الرهن والضمان ،البيان لصفةِ يَدِ المُرتهِنِ بين
الأمانة والضمان
مقدمة
معني الرهن
_يُعرف الرهن (بالإنجليزية: Mortgage) بأنّه اتفاق قانونيّ يتمّ بين طرفين، بحيث يتمّ نقل ملكيّة أحد الأصول أو الممتلكات من قِبل مالكها والذي يُدعى الراهن إلى المُقرض والذي يُدعى بالمرتهن؛ وذلك كضمان للقرض، كما يتمّ تسجيل الفائدة الأمنية للمقرض في سجل مستندات الملكية لجعلها وثيقةً قانونية، بحيث يتمّ إبطالها عند سداد القرض كاملاً.
_يُمكن رهن أيّ نوع من الممتلكات المملوكة بشكل قانوني، وتُعدّ الممتلكات العقارية؛ كالأراضي والمباني من الممتلكات الأكثر شيوعاً في الرهن، كما يُمكن رهن الممتلكات الشخصية؛ كالسيارات، والأجهزة، والمجوهرات، ويُطلق عليها اسم أملاك منقولة، ويبقى حق حيازة الممتلكات العقارية، والمعدات، والمركبات واستخدامها بيد الراهن، ما لم ينصّ الرهن على خلاف ذلك، ويحق للمرتهن أخذها في أيّ وقت لحماية مصلحته الأمنية.
وسيكون هذا المقال توضيح لحديث أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها وما ترتب عليه من أحكام في الرهان
فتابعوا معنا المقال من منتداكم عدلات
بسم الله
أوَّلًا: نصُّ الحديث:عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ حَدِيدٍ» مُتَّفَقٌ عليه(١).
وفي لفظٍ آخَرَ عنها: «تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلاَثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ»(٢).
ثانيًا: ترجمة راوية الحديث:
هي أمُّ المؤمنين عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ الصدِّيقِ رضي الله عنهما، وأمُّها أمُّ رومان بنت عامِرِ بنِ عُوَيْمِرٍ الكِنانية، وتُكنَّى بأمِّ عبد الله(٣)، وُلِدَتْ بعد المبعث بأربعِ سنين أو خمسٍ، وتزوَّجها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهي بنتُ ستٍّ مُكْتَمِلةٍ وداخلةٌ في السابعة، وكانَتْ بنتَ تسعٍ حين دَخَلَ بها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وذلك في شوَّالٍ في السنة الأولى للهجرة، ولم يَنْكِحْ بِكْرًا غيرَها، ومِن مَناقِبِها رضي الله عنها قالت: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم ذَكَرَ فَاطِمَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: فَتَكَلَّمْتُ أَنَا، فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي زَوْجَتِي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؟» قُلْتُ: «بَلَى وَاللهِ»، قَالَ: «فَأَنْتِ زَوْجَتِي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»»(٤). ومِن أخَصِّ مَناقِبِها ما عُلِمَ مِن شيوعِ تخصيصها وحُبِّه صلَّى الله عليه وسلَّم لها، ونزولِ القرآنِ في عُذْرِها وبراءتِها والتنويهِ بقَدْرِها، ووفاةِ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم عندها، ونزولِ الوحي في بيتها(٥).
وكانَتْ رضي الله عنها مِنْ أَفْقَهِ الصحابةِ ومِن أَكْثَرِهم روايةً عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقَدْ رَوَتْ عَشَرَةً ومائتين وألفَيْ حديثٍ (٢٢١٠)، ومِن أَكْثَرِهم فُتْيَا(٦). وتُوُفِّي عنها رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهي بنتُ ثماني عَشْرَةَ سنةً، ثمَّ عاشَتْ بعده ستًّا وأربعين سنةً، وتُوُفِّيَتْ سنة: (٥٧ﻫ) لسَبْعَ عَشْرَةَ ليلةً خَلَتْ مِن رمضان، وصلَّى عليها أبو هريرة رضي الله عنه، ودُفِنَتْ بالبقيع في زمن خلافة معاوية بنِ أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين(٧).
ثالثًا: غريب الحديث:
ـ «مِنْ يهوديٍّ»: هو أبو الشحم الظفري(٨): بيَّنه الشافعيُّ ثمَّ البيهقيُّ مِنْ طريق جعفر بنِ محمَّدٍ عن أبيه: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهَنَ دِرْعًا لَهُ عِنْدَ أَبِي الشَّحْمِ الْيَهُودِيِّ ـ رَجُلٍ مِنْ بَنِي ظَفَرٍ(٩)ـ فِي شَعِيرٍ»(١٠).
ـ «طعامًا»: المراد به: الشعيرُ، كما بيَّنَتِ الروايةُ الأخرى النوعَ والقَدْر وأنه ثلاثون صاعًا.
ـ «إلى أجلٍ» أي: نسيئةً كما ثَبَت في روايةٍ أخرى عنها، والأجلُ مُقيَّدٌ بالعلم، وقد جاء التصريحُ عنه في حديثِ عائشة رضي الله عنها: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ»(١١).
رابعًا: المعنى الإجماليُّ للحديث:
عاش النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم زاهدًا في متاع الدنيا، سواءٌ في أيَّام الشدَّة أو الرخاء، طالبًا الآخرةَ، جادًّا في العبادة، فمِنْ شدَّةِ زهدِه وتواضعِه في الدنيا أنه لم يُبْقِ ما يدَّخِرُه قوتًا لنفسه ولأهله؛ رغبةً فيما عند الله عزَّ وجلَّ، قانعًا باليسير، وصابرًا على ضيقِ العيش، حتَّى آلَ به الأمرُ إلى أَنْ يرهن دِرْعَه لأبي الشحم اليهوديِّ في مُقابِلِ طعامٍ مِنْ شعيرٍ جَعَله قوتًا لأهله، وتُوُفِّيَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ودرعُه مرهونةٌ عند اليهوديِّ.
فالحاصل: كانَتْ أعمالُه صلَّى الله عليه وسلَّم في تفضيلِ نعيمِ الآخرة على متاعِ الدنيا ثمرةً إلهيةً ربَّاهُ اللهُ بها؛ كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّنۡهُمۡ زَهۡرَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا لِنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَرِزۡقُ رَبِّكَ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰ ١٣١﴾ [طه].
خامسًا: الفوائد والأحكام المُستنبَطةُ مِنَ الحديث:
تظهر الفوائد والأحكام المأخوذةُ مِنْ هذا الحديثِ فيما يلي:
١ ـ الحديث أصلٌ في ثبوت الرهن في الحَضَر، وأمَّا في السفر فهو ثابتٌ بقوله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمۡ عَلَىٰ سَفَرٖ وَلَمۡ تَجِدُواْ كَاتِبٗا فَرِهَٰنٞ مَّقۡبُوضَةٞ﴾ [البقرة: ٢٨٣]، والمسألةُ مُختلَفٌ فيها، وقد تقدَّم ذِكْرُ مَنْ قَصَر الرهنَ على السفر دون الحَضَر أخذًا بمفهوم الآية(١٢)، والحديثُ حجَّةٌ ـ عند الجمهور ـ مُقدَّمٌ على دليل الخطاب (مفهوم المخالفة)؛ لأنَّ المنطوق أقوى مِنَ المفهوم.
٢ ـ وفيه ـ أيضًا ـ جوازُ رهنِ الشيءِ المحتاج إليه كالدرع ونحوِه مِنْ أدوات الحرب(١٣).
٣ ـ وفيه ردٌّ على مَنْ قال: إنَّ الرهن في السَّلَم لا يجوز، وقد بوَّب البخاريُّ ـ رحمه الله ـ في «صحيحه»: «باب الرهن في السَّلَم»(١٤).
٤ ـ فيه الحكمُ بثبوتِ أملاك أهل الذمَّة على ما في أيديهم(١٥).
٥ ـ فيه جوازُ مُعامَلةِ الكُفَّار وأهلِ الذمَّة ومبايعتِهم فيما لم يُتحقَّقْ تحريمُ عين المُتعامَل فيه، وهو مُجمَعٌ عليه في الجملة، قال النوويُّ ـ رحمه الله ـ: «وقد أجمع المسلمون على جوازِ مُعامَلةِ أهل الذمَّة وغيرِهم مِنَ الكُفَّار إذا لم يُتحقَّقْ تحريمُ ما معه»(١٦)، وسندُ الإجماع: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابَه أقاموا بمكَّةَ ثلاثَ عَشْرةَ سنةً يُعامِلون المشركين والكُفَّار، كما أقام النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم هو وصحبُه عشرًا بالمدينة يُعامِلون أهلَ الكتاب وينزلون أسواقَهم ومَتاجِرَهم، وذلك معلومٌ مِنَ الدين بالضرورة(١٧).
٦ ـ وفيه دليلٌ على عدمِ اعتبارِ فسادِ مُعتقَدِهم ومُعامَلاتهم فيما بينهم، وإِنْ كان مالُهُم لا يخلو مِنَ الرِّبَا وثمنِ الخمر، ولا يُبْحَث عمَّا فعلوه فيما بينهم مِنْ مُعامَلاتٍ، ولا عن كيفيةِ وصول المال إلى أيديهم؛ فهي على اعتقادهم حتَّى يتبيَّن خلافُه(١٨).
٧ ـ وفيه أنَّ المُعامَلةَ معهم ليسَتْ مِنْ قَبيلِ الركون المنهيِّ عنه، وأنه يجب الصدقُ والبيانُ ويَحْرُم الكذبُ والخيانةُ والكتمان حتَّى في مُعامَلةِ الكافر؛ لعموم النصوص الآمرة بالصدق والناهيةِ عن الكذب، كما في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا»(١٩).
٨ ـ استُنْبِط مِنَ الحديثِ جوازُ مُعامَلةِ مَنْ أكثرُ مالِه حرامٌ ما لم يكن عين المُتعامَلُ فيه معلومَ الحرمة(٢٠).
٩ ـ استُدِلَّ بالحديث على جوازِ بيع السلاح للكافر، وهو استدلالٌ غيرُ ناهضٍ للتعليلات التالية:
ـ لأنَّ الدرع في الحديث ليس بسلاحٍ حقيقةً، وإنما هي آلةُ حربٍ يُتَّقى بها السلاحُ.
ـ ولأنَّ اليهوديَّ ـ في الحديث ـ لم يكن مِنْ أهل الحرب، وإنما هو مِنَ المستأمنين فلا يُخشى منه سطوةٌ.
ـ ولأنَّ إعانة الكُفَّار والأعداءِ بالأسلحة محرَّمةٌ وخيانةٌ عظمى، فمِنْ باب أَوْلى بيعها أو إجارتها.
ـ ولأنَّ الرهن ليس عقدَ تمليكِ عينٍ أو منفعةٍ، وإنما هو جَعْلُ مالٍ توثقةً بدَيْنٍ يُستوفى مِنْ ثمنه إِنْ تَعذَّر الاستيفاءُ مِنْ ذمَّةِ الغريم.
غير أنَّ رَهْنَ الدرع ممَّنْ يُخشى منه استعمالُه لها للتقوِّي بها فهو بمَثابةِ بيعِها؛ وأمَّا بيعُ السلاح مِنْ أهل الحرب فلا يجوز(٢١)، وكذا بيع المصحف والعبدِ المسلم وما يستعينون به في إقامةِ دِينِهم(٢٢).
١٠ ـ فيه أنَّ اتِّخاذ الدروع ونحوِها والتحصُّنَ مِنَ الأعداء بها لا يقدح في التوكُّل ولا يُنافيه(٢٣)؛ لأنَّ الله تعالى قدَّر مقدوراتٍ مُرتبِطةً بأسبابها، وأمَر اللهُ تعالى بتعاطي الأسباب مع أمرِه بالتوكُّل؛ فالأخذُ بالأسباب طاعةٌ لله تعالى، وهو الآمرُ بذلك، وهو مِنْ عمل الجوارح، والتوكُّلُ على الله مِنْ عمل القلب؛ فالتوكُّلُ على الله لا يُنافي السعيَ في الأسباب والأخذَ بها، وإليه الإشارةُ بقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ﴾ [النساء: ٧١]، وقولِه تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ﴾ [الأنفال: ٦٠].
١١ ـ فيه دليلٌ على جوازِ بيعِ جنسٍ ربويٍّ بجنسٍ آخَرَ ربويٍّ نسيئةً إذا كان لا يُشارِكه في العلَّة(٢٤).
١٢ ـ فيه دليلٌ على جواز الشراء بالثمن المؤجَّل نسيئةً قبل قبضِه، أي: جواز الشراء بالدَّين لمَنْ ليس بحضرته ثمنُه؛ لأنَّ الرهن إنما يُحتاجُ إليه حيث لا يتأتَّى الإقباضُ في الحال ـ غالبًا ـ؛ وقد يُستدَلُّ به على جواز الشراء لمَنْ لا يقدر على الثمن في وقته(٢٥)، وتَرْجم له البخاريُّ ـ رحمه الله ـ ﺑ: «باب شراء النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالنسيئة»(٢٦)، و«باب شراء الطعام إلى أجل»(٢٧).
١٣ ـ استُدِلَّ بالحديث على شرطيةِ قبضِ المرهون في الرهن، وهو محلُّ اتِّفاقٍ بين العلماء(٢٨)؛ لقوله تعالى: ﴿فَرِهَٰنٞ مَّقۡبُوضَةٞ﴾ [البقرة: ٢٨٣].
١٤ ـ فيه دليلٌ على صفةِ يدِ المُرْتهِن وأنها يدُ أمانةٍ؛ فلا ضمانَ عليه إلَّا بالتعدِّي والتقصير؛ لأنَّ وجود المرهون في يد المُرتهِن حَدَث برِضَا الراهن، والمسألةُ اجتهاديةٌ سأتعرَّض لها ـ قريبًا ـ في مواقف العلماء مِنَ الحديث.
١٥ ـ فيه جوازُ شراءِ الإمامِ الحوائجَ بنفسه، وجوازُ التجارة مِنَ الإمام مع رعيَّتِه، ويُلْحَق به الأميرُ والحاكم أو السلطان والكبير والشريف(٢٩)؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم «كان يبيع ويشتري بعضَ الأحيان، ولم يكن ذلك عادةً راتبةً له»(٣٠)، وقد بوَّب له البخاريُّ ـ رحمه الله ـ ﺑ: «باب شراء الإمامِ الحوائجَ بنفسه»(٣١)، قال ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ: «وفي هذه الأحاديثِ: مُباشَرةُ الكبير والشريفِ شراءَ الحوائج وإِنْ كان له مَنْ يكفيه إذا فَعَل ذلك على سبيل التواضع والاقتداءِ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فلا يشكُّ أحَدٌ أنه كان له مَنْ يكفيه ما يريد مِنْ ذلك، ولكنَّه كان يفعله تعليمًا وتشريعًا»(٣٢).
١٦ ـ فيه ما كان عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِنَ التواضع، والزهدِ في الدنيا والتقلُّل منها مع قدرته عليها، ومُلازَمة الفقر(٣٣)، وَجُودِه وكرمِه الذي مَنَعه مِنَ الادِّخار حتَّى احتاج إلى رهنِ درعِه(٣٤).
١٧ ـ وفيه خُلُقُ صبرِه صلَّى الله عليه وسلَّم على ضيق العيش والقناعة باليسير، وتعليم أمَّتِه ذلك، كما أنَّ فيه فضيلةً لأزواجه صلَّى الله عليه وسلَّم لصبرهنَّ معه في ذلك(٣٥).
١٨ ـ «فيه تسمية الشعير طعامًا؛ خلافًا لمَنْ قَصَر التسميةَ على الحنطة»(٣٦)، وأنَّ الشعير ـ في الظاهر ـ كان غالِبَ قوتِ ذلك العصر(٣٧)، وأنه ثلاثون صاعًا مِنَ الشعير، أو عشرون ـ كما في رواية الترمذيِّ(٣٨) والنسائيِّ(٣٩)ـ قال الشوكانيُّ ـ رحمه الله ـ في الجمع بينهما: «ولعلَّه صلَّى الله عليه وسلَّم رَهَنه ـ أوَّلَ الأمر ـ في عشرين، ثمَّ استزاده عشرةً، فرواهُ الراوي ـ تارةً ـ على ما كان الرهنُ عليه أوَّلًا، وتارةً على ما كان عليه آخِرًا»(٤٠)، وقال ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ ما نصُّه: «ولعلَّه كان دون الثلاثين فجُبِر الكسرُ تارةً وأُلْغِيَ [الجبرُ] أخرى»(٤١).
١٩ ـ والحكمة مِنْ عدول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن مُعامَلةِ مَياسيرِ الصحابة إلى مُعامَلةِ اليهود تظهر: إمَّا لبيان الجواز، وإمَّا لافتقارهم إلى طعامٍ فاضلٍ عن حاجةِ غيرِهم، أو لأنه خَشِيَ عدمَ أخذِهم رَهْنَه صلَّى الله عليه وسلَّم أو عدمَ قبضِهم منه الثمنَ أو العوض؛ لذلك لم يُرِدِ التضييقَ عليهم(٤٢).
٢٠ ـ فيه دليلٌ على أنَّ موت الراهنِ بعد قبضِ المرهون لا يُبْطِل الرهن، وهو محلُّ اتِّفاقٍ بين العلماء، سواءٌ مات الراهنُ أو المُرتهِنُ أو أفلس الراهنُ، وإنما ينتهي عقدُ الرهن ـ باتِّفاق الفقهاء ـ بهلاك المال المرهون(٤٣).
سادسًا: مواقف العلماء مِنَ الحديث (فقه الحديث):
اتَّفق العلماءُ على أنَّ الرهن ليس عَقْدَ تمليكٍ ولا منفعةٍ، وأنَّ عين الرهن مِلْكٌ للراهن(٤٤)، وأنَّ مِنْ شرط الرهن وحقِّ المُرتهِنِ حَبْسَ الرهنِ توثقةً بدَيْنه(٤٥)، كما اتَّفقوا على وجوبِ ضمان الرهن بالتقصير والتعدِّي أو باستهلاكه(٤٦)، وعلى أنَّ قيمة الضمانِ تحلُّ محلَّ المرهون(٤٧)، غير أنهم يختلفون في صفةِ يد المُرتهِن: أهي يدُ أمانةٍ أم يدُ ضمانٍ؟ وسأتناوَلُ هذا الاختلافَ على النسق التالي:
أ) مذاهب العلماء في المسألة:
يمكن حصرُ اختلافِ العلماء في هذه المسألةِ على ثلاثةِ مَذاهبَ أَتعرَّضُ لها فيما يأتي:
١ ـ مذهب الحنفية:
يذهب الحنفية إلى أنَّ يد المرتهن على الرهن يدُ ضمانٍ واستيفاءٍ فيما يُقابِل الدَّيْنَ مِنْ مالية الرهن ويساويه، فإذا هَلَك المرهونُ المحبوسُ عند المرتهن صارَ مُستوفِيًا حقَّه في ذلك المقدار، وفي حالةِ زيادةِ قيمة الرهن على قيمةِ الدَّيْن فهو أمانةٌ، فحكمُها أَنْ لا ضمانَ عليها إلَّا بتفريطٍ أو تَعَدٍّ(٤٨)، قال الطحاويُّ ـ رحمه الله ـ: «وإذا ضاع الرهنُ في يدَيِ الأمين عليه وهو يُساوِي ما رُهِن به أو أكثرَ منه ضاع بالدَّيْن الذي رُهِن به، ولم يكن على مُرتهِنِه غَرْمُ شيءٍ مِنْ قيمته، وإِنْ كانَتْ قيمتُه أقلَّ مِنَ الدَّيْن الذي رُهِن به رَجَع المرتهنُ على الراهن مِنْ دَيْنه بما جاوَزَ قيمةَ الرهن»(٤٩).
٢ ـ مذهب الجمهور:
ذَهَب الجمهور إلى أنَّ الرهن أمانةٌ في يد المرتهن ليس بمضمونٍ عليه، ولا يسقط شيءٌ مِنَ الدَّيْن بهلاك الرهن إلَّا إذا حَدَث هلاكُ الرهن أو تلفُه بتَعَدٍّ مِنَ المُرتهِنِ أو تفريطٍ، وهو مذهبُ الشافعية والحنابلة(٥٠)، قال الخِرَقيُّ ـ رحمه الله ـ: «والرهنُ إذا تَلِف بغيرِ جنايةٍ مِنَ المرتهن رَجَع المرتهنُ بحقِّه عند مَحِلِّه، وكانَتِ المصيبةُ فيه مِنْ راهِنِه، وإِنْ كان بتَعدِّي المرتهنِ أو لم يُحْرِزه ضَمِن»(٥١).
٣ ـ مذهب المالكية:
ذَهَب المالكيةُ إلى التفريق بين هلاك الرهن بأمرٍ ظاهرٍ لا يمكن إخفاؤه كالدار تنهدم، والحيوانِ يموت، أو قامَتْ بيِّنةٌ مِنْ شهادةِ اثنين أو شاهدٍ ويمينٍ على هلاكه بلا إهمالٍ ولا تَعَدٍّ ولا تفريطٍ مِنَ المرتهن أو كان الرهنُ بيدِ أمينٍ؛ فإنَّ المرتهن ـ في هذه الحال ـ لا يضمن الرهنَ عند هلاكه.
أمَّا إذا كان الرهنُ في يد المرتهن ولم يكن بيدِ أمينٍ عدلٍ، وهَلَك الرهنُ أو تَلِف بأمرٍ خفيٍّ أي: يمكن كتمُه وإخفاؤه كالذهب والفضَّة والحُلِيِّ والثياب ونحوِ ذلك، وادَّعى المرتهنُ تَلَفَه وهلاكه، ولم يُقِمْ بيِّنةً على تلفِه بلا تَعَدٍّ منه ولا إهمالٍ؛ فإنَّ المرتهنَ يضمن لحصولِ التهمة(٥٢)، قال ابنُ عبد البرِّ ـ رحمه الله ـ: «الرهون ـ عند مالكٍ ـ على ضربين: مضمونةٌ وغيرُ مضمونةٍ: فالمضمونُ منها: ما يُغابُ عليه مِنَ الأموال الباطنة مثل: الثياب والحُلِيِّ والمتاع، وغيرُ المضمون منها: الأموالُ الظاهرةُ مثل الرَّبْع والحيوان، وما ضُمِن في العارية ضُمِن في الرهن، وكذلك كُلُّ ما يُغابُ عليه ويخفى هلاكُه: مصيبتُه مِنَ المرتهن وهو له ضامنٌ إلَّا أَنْ يكون له بيِّنةٌ على تلفِه بغيرِ تفريطٍ منه ولا تضييعٍ ولا تَعَدٍّ، فإِنْ كان ذلك سَقَط عنه الضمانُ(٥٣)»(٥٤).
ب) أدلَّة المذاهب السابقة:
أتناولُ ـ في البداية ـ أدلَّةَ مذهبِ الحنفية، ثمَّ أدلَّةَ الجمهور، وأُعْقِبها بدليل المالكية، فيما يلي:
١ ـ أدلَّة الحنفية:
استدلَّ الحنفيةُ على مذهبهم بأدلَّةٍ مِنَ الكتاب والسنَّة والإجماع والمعقول، تظهر على الوجه التالي:
• فمِنَ الكتاب استدلُّوا بقوله تعالى: ﴿فَرِهَٰنٞ مَّقۡبُوضَةٞۖ فَإِنۡ أَمِنَ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا فَلۡيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤۡتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ﴾ [البقرة: ٢٨٣]؛ فإنَّ الآية فرَّقَتْ بين الرهن والأمانة؛ فدلَّتْ على أنَّ الرهن غيرُ الأمانة، وإذا تَجرَّد الرهنُ عنها لَزِم ـ والحال هذه ـ أَنْ يكون مضمونًا(٥٥).
• ومِنَ السنَّة استدلُّوا بالآتي:
ـ بحديثِ أنسٍ رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ»(٥٦).
ـ وحديثِ عطاءٍ: أَنَّ رَجُلًا رَهَنَ [رَجُلًا] فَرَسًا فَنَفَقَ(٥٧) فِي يَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم لِلْمُرْتَهِنِ: «ذَهَبَ حَقُّكَ»(٥٨).
وجه دلالة الحديثين: أنهما يدلَّان ـ بالنصِّ الصريح الذي لا يحتمل التأويلَ ـ على أنَّ الرهن إذا هَلَك وعميت قيمتُه فإنما يهلك بما فيه مِنَ الديون، أي: يصير مضمونًا بما فيه مِنَ الدَّيْن؛ فدلَّ ذلك على أنَّ يد المرتهنِ يدُ استيفاءٍ وضمانٍ للمال المرهون بما يُقابِل الدَّيْنَ مِنَ مالية الرهن(٥٩).
وأمَّا الزيادةُ عن قيمة الدَّيْن فيدُه فيها يدُ أمانةٍ، ولا ضمانَ عليه ما لم يكن المرتهنُ مفرِّطا أو متعدِّيًا كما سيأتي ذلك في آثار الصحابة الواردة في الفقرة اللاحقة.
• ومِنَ الإجماع استدلُّوا بإجماع الصحابة والتابعين على أنَّ الرهن مضمونٌ، مع اختلافهم في كيفية الضمان؛ «فمذهبُ عمر رضي الله عنه أنه مضمونٌ بالأقلِّ مِنَ الدَّيْن ومِنْ قيمة الرهن، وبه أخَذَ أصحابُنا رحمهم الله، وعن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال يترادَّانِ الفضلَ، وقال الحسن: هذا محمولٌ على حالةِ بقاء الرهن: إذا استَوْفى المرتهنُ يردُّ عليه الفضلَ، وقد رُوِيَ عن محمَّد بنِ الحنفية عن عليٍّ رضي الله عنه مثلُ مذهبِنا، وعند شُرَيحٍ: الرهنُ مضمونٌ بما فيه، قلَّتْ قيمتُه أو كَثُرَتْ، حتَّى لا يرجع واحدٌ منهما على الآخَرِ بعد هلاكه بشيءٍ مُطْلَقًا، وهذا اختلافُ السلف على ثلاثةِ أقوالٍ، وإحداثُ قولٍ رابعٍ خروجٌ عن الإجماع فلا يجوز»(٦٠).
وعليه فمَنِ ادَّعى أنه أمانةٌ فقَدْ خالف الإجماعَ المنقول، وهو حجَّةٌ شرعيةٌ على كُلِّ مَنْ خالَفَه.
• ومِنَ المعقول استدلُّوا بأنَّ المرتهن لمَّا مَلَك حَبْسَه صار مُستوفِيًا حقَّه مِنْ وجهٍ؛ لأنَّ الحبس شُرِعَ ليتوصَّلَ به إلى استيفاءِ حقِّه؛ فشأنُه في الضمان كالمبيع إذا حُبِس لاستيفاءِ ثمنِه، ويثبت ذلك بحيازة اليد ومِلْك الحبسِ ليقع الأمنُ مِنْ جحود المرتهنِ الرهنَ، وليكون عاجزًا عن الانتفاع به، وإذا تَأكَّد هذا الاستيفاءُ بالهلاك فلو وفَّاهُ دَيْنَه مرَّةً أخرى لَأفضى إلى الرِّبا المحرَّم، ولا يَسَعُه المطالبةُ بحقِّه إلَّا أَنْ ينقض القبضَ والحبسَ ويردَّه إلى الراهن، وهو أمرٌ يعجز عنه بعد هلاكه؛ فتبطل المطالبةُ به لفواتِ شرطِها(٦١).
٢ ـ أدلَّة الجمهور:
استدلَّ الجمهورُ ـ على أنَّ يد المرتهنِ يدُ أمانةٍ ـ بالسنَّة والقياسِ والمعقول، وتظهر على الوجه التالي:
• فمِنَ السنَّة استدلُّوا بحديثِ أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ(٦٢) مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ»(٦٣).
فالحديث أفاد أنَّ منافعَ الرهنِ لمالكِه وهو الراهنُ، كما أنَّ غُرْمَه عليه، ويدخل هلاكُ الرهن في جملةِ غُرْمه الذي يتحمَّلُ الراهنُ مصيبتَه، وإذا كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم جَعَل الغُنْمَ للراهن والغُرْمَ عليه لَزِم أَنْ يكون الرهنُ المحبوسُ عند المرتهنِ أمانةً، لا يهلك الدَّيْنُ بهلاك الرهن، ووَجَب على الراهنِ قضاؤه إلَّا إذا تَعدَّى المرتهنُ أو قصَّر وأَهْمل فإنه يضمنه(٦٤).
وعليه فتضمينُ المرتهنِ بدون تَعَدٍّ ولا تفريطٍ مردودٌ؛ لمخالفته لنصِّ الحديث.
• ومِنَ القياس والمعقول:
ـ استدلُّوا بأنَّ الرهن المحبوسَ في يد المرتهن حَدَث برِضَا الراهنِ فيُلْحَق بالوديعة الموضوعة بيد المُودَعِ عنده إلحاقًا قياسيًّا بعلَّةِ حدوثِ الرِّضَا في كِلَا الصورتين؛ إذ بسبب الرِّضا صارَ أمنيًّا(٦٥).
ـ ولأنَّ الرهن وثيقةٌ بالدَّيْن، وهي وثيقةٌ متعلِّقةٌ بالحقِّ لا يُقابِلُها عوضٌ(٦٦)؛ لذلك لا يجوز سقوطُ الدَّيْن بهلاكه؛ إذ يَتنافى سقوطُه مع كونه وثيقةً، ومثلُه الكفيلُ والشاهدُ؛ فإنه لا يخفى أنَّ موتَ الكفيلِ أو الشاهدِ لا يُسْقِط ما يَستحِقُّه مِنَ الدَّيْن(٦٧).
ـ ولأنَّ الرهن وثيقةٌ بالدَّيْن فلا يُضْمَنُ: كزيادةِ قيمة الرهن على الدَّيْن؛ فهي ـ عند الأحناف ـ أمانةٌ لا ضمانَ فيها(٦٨) إلَّا بالتعدِّي والتقصير.
ـ «وليس مِنْ ضرورةِ ثبوتِ حقِّ الحبسِ الضمانُ، كالمُستأجِرِ بعد الفسخ: محبوسٌ عند المستأجر بالأجرة المعجَّلة بمنزلة المرهون، حتَّى إذا مات الآجِرُ كان المستأجرُ أحَقَّ به مِنْ سائر غُرَمائه ثمَّ لم يكن مضمونًا إذا هَلَك»(٦٩).
٣ ـ أدلَّة المالكية:
مذهب المالكية في التفريق بين ما يُغابُ عليه وما لا يُغابُ مبنيٌّ على التهمة؛ فهو ضامنٌ ـ عندهم ـ فيما يُغابُ عليه عملًا بمقتضَى أدلَّةِ الحنفية، ومؤتمَنٌ فيما لا يُغابُ عليه عملًا بمقتضى أدلَّة الجمهور؛ حيث تنتفي التهمةُ في الحالة الثانية دون الأولى؛ وبهذا التفريقِ بين الحالتين أُسِّسَ الحكمُ على الجمع بين ظواهر النصوص المتعارِضةِ والتوفيقِ بين أدلَّتها، وهذا هو معنى الاستحسان الذي اعتمده مالكٌ ـ رحمه الله ـ في هذه المسألةِ على ما قرَّره ابنُ رشدٍ ـ رحمه الله ـ(٧٠).
ج) مناقشة الأدلَّة السابقة:
أتناوَلُ مناقشةَ أدلَّةِ الحنفية ـ أوَّلًا ـ ثمَّ أعقبها بمناقشةِ أدلَّةِ الجمهور ـ ثانيًا ـ ثمَّ أختمها بمناقشةِ أدلَّةِ المالكية ـ ثالثًا ـ فيما يلي:
١ ـ مناقشة أدلَّة الحنفية:
ـ أمَّا الاستدلالُ بأنَّ الآية ـ في قوله تعالى: ﴿فَرِهَٰنٞ مَّقۡبُوضَةٞۖ فَإِنۡ أَمِنَ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا فَلۡيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤۡتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ﴾ [البقرة: ٢٨٣] ـ فرَّقَتْ بين الرهن والأمانة، وجرَّدَتِ الرهنَ عن أَنْ يكون أمانةً؛ فلَزِم أَنْ يكون مضمونًا فقولٌ غيرُ مسلَّمٍ؛ ذلك لأنَّ المعلوم أنَّ الرهن بدلٌ مِنَ الكتابة عند تعذُّرِها، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَمۡ تَجِدُواْ كَاتِبٗا فَرِهَٰنٞ مَّقۡبُوضَةٞ﴾ [البقرة: ٢٨٣]، وإذا كان توثيقُ الدَّيْن بالكتابة أو الكفيلِ لا يُخْرِجه عن أَنْ يكون أمانةً فكذلك الرهنُ؛ فهو عقدُ وثيقةٍ بمالٍ مِنْ جهةِ الأمانة والحيطة؛ فالبدلُ له حكمُ المُبْدَلِ منه ـ هذا مِنْ زاويةٍ ـ ولأنَّ الرهن ـ مِنْ زاويةٍ أخرى ـ ليس عوضًا عن الدَّيْن فلا يسقط بتفاسُخِهما.
ـ أمَّا حديثُ أنسٍ رضي الله عنه مرفوعًا: «الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ» فقَدْ أخرجه الدارقطنيُّ وقال: «لا يَثْبُتُ هذا عن حُمَيْدٍ، وكُلُّ مَنْ بينه وبين شيخنا ضُعَفاءُ»(٧١)، وأخرجه ـ مِنْ وجهٍ آخَرَ ـ عن إسماعيل بنِ أبي أُمَيَّة: حدَّثنا حمَّاد بنُ سَلَمة عن قتادة عن أنسٍ مرفوعًا، قال الدارقطنيُّ: «إسماعيلُ هذا يضع الحديثَ، وهذا باطلٌ عن قتادة وعن حمَّادِ بنِ سَلَمة»(٧٢)، قال ابنُ الجوزيِّ ـ رحمه الله ـ محقِّقًا على سندِ هذه الأحاديثِ بما نصُّه: «أمَّا الحديث الأوَّلُ ففيه إسماعيلُ بنُ أميَّة؛ قال الدارقطنيُّ: «هو يضع الحديثَ»، قال: «وهذا الحديثُ باطلٌ عن قتادة وعن حمَّاد بنِ سَلَمة»، وفي الإسناد سعيدُ بنُ راشدٍ، قال: يحيى بنُ مَعينٍ: «ليس بشيءٍ»، وقال النسائيُّ: «متروك الحديث»، وقال ابنُ حبَّان: «ينفرد عن الثقات بالمُعْضَلات»، وفي الحديث الثاني هشام بنُ زيادٍ؛ قال يحيى: «ليس بشيءٍ»، وقال النسائيُّ: «متروك الحديث»، وقال ابنُ حبَّان: «لا يجوز الاحتجاجُ به»، وفيه عبد الكريم؛ ضعَّفه الدارقطنيُّ، وقال أبو حاتمٍ الرازيُّ: «هو مجهول»، وفيه أحمد بنُ محمَّد بنِ غالبٍ وهو غلامُ الخليل؛ كان كذَّابًا يضع الحديثَ، قال ابنُ عَدِيٍّ الحافظُ: «كان غلام الخليل يقول: وضَعْنا أحاديثَ نُرقِّق بها قلوبَ العامَّة»، وقال الدارقطنيُّ: «هو متروك»»(٧٣).
ـ وأمَّا حديثُ عطاءٍ أَنَّ رَجُلًا رَهَنَ [رَجُلًا] فَرَسًا فَنَفَقَ فِي يَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُرْتَهِنِ: «ذَهَبَ حَقُّكَ» فقَدْ قال عنه ابنُ حزمٍ ـ رحمه الله ـ: «هذا مُرْسَلٌ، ومصعبُ بنُ ثابتٍ ليس بالقويِّ»(٧٤)، وقال عبد الحقِّ الإشبيليُّ ـ رحمه الله ـ: «هذا مُرْسَلٌ وضعيفُ الإسناد»(٧٥)، وقال ابنُ القطَّان ـ رحمه الله ـ: «ومصعبُ بنُ ثابت بنِ عبد الله بنِ الزبير ضعيفٌ كثيرُ الغلط وإِنْ كان صدوقًا»(٧٦).
وعليه، فلا يتمُّ صحيحًا الاستدلالُ بالحديثين على هلاك الرهن مضمونًا بالدَّيْن لضعفِهما، وعلى فرضِ صحَّتِهما فإنَّ الحديث الأوَّل يمكن حملُه على أنه محبوسٌ بما فيه(٧٧).
ـ أمَّا الحديث الثاني ﻓ «إنه أراد: ذَهَب حقُّك مِنَ الوثيقة، بدليلِ أنه لم يسأل عن قَدْرِ الدَّيْن وقيمةِ الفرس»(٧٨).
ـ أمَّا دعوَى إجماعِ الصحابة والتابعين على أنَّ الرهن مضمونٌ مع اختلافهم في كيفيته فغيرُ ثابتةٍ؛ قال ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ: «لم أجِدْ ذلك»(٧٩)، وقال ابنُ حزمٍ ـ رحمه الله ـ: «وأمَّا قولهم: «أجمع الصحابةُ على تضمين الرهن» فقولٌ جرَوْا فيه على عادتهم الخفيفةِ على ألسنتهم مِنَ الكذب على الصحابة بلا مُؤْنَةٍ، ويا للمسلمين!! هل جاء في هذا كلمةٌ عن أحَدٍ مِنَ الصحابة إلَّا عن عمر وعليٍّ وابنِ عمر فقط: فأمَّا عمر فلم يصحَّ عنه ذلك؛ لأنه مِنْ رواية عُبَيْد بنِ عُمَيْرٍ، وعُبَيدٌ لم يُولَدْ إلَّا بعد موتِ عمر أو أدركه صغيرًا لم يسمع منه شيئا، وأمَّا ابنُ عمر فلا يصحُّ عنه؛ لأنه مِنْ رواية إبراهيم بنِ عُمَيرٍ عنه وهو مجهولٌ، وقد رُوِي عنه: «يترادَّان الفضلَ»، وأمَّا عليٌّ فمُختلَفٌ عنه في ذلك، وأصحُّ الروايات عنه: إسقاطُ التضمين فيما أصابَتْه جائحةٌ كما أورَدْنا آنفًا، ثمَّ أعجبُ شيءٍ دعواهم أنَّ الصحابة أجمعوا على تضمين الرهن، فإِنْ صحَّ ذلك فهُمْ قد خالفوا الإجماعَ؛ لأنهم لا يضمِّنون بعضَ الرهن وهو ما زاد مِنْ قيمته على قيمة الدَّيْن؛ فهذا حكمُهم على أَنْفُسهم»(٨٠).
فإِنْ قصدوا بذلك إجماعَ الحنفية فلا حجَّةَ في الإجماع الفقهيِّ لأنهم ليسوا كُلَّ الأمَّة بل بعضها؛ إذ يُشترَطُ في صحَّةِ الإجماع أَنْ يكون قولَ جميع المُجتهِدين؛ فالعصمةُ مِنَ الخطإ إنما تُنْسَبُ لعموم الأمَّة(٨١)، كما جاء في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ»(٨٢)؛ فإِنَّ قَوْلَ الأُمَّةِ مُجتمِعةً لا يكون إلَّا حقًّا، والعصمةُ تكون لقول الكُلِّ دون قول البعض.
ـ وأمَّا الاستدلال بالمعقول ففاسدُ الاعتبار؛ لمُعارَضتِه لمقتضى حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ»(٨٣) الذي يُفيدُ أنَّ الغُنْم للراهن والغُرْمَ عليه، وأَنْ ليس للمُرتهنِ سوى حقِّ الحبس والتوثُّق على وجه الحفظ والأمانة؛ لذلك وَجَب على الراهنِ قضاءُ الدَّيْن للمرتهن؛ تقديمًا لنصِّ الحديث على الرأي والمعقول.
ـ ولأنَّ قياسه على المبيع قياسٌ مع ظهور الفارق؛ لأنَّ المستوفى صار مِلْكا للمستوفي، وله نماؤه وغُنْمُه؛ فكان ضمانُه عليه، بخلاف الرهن والمبيع قبل القبض؛ لذلك لا يضمنه؛ فشأنُه كالزيادة على قدر الدَّيْن، وكالقياس على الكفيل والشاهد والوديعة ونحوِها ممَّا تقدَّم مِنْ أقيسة الجمهور(٨٤).
٢ ـ مناقشة أدلَّة الجمهور:
ـ أمَّا حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ»، فهو وإِنْ صحَّحه ابنُ حبَّان والحاكمُ وابنُ عبد البرِّ وعبدُ الحقِّ وابنُ حزمٍ، ووَصَله الدارقطنيُّ وحسَّن إسنادَه، إلَّا أنَّ الحديث ـ كما حقَّقه أهلُ الحديث ـ مُرْسَلٌ، قال ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ: «وله طُرُقٌ في الدارقطنيِّ والبيهقيِّ كُلُّها ضعيفةٌ»(٨٥)، وقال ـ رحمه الله ـ في موضعٍ آخَرَ: «ورجالُه ثِقَاتٌ، إلَّا أنَّ المحفوظ عند أبي داود وغيرِه إرسالُه»(٨٦)، وقد عقَّب البيهقيُّ على الدارقطنيِّ بقوله: «قد رواهُ غيرُه عن سفيان عن زيادٍ مُرْسَلًا، وهو المحفوظ»(٨٧)، كما أنَّ الألبانيَّ ـ رحمه الله ـ رجَّح إرسالَه بقوله: «وجملةُ القول: أنه ليس في هذه الطُّرُق ما يَسْلَمُ مِنْ عِلَّةٍ، وخيرُها الطريقُ الثالث، وعِلَّتُها الشذوذ: إِنْ لم يكن مِنَ العابديِّ فمِنِ ابنِ عُيَيْنة؛ ولذلك فالنفسُ تَطمئِنُّ لروايةِ الجماعة الذين أرسلوه أَكْثَرَ، لا سيَّما وهُمْ ثِقاتٌ أثباتٌ، وهو الذي جَزَمَ به البيهقيُّ»(٨٨).
وعليه فالحديث لا تقوم به حجَّةٌ مِنْ جهتين:
الجهة الأولى: الحديث مُرْسَلٌ، وأقوى الأقوال في حكمه: أنه ضعيفٌ مردودٌ عند جمهور المُحدِّثين والأصوليِّين والفقهاء(٨٩).
الجهة الثانية: أنَّ قوله في الحديث: «لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» يحتمل الرفعَ أو الوقف، وقد بيَّن ابنُ وهبٍ ـ رحمه الله ـ أنَّ هذه اللفظةَ مِنْ قولِ سعيد بنِ المسيِّب، وقد ذَكَرَهُ أبو داود في «المراسيل» وقال: «هذا هو الصحيح»، أي: أنه مِنْ كلام سعيد بنِ المسيِّب ـ رحمه الله ـ، نَقَله عنه الزُّهْرِيُّ(٩٠).
قال الزيلعيُّ ـ رحمه الله ـ: «ويُؤيِّده ما رواهُ عبدُ الرزَّاقِ في «مصنَّفه»: أخبرنا مَعْمَرٌ عن الزُّهريِّ عن ابنِ المسيِّب أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِمَّنْ رَهَنَهُ»، قلت للزُّهْرِيِّ: «أَرَأَيْتَ قولَ الرجل: «لا يَغْلَقُ الرهنُ» أهو الرجلُ يقول: «إِنْ لم آتِك بمالِكَ فالرهنُ لك»؟» قال: «نعم»، قال مَعْمَرٌ: ثمَّ بَلَغَني عنه أنه قال: «إِنْ هَلَكَ لم يذهب حقُّ هذا، إنما هَلَكَ مِنْ ربِّ الرهن؛ له غُنْمُه وعليه غُرْمُه»»(٩١).
٣ ـ مناقشة أدلَّة المالكية:
أمَّا ما بنى عليه مالكٌ مِنَ التفريق بين ما يُغابُ عليه وما لا يُغابُ فقَدْ أجاب عنه ابنُ حزمٍ ـ رحمه الله ـ بقوله: «أمَّا تفريقُ مالكٍ بين ما يخفى وبين ما لا يخفى فقولٌ لا برهانَ على صحَّتِه لا مِنْ قرآنٍ ولا مِنْ سنَّةٍ، ولا مِنْ روايةٍ سقيمةٍ ولا قياسٍ، ولا قولِ أحَدٍ نعلمه قبله؛ فسَقَط، وإنما بنَوْه على التهمة، والتهمةُ ظنٌّ كاذبٌ يأثم صاحبُه ولا يَحِلُّ القولُ به، والتهمةُ متوجِّهةٌ إلى كُلِّ أحَدٍ وفي كُلِّ شيءٍ»(٩٢).
د) سبب اختلاف العلماء:
يرجع ـ في نظري ـ اختلافُ العلماء في هذه المسألةِ إلى سببين:
• تعارُضِ ظواهرِ أدلَّةِ الحنفية مع الجمهور.
• تعارُضِ وجهِ شَبَهِ الرهن بين الأمانة والسَّوْم(٩٣).
ـ فمَنْ رأى أنَّ الرهن مضمونٌ في يد المرتهن واعتمد على حديثِ أنسٍ رضي الله عنه مرفوعًا: «الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ»، وحديثِ عطاءٍ المتقدِّم(٩٤)، ورأى أنَّ الرهن له شَبَهٌ بالسَّوْم مِنْ جهةِ أنَّ المستام قَبَضه على وجهِ المُعاوَضة؛ قال: الرهنُ المحبوسُ عند المرتهنِ مضمونٌ، وإذا هَلَك صارَ المرتهنُ مُستوفِيًا حقَّه في ذلك المقدار، وما زاد عن قيمة الرهن فهو أمانةٌ لخُلُوِّه مِنْ وجه المعاوضة.
ـ ومَنِ اعتبر الرهنَ أمانةً في يد المُرتهنِ غيرَ مضمونةٍ واعتمد على حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ»، ورأى أنَّ الرهن له شَبَهٌ بالأمانات لأنَّ المُرتهِنَ قَبَض الرهنَ بإذن الراهن ورِضاهُ فأَشْبَه المُودَعَ عنده؛ قال: هلاك الرهن على الراهن، ويجب قضاءُ دَيْنِ المرتهن ما لم يَثْبُتْ أنه فرَّط فيه أو جَنَى عليه.
ـ ومَنِ استحسن التفريقَ بين هلاك الرهن بأمرٍ ظاهرٍ لا يمكن إخفاؤه وبين أمرٍ خفيٍّ يمكن كتمُه وإخفاؤه لحصول التهمة في الصورة الثانية دون الأولى؛ بَنَى استحسانَه على الجمع بين الأدلَّة السابقة: فوافَقَ أبا حنيفة في هلاك الرهن بأمرٍ خفيٍّ وهو ما يُغابُ، ووافق الجمهورَ في هلاكه بأمرٍ ظاهرٍ وهو ممَّا لا يُغابُ عليه.
ﻫ) الترجيح:
والذي يظهر لي أنَّ أقوى الأقوال في هذه المسألة: مذهبُ الجمهور القائلين بأنَّ الرهن أمانةٌ ليس بمضمونٍ، ولا يسقط شيءٌ مِنَ الدَّيْن بهلاك الرهن إلَّا بتَعَدٍّ أو تفريطٍ للأسباب التالية:
ـ فبالنظر إلى حديثِ أنسٍ رضي الله عنه الذي استدلَّ به الحنفيةُ في تضمين المُرتهنِ فهو ضعيفٌ لا يَنتهِضُ للاستدلال، وحديثُ عطاءٍ ـ هو الآخَرُ ـ مُرْسَلٌ وضعيفُ الإسناد لا يمكن الاحتجاجُ به، بينما حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه فهو مُرْسَلٌ وإسنادُه صحيحٌ كما تَقدَّم(٩٥)، وهو أقوى مِنَ المُرْسَل ضعيفِ الإسناد، ويصلح للاحتجاج في المشهور مِنْ مذهبِ أبي حنيفة ومالكٍ وأحمد، خلافًا لجمهور المُحدِّثين والأصوليِّين والفقهاء: أنه ضعيفٌ مردودٌ وإِنْ صحَّ سندُه ـ كما تَقدَّم(٩٦) أيضًا ـ.
ـ ولأنَّ المرتهن قَبَض الرهنَ على التوثُّق فكان أَشْبَهَ بالأمانة؛ إذ قَبَضه برِضَا الراهن توثقةً بماله؛ فهو كالمُودَعِ عنده مِنْ جهةٍ، وهي وثيقةُ حقٍّ لا يُقابِلها عوضٌ؛ فصارَتْ كالكفيل والشاهد: لا يسقط الدَّيْنُ بموتهما، وهذا بخلاف المستام فإِنَّ قَبْضه على معنى العوض فافترقَا.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
يتبــــــــــــــع