع ………………إفعل ماتؤمر أبتاه
لن أعصي لإلهي أمرا…………….من يعصي يوما مولاه
واستل الوالد سكينا ……………..واستسلم ابن لرداه
ألقاه برفق لجبينٍ…………….كي لا تتلقى عيناه
وتهز الكون ضراعات……………..ودعاء يقبله الله
تتوسل للرب الأعلى………………أرض وسماء ومياه
ويجيب الحق ورحمته ……………سبقت في فضل عطاياه
صدقت الرؤيا لا تحزن……………. يا إبراهيم فديناه
لقد أسلما.. فهذا هو الإسلام، هذا هو الإسلام في حقيقته، ثقة وطاعة وطمأنينة ورضى وتسليم.. وتنفيذ.. وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم.وهنا كان إبراهيم وإسماعيل كانا قد حققا الأمر والتكليف، ولم يكن باقياً إلا أن يذبح إسماعيل، ويسيل دمه، وتزهق روحه.. وهذا أمر لا يعني شيئاً في ميزان الله، كان الابتلاء قد تم، والامتحان قد وقع، وغاياته قد تحققت، ولم يعد إلا الألم البدني، والله لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء. ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شيء.
وعرف الله من إبراهيم وإسماعيل صدقهما، فاعتبرهما قد أديا وحققا وصدقا، فلما وصل إبراهيم وولده إلى هذه الدرجة من الاستسلام لله، ناداه الله
{ وَنَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ } الصافات: 104-106
يعنى: ارفع يدك يا إبراهيم عن ذبح ولدك الوحيد، فما كان الأمرُ إلا بلاءً مبيناً، أى: واضح قاسٍ عليك أنت وولدك، وهو مبين لأنه يُبين قوة عقيدة إبراهيم – عليه السلام – فى تلقِّى الأمر من الله، وإنْ كان صعباً وقاسياً، ثم الانصياع له والطاعة، وكذلك كان البلاء فى حَقِّ ولده الذى خضع وامتثل.قوله تعالى: “إنّ هذا لهو البلاء المبين”،
فيه دلالة على أنّ الأنبياء أشدّ الناس بلاء، ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم”أشدّ الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتدّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة”
وجاء الفداء:{ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ }الصافات: 107
ذبح بمعنى مذبوح، وهو الكبش الذي أنزله الله، فِداءً لإسماعيل.
ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى، ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان ، وعظمة التسليم.
{ وتركنا عليه في الآخرين }..فهو مذكور على توالي الأجيال والقرون. وهو أمة ، وهو أبو الأنبياء.
وهذا يدل على أنّ عاقبة الصبر على البلاء محمودة، وذلك أنّ إبراهيم عليه السلام لما ابتلاه الله تعالى بذبح ابنه، امتثل لأمر ربه، وصبر على بلائه، فجزاه الله تعالى أن فداه بذبح عظيم، وجعل له ذكراً عطرا وثناء مباركاً في الآخرين، ورزقه غلاما آخر من الصالحين.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في «مفتاح دار السعادة» “1/300” :
ثم تأمّل حال أبينا الثالث إبراهيم صلى الله عليه و سلم، إمام الحنفاء، وشيخ الأنبياء، وعمود العالم، وخليل ربّ العالمين، من بني آدم، وتأمّل ما آلت إليه محنته وصبره وبذله نفسه لله! وتأمّل، كيف آل به بذله لله نفسه ونصره دينه إلى أن اتخذه الله خليلا لنفسه وأمر رسوله وخليله محمدًا صلى الله عليه و سلم أن يتّبع ملّته.
وأنبّهك على خصلة واحدة مما أكرمه الله به في محنته بذبح ولده، فإنّ الله تبارك وتعالى جازاه على تسليمه ولده لأمر الله بأن بارك في نسله وكثره حتى ملأ السهل والجبل، فإنّ الله تبارك وتعالى لا يتكرّم عليه أحد وهو أكرم الأكرمين، فمن ترك لوجهه أمرا او فعله لوجهه بذل الله له أضعاف ما تركه من ذلك الأمر أضعافا مضاعفة، وجازاه بأضعاف ما فعله لأجله أضعافا مضاعفة، فلمّا أمر إبراهيم بذبح ولده، فبادر لأمر الله ووافق عليه الولد أباه رضاء منهما وتسليما، وعلم الله منهما الصدق والوفاء فداه بذبح عظيم، وأعطاهما ما أعطاهما من فضله، وكان من بعض عطاياه أن بارك في ذرّيّتهما حتى ملؤا الأرض؛ فإنّ المقصود بالولد إنّما هو التناسل وتكثير الذرّيّة، ولهذا قال إبراهيم: {رب هب لي من الصالحين}، وقال: {رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذرّيّتي} فغاية ما كان يحذر ويخشى من ذبح ولده انقطاع نسله فلمّا بذل ولده لله، وبذل الولد نفسه ضاعف الله له النسل وبارك فيه وكثّر حتى ملؤا الدنيا، وجعل النبوة والكتاب في ذرّيّته خاصة، وأخرج منهم محمدًا صلى الله عليه و سلم.
قال: فجعل من نسله هاتين الأمّتين العظيمتين اللّتين لا يحصى عددهم الا الله خالقهم ورازقهم، وهم بنو إسرائيل وبنو إسماعيل؛ هذا سوى ما أكرمه الله به من رفع الذكر والثناء الجميل على ألسنة جميع الأمم، وفي السموات بين الملائكة. فهذا من بعض ثمرة معاملته. فتبًّا لمن عرفه ثم عامل غيره! ما أخسر صفقته وما أعظم حسرته!» اهـ.
. { سلام على إبراهيم. كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين }..
وهذا جزاء الإيمان. وتلك حقيقته فيما كشف عنه البلاء المبين.
معنى قوله تعالى (وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) النساء 125
سمي الخليل خليلاً لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللاً إلاَّ ملأته.
ومعنى ( وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ) أي اصطفاه الحق اصطفاءً خاصاً، لأن الحب قد يُشارَك فيه، فهو سبحانه يحب ٱلتَّوَّابِينَ والْمُتَّقِينَ وٱلصَّابِرِينَ …..الخ
لكنه اصطفى إبراهيم خليلاً، أي لا مشاركة لأحد في مكانته، أما الحب فيعم، ولكن الخلَّة لا مشاركة فيها.
ولذلك نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا وإن صاحبكم خليل الله تعالى) يعني نفسه “.
الفرق بين المحبة والخلة :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
الخلة هي كمال المحبة المستلزمة من العبد كمال العبودية لله ومن الرب سبحانه كمال الربوبية لعباده الذين يحبهم ويحبونه ، ولفظ العبودية يتضمن كمال الذل وكمال الحب فإنهم يقولون قلب متيم إذا كان متعبدا للمحبوب ، والتيم التعبد ، وتيم الله عبده ، وهذا أعلى الكمال حصل لإبراهيم ومحمد -صلى الله عليهما وسلم- ولهذا لم يكن له من أهلا لأرض خليل ، إذ الخلة لا تحتمل الشركة فإنه كما قيل في المعنىقد تخللت مسلك الروح منى … وبذا سمى الخليل خليلابخلاف أصل الحب فإنه -صلى الله عليه وسلم- قد قال في الحديث الصحيح في الحسن وأسامة : اللهم إني أحبهما فأحبهما ، وأحب من يحبهما ، وسأله عمرو بن العاص : أي الناس أحب إليك ؟قال ;عائشة. قال: فمن الرجال ؟ قال;أبوها وقال لعلى رضى الله عنه: ;لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وأمثال ذلك كثير.
وقد أخبر تعالى أنه يحب المتقين ، ويحب المحسنين ، ويحب المقسطين ويحب التوابين ، ويحب المتطهرين ، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ،وقال: { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } ، فقد أخبر بمحبته لعباده المؤمنين ومحبة المؤمنين له حتى قال { والذين آمنوا أشدحبا لله }.4
وقال رحمه اللهالخليلين هما أكمل خاصة الخاصة توحيدا فلا يجوز أن يكون في أمة محمد صلى الله عليه و سلم من هو أكمل توحيدا من نبي من الأنبياء فضلا عن الرسل فضلا عن أولي العزم فضلا عن الخليلين .
وكمال توحيدهما بتحقيق إفراد الألوهية وهو أن لا يبقى في القلب شيء لغير الله أصلا بل يبقى العبد مواليا لربه في كل شيء يحب ما أحب ويبغض ما أبغض ويرضى بما رضي ويسخط بما سخط ويأمر بما أمر وينهى عما نهى5
وقال ابن القيم رحمه الله :
الخُلّة هي توحيد المحبة، فالخليل هو الذي توحد حبه لمحبوبه وهي رتبة لا تقبل المشاركة، ولهذا اختص بها العالم الخليلان إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما قال تعالى: (واتَخَذَ اللهُ إبراهيم خليلاً)
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ إنّ الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ] وقال صلى الله عليه وسلم: [ لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً،ولكن صاحبكم خليل الرحمن ]، وقال صلى الله عليه وسلم: إني أبرأ إلى كل خليل من خلته
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
وقول بعض الناس إن محمدا حبيب الله وإبراهيم خليل الله ، وظنه أن المحبة فوق الخلة ، قول ضعيف ، فإن محمدا أيضا خليل الله ، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة المستفيضة اهـ .
وقال ابن القيم رحمه الله :
وقد ظن بعض من لا علم عنده أن الحبيب أفضل من الخليل ، وقال : محمد حبيب الله ، وإبراهيم خليل الله . وهذا باطل من وجوه كثيرة :
منها : أن الخلة خاصة ، والمحبة عامة . فإن الله يحب التوابين ،ويحب المتطهرين ، وقال في عباده المؤمنين : ( يحبهم ويحبونه ) .
ومنها : أن النبي نفى أن يكون له من أهل الأرض خليل ، وأخبر أن أحب النساء إليه عائشة ، ومن الرجال أبوها .
ومنها : أنه قال : ( إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ) .
ومنها : أنه قال : ( لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن أخوة الإسلام ومودته ) اهـ.
هل الذبيح إسماعيل أم إسحق ؟
المسلمون يعتقدون أن الذبيح إسماعيل، واليهود يقولون: الذبيح إسحق، وهذا القول مردود من عدة وجوه:
1- لو كان الذبيح إسحق لكانت مسألة الذبح والفداء وما يتعلق بهما من مناسك بأرض الشام، حيث عاشَ هناك إسحاق، أما وهى تُفعل في أرض الحجاز حيث وُلِد وعاش إسماعيل، فهذا دليل من المواقع على أن الذبيح إسماعيل.
2- أن القرآن صريح في أن الله لمّا بشر إبراهيم بإسحاق قرن تلك البشارة بأنه يولد لإِسحاق يعقوب، قال تعالى:{ فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب }هود: 71
وكان ذلك بمحضر إبراهيم فلو ابتلاه الله بذبح إسحاق لكان الابتلاء صورياً لأنه واثق بأن إسحاق يعيش حتى يولد له يعقوب لأن الله لا يخلف الميعاد.
ولمّا بشره بإسماعيل لم يَعِدْه بأنه سيُولد له وما ذلك إلا توطئة لابتلائه بذبحه فقد كان إبراهيم يدعو لحياة ابنه إسماعيل. فقد جاء في «سفر التكوين» الإِصحاح السابع عشر «وقال إبراهيم لله: ليت إسماعيل يعيش أمامك فقال الله: بل سارة تلد لك ابناً وتدعو اسمه إسحاق وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً لنسله من بعده». ويظهر أن هذا وقع بعد الابتلاء بذبحه.
3- أنه لو كان المراد بالغلام الحليم إسحاق لكان قوله تعالى بعد هذه الآيات:
{ وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالِحينَ }الصافات: 112
لكان تكريراً لأن فعل: بشرناه بفلان، غالب في معنى التبشير بالوجودفالله تعالى قال (فبشرناه بغلام حليم ) ثم قال بعد ذلك عاطفاً على البشارة الأولى:{ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ }الصافات: 112
فدل ذلك على أن البشارة الأولى شيء غير المبشر به في الثانية لأنه لا يجوز حمل كتاب الله على أن معناه: فبشرناه بإسحاق، ثم بعد انتهاء قصة ذبحه يقول أيضاً: وبشرناه بإسحاق، فهو تكرار لا فائدة فيه ينزّه عنه كلام الله، وهو واضح في أن الغلام المبشَّر به أولاً الذي فُدي بالذبح العظيم، هو إسماعيل، وأن البشارة بإسحاق نص الله عليها مستقلة بعد ذلك.
4- ويستأنس لهذا بأن المواضع التي ذكر فيها إسحاق يقيناً عبر عنه في كلها بالعلم لا الحلم، وهذا الغلام الذبيح وصفه بالحلم لا العلم.
5- وقد ورد ما يثبت صحة ذلك في التوراة في الإصحاح الثالث والعشرين في سفر التكوين (وأوحى الله إلى إبراهيم أن اصعد بابنك الوحيد جبل الموريا وقدَّمْه قرباناً لي)
و كان إسماعيل عليه السلام وحيداً وقد وُلِد إسحق وعمر إسماعيل أربعة عشر عاماً.
وفى الإصحاح الرابع والعشرين (وُلِد إسحقُ وعمر إسماعيل أربع عشرة سنة).
وَإِنَّمَا قالوا إن الذبيح هو إِسْحَاق لِأَنَّهُ أَبُوهُمْ وَإِسْمَاعِيل أَبُو الْعَرَب فَحَسَدُوهُمْ فقالوا مقالتهم أن الذبيح هو إسحق .
تنبيه :
من المشهور في هذا المقام حديث ” أنا ابْنُ الذبيحين ” أي: فداء أبيه عبد الله من الذبح بمائة ناقة، وأما الذبيح الثاني فإسماعيل عليه السلام الذي فَدَاه ربه بكبش.
قال الألباني في السلسلة الضعيفة تحت رقم 331 : (هذا الحديث لا أصل له )
نعم قصة فداء والد النبي بمائة ناقة مذكورة تاريخيا لكن لا يعنى ذلك صحة هذا الحديث
الشيخ حسين عامر
التوقيع لا يظهر للزوار ..
قد تكوني مهتمة بالمواضيع التالية ايضاً | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
ادخلوا ولن تندموامجموعة قصص مفيدة | اميرة باخلاقه | عالم المعرفة | 13 | 29-12-2018 05:06 PM |
قصة إبراهيم الخليل عليه السلام كاملة | النجمة الذهبية | حواديت وقصص الاطفال | 2 | 31-07-2018 06:09 PM |
قصة مصورة واقعية، قصة التاجر الأمين ،أجمل قصة واقعية ،قصة حكاها النبي صلى الله عليه | أم أمة الله | حواديت وقصص الاطفال | 12 | 27-03-2018 07:02 PM |
مهاجرة إبراهيم بابنه إسماعيل وأمه هاجر إلى جبال فاران وهي أرض مكة | ЙǑŏƒ | قصص الانبياء والرسل والصحابه | 2 | 28-08-2015 02:33 PM |
قصة الذبيح إسماعيل علية السلام | منة الله احمد | حواديت وقصص الاطفال | 3 | 26-09-2013 11:46 PM |
جميع المشاركات تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع