الآية 1، والآية 2: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ﴾: أي عَظُمَتْ بركات الله تعالى، وكَثُرَتْ خيراته، فهو الذي نَزَّلَ القرآن الفارق بين الحق والباطل ﴿ عَلَى عَبْدِهِ ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ أي ليكون مُخَوِّفًا للإنس والجن من عذاب اللهِ ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ ﴿ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ﴾ - لغِناهُ سبحانه عن ذلك - ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ﴾ ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ أي أعطى كل مخلوق ما يُناسبه من الخَلق، وهذا مِثل قوله تعالى: ﴿ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ﴾ أي أعطاهُ خَلْقه اللائق به على أحسن صُنعٍ ﴿ ثُمَّ هَدَى ﴾ يعني أرشَدَ كل مخلوق إلى الانتفاع بما خَلَقَه له.
الآية 3: ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا ﴾: أي اتّخذ المشركون معبوداتٍ باطلة لا تستطيع أن تخلق شيئاً (وإنْ صَغُر)، ﴿ وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ يعني: بل هي مصنوعةٌ مِن حجارة، فكيف إذاً يَعبدونها؟!، ﴿ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ﴾ (فكيف لها أن تَنفع عابِدِيها أو تَضُرّ مَن لم يَعبدها؟!)، ﴿ وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ﴾: أي لا تستطيع هذه المعبودات أن تَسلب حياة المخلوقات، أو أن تُوجِدهم من العدم، أو أن تُطِيلَ أعمارهم حينَ يأتي أجَلهم، أو أن تبعثهم أحياءً من قبورهم.
الآية 4: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ ﴾ أي ما هذا القرآن إلا كَذِبٌ اختلقه محمد ﴿ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ ﴾ ﴿ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ﴾ أي لقد ارتكبوا ظلمًا فظيعًا، وقالوا كذباً قبيحاً؛ فالقرآن لا يستطيع أن يقوله بَشَر (وهُم يَعلمونَ هذا لأنهم أبلغ البشر).
الآية 5، والآية 6: ﴿ وَقَالُوا ﴾ عن القرآن: ﴿ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا ﴾ أي قصص الأولين المُسَطَّرة في كُتُبهم، وقد نَقَلَها محمدٌ منهم ﴿ فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾: أي فهي تُقْرَأ عليه صباحًا ومساءً، فرَدّ اللهُ عليهم بقوله: ﴿ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾: يعني إنّ الذي أنزل القرآن هو اللهُ الذي أحاطَ عِلْمه بما في السماوات والأرض، ويَعلم ما يُسِرُّون وما يُعلنون، ﴿ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا ﴾ لمن تاب من الشِرك به وجحود رسالته، ﴿ رَحِيمًا ﴾ بهم حيث لم يُعاجلهم بالعقوبة، (فلولا أنّ رحمته سبقتْ غضبه لأَهلَكَ مَن كَفَرَ به).
♦ ويُذَكِّرني قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ بقول البرُوفِيسُور "يوشيودي كوزان" (مُدير مَرصَد طُوكيُو): (إنَّ هذا القرآن يَصِفُ الكونَ مِن أعلى نقطةٍ في الوجود، فكل شيء أمامه مكشوف، إنَّ الذي قال هذا القرآنَ يرى كل شيء في هذا الكون، فليس هناك شيءٌ قد خَفِيَ عليه).
من الآية 7 إلى الآية 9: ﴿ وَقَالُوا ﴾: ﴿ مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ ﴾ يعني: ما لهذا الذي يَزعم أنه رسول (يَقصدون محمدًا صلى الله عليه وسلم) يأكل الطعام مِثلنا ﴿ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ لطلب الرزق؟ ﴿ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ﴾ يعني: هَلاّ أرسَلَ اللهُ معه مَلَكًا ليَشهد على صِدقه، ﴿ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ ﴾ من السماء ﴿ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ ﴾ أي حديقة عظيمة ﴿ يَأْكُلُ مِنْهَا ﴾ لتكون دليلاً على اعتناء الله به؟، ﴿ وَقَالَ الظَّالِمُونَ ﴾ أي قال السادة لِمَتبُوعيهم: ﴿ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ﴾ أي: ما تَتَّبعونَ إلا رَجُلاً قد أصابه السِحرُ فأصبح مَخدوعاً به، فلا تتأثروا بكلامه ولا تلتفتوا إليه.
﴿ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ ﴾: أي تَعَجَّبْ أيها الرسول مِن قولهم عنك بأنك ساحر، حتى يُلقوا الشُكوك حولك، باحثينَ بذلك عن طريقٍ يُخَلِّصهم مِن دعوة التوحيد، ولكنهم لن يستطيعوا، ولهذا قال تعالى: ﴿ فَضَلُّوا ﴾ أي ضَلُّوا عن طريق الحق بسبب هذه الأقوال الكاذبة ﴿ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ﴾ أي: فلا يَجدونَ طريقاً يَرجعونَ به إلى الحق الذي تَرَكوه، أو يَتمكنوا به مِن صَرْف الناس عن دَعْوَتك (والذي أَوْقعهم في ذلك كِبْرهم وعِنادهم).
من الآية 10 إلى الآية 14: ﴿ تَبَارَكَ ﴾ اللهُ العظيم ﴿ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ ﴾ - أيها الرسول - ﴿ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ ﴾ الذي يَطلبونه منك، إذ لو شاء سبحانه لَجَعَلَ لك في الدنيا ﴿ جَنَّاتٍ ﴾ أي حدائق كثيرة ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ ﴿ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا ﴾ عظيمة، ولكنه سبحانه لم يَشأ ذلك في الدنيا، لأنها دارُ عمل، وليست دارُ جزاء وراحة ونعيم، والخير فيما يشاؤه سبحانه.
♦ وما كَذَّبوك لأنك تأكل الطعام وتمشي في الأسواق ﴿ بَلْ كَذَّبُوا ﴾ - عِناداً - ﴿ بِالسَّاعَةِ ﴾ التي تقوم فيها القيامة، ﴿ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ﴾ أي نارًا حارة تُوقَد عليهم وتَغلي بهم، و﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ ﴾ هذه النار يوم القيامة ﴿ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾: ﴿ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ﴾ أي سمعوا صوت غليانها وغَيظها منهم، ﴿ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا ﴾: يعني إذا أُلقوا في مكانٍ شديد الضِيق من جهنم، ﴿ مُقَرَّنِينَ ﴾ يعني: وقد قُيِّدَت أيديهم بالسلاسل إلى أعناقهم: ﴿ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ﴾: أي دَعَوْا على أنفسهم بالهلاك للخَلاص من ذلك العذاب، فحينئذٍ يُقالُ لهم تيئيسًا وتحسيراً: ﴿ لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ﴾ أي لا تَدْعوا اليوم بالهلاك مرة واحدة، بل ادعوا مراتٍ كثيرة، فإنه لا خَلاصَ لكم.
الآية 15، والآية 16: ﴿ قُلْ ﴾ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ أَذَلِكَ ﴾ يعني أهذه النار التي وُصِفتْ لكم ﴿ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ ﴾ يعني أم جنة النعيم الدائم ﴿ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ﴾ أي التي وَعَدَ اللهُ بها الخائفين من عذابه، ﴿ كَانَتْ ﴾ الجنة ﴿ لَهُمْ جَزَاءً ﴾ على أعمالهم، ﴿ وَمَصِيرًا ﴾ يَرجعون إليه في الآخرة، ﴿ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ ﴾ مِن كل ما تشتهيه أنفسهم مِمَّا لَذَّ وطابَ من المطاعم والمشارب والملابس والمراكب وغير ذلك مِمَّا لم يَخطر على قلب بَشَر، (وهذا هو مُنتهَى الإكرام، إذ كَون العبد يَجد كل ما يَشتهي، هو نعيمٌ ليس بعده نعيم)، ﴿ خَالِدِينَ ﴾ أي متاعهم فيها دائم، ﴿ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا ﴾ أي كان دخولهم الجنة وعدًا مسؤولاً على ربك - أيها الرسول - يسأله عليه عباده المتقون يوم القيامة قائلين: ﴿ رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ ﴾، والملائكة تقول: ﴿ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ﴾، فيُنجز اللهُ لهم وعده، والله لا يُخلف الميعاد.
الآية 17: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ ﴾ أي اذكر أيها الرسول يوم يَحشر الله المشركين مع آلهتهم التي كانوا يَعبدونها ﴿ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ كالملائكة والأنبياء والأولياء والجن ﴿ فَيَقُولُ ﴾ اللهُ لهؤلاء - الذين عَبَدهم المشركون -: ﴿ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ ﴾ عن طريق الحق، وأمَرتموهم بعبادتكم؟، ﴿ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ﴾ يعني: أم هم الذين ضَلّوا طريق الحق فعبدوكم مِن عند أنفسهم؟ (واعلم أنّ هذا الاستفهام غرضه التقرير والشهادة على المشركين).
الآية 18، والآية 19: ﴿ قَالُوا ﴾ أي قال المعبودون من دون الله:
﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ أي تنزيهًا لك يا ربنا عَمَّا فعل هؤلاء، فـ
﴿ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ ﴾ أي لا يَصِحُّ أن نَتَّخِذ تابعينَ لنا نأمرهم بعبادتنا وترْك عبادتك
﴿ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ ﴾ بطول الأعمار وسعة الأرزاق، فانغمسوا في الشهوات والمَلَذّات
﴿ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ ﴾ أي حتى نَسوا ذِكْرك وعبادتك وما جاءتهم به رُسُلك،
﴿ وَكَانُوا ﴾ بذلك
﴿ قَوْمًا بُورًا ﴾ أي قومًا هالكينَ خاسرين،
فحينئذٍ يُقال للمشركين: ﴿ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ ﴾: أي لقد كَذَّبكم الذين عبدتموهم في ادِّعائكم عليهم،
﴿ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا ﴾: أي فها أنتم الآن لا تستطيعون دَفْعًا للعذاب عن أنفسكم،
﴿ وَلَا نَصْرًا ﴾ أي: ولا تجدون مَن يَنصركم فيَمنع عنكم العذاب،
﴿ وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ ﴾ أيها الناس، بأن يُشرِك بربه - فيَعبد غيره ويَمُت على ذلك -
: ﴿ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ﴾ أي نُعَذّبه عذابًا شديدًا في جهنم.
الآية 20: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ ﴾ - أيها الرسول - أحدًا
﴿ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ﴾ مِثلك
﴿ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ إذاً فلا تهتم بقول المشركين لك: (ما لهذا الرسول يأكل الطعام)، فإنهم يَعرفون ذلك ولكنهم يُعاندون،
﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ ﴾ - أيها الناس-
﴿ فِتْنَةً ﴾ أي ابتلاءً واختبارًا بالغِنى والفقر، والصحة والمرض وغير ذلك (فالفقير يقول: ما لي لا أكون كالغني؟، والمريض يقول: مالي لا أكون كالصحيح؟، وكذلك فإنّ الغني مُبتلَى بإعطاء الفقير، وهكذا).
﴿ أَتَصْبِرُونَ ﴾ يعني: هل تصبرون على هذه الابتلاءات، وتصبرون على القيام بما أوجبه الله عليكم أو لا تصبرون؟، (
واعلم أنّ هذا الاستفهام غرضه الحث على الصبر والأمر به، فهو مِثل قوله تعالى - عندما حَرَّم الخمر والميسر -:
﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾؟ أي: انتهوا عمَّا حرّم الله)،
﴿ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ﴾ بمن يَسخَط أو يصبر، وبمن يَكفر أو يَشكر، فيَجزي الصابرين أجرهم بغير حساب، ويَجزي الساخطين بما يَستحقون من العذاب.
♦ واعلم أنّ قوله تعالى: ﴿
وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ﴾ يَحمل تصبيراً للرسول صلى عليه وسلم والمؤمنين، مِن أجل ما يُلاقونه مِن عِناد المشركين وأذاهم..
الآية 21: ﴿ وَقَالَ ﴾ المُكَذِّبون
﴿ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ﴾ أي الذين لا ينتظرون لقائنا في الآخرة (لأنهم لا يؤمنون بذلك):
﴿ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ ﴾ يعني: هَلاَّ أنزل اللهُ علينا الملائكة، لتُخْبِرنا بأنّ محمدًا صادق
﴿ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ﴾ فيُخبرنا بصدق رسالته.
♦ ثم وَضّحَ سبحانه سبب جُرأتهم على هذا القول بقوله: ﴿
لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ يعني إنهم أخفوا التكبر عن قبول الحق في أنفسهم المغرورة، فلذلك لجؤوا لتلك المَطالب على سبيل العِناد
﴿ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ﴾ أي تجاوزوا الحدَّ في طغيانهم وكُفرهم
.
الآية 22: ﴿ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ ﴾ - عند الاحتضار، وفي القبر، وفي القيامة - ولكنْ
﴿ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ ﴾: أي لن تبشرهم الملائكة بالجنة، بل
﴿ وَيَقُولُونَ ﴾ لهم:
﴿ حِجْرًا مَحْجُورًا ﴾: أي حرامًا مُحَرمًا عليكم أن تدخلوا الجنة، (
واعلم أنّ كلمة (مَحجورًا) هي صفة مؤكِّدة للمعنى)
.
الآية 23: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ﴾ مِن أعمال الخير والبر - كَصِلة الرحم وإطعام الطعام وفَكّ الأَسرَى وغير ذلك -
﴿ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ (وهو الغبار الخفيف الذي يُرَى في ضوء الشمس)،
وذلك لأن العمل لا ينفع في الآخرة إلا إذا توفرت في صاحبه هذه الشروط: (الإسلام، وإخلاص العمل لله وحده، واتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم)
.
الآية 24: ﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ ﴾ أي يوم القيامة ﴿ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا ﴾ من أهل النار ﴿ وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ﴾ أي أحسن منزلاً في الجنة، (فراحتهم تامة، ونعيمهم لا يُكَدَّر، وسعادتهم لا تَنقص).
♦ وهنا قد يقول قائل: كيف وَصَفَ اللهُ الجنة بأنها ﴿ أَحْسَنُ مَقِيلًا ﴾ أي مِن النار، ولا خيرَ أصلاً في النار حتى تُقارَن بالجنة؟
• والجواب: أنّ هذا من باب قول العرب: (الشقاء أحب إليك أم السعادة؟) وقد عُلِمَ أن السعادة أحَبُّ إليه.
الآية 25: ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ ﴾: أي اذكر أيها الرسول يوم القيامة، حينَ تتشقق السماء، ويَظهر من فتحاتها السحاب الأبيض الرقيق الذي يُشبه الضباب، ﴿ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا ﴾ من السموات، حتى يُحيطوا بالخلائق في أرض المَحشر، ويأتي اللهُ تبارك وتعالى لفصل القضاء بين العباد، إتيانًا يليق بجلاله وكماله.
الآية 26: ﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ ﴾ يعني: المُلْك الحق في هذا اليوم يكونُ للرحمن وحده دونَ غيره، (إذ لم يَبقَ لملوك الأرض شيء من المُلك)، ﴿ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ﴾ أي صعبًا شديدًا (لِما فيه من العذاب والأهوال)، (ويُفهَم مِن ذلك أن هذا اليوم يكونُ على المؤمنين غيرَ عسير، بل يكونُ سهلًا خفيفًا عليهم).
الآية 27، والآية 28، والآية 29: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ﴾ (نَدَمًا وحسرةً على ما قَدَّمَ في حق الله تعالى)، فـ ﴿ يَقُولُ ﴾: ﴿ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ﴾ يعني: يا ليتني اتَّبعتُ الرسولَ محمدًا صلى الله عليه وسلم، واتّخذتُ الإسلام طريقًا إلى الجنة، ثم يَتحسَّر قائلاً: ﴿ يَا وَيْلَتَى ﴾ يعني: يا هَلاكِي (والمقصود أنه يَدعو على نفسه بالهلاك والموت، لمُشاهدته لعَظائم الأهوال وما يَنتظره من أصناف العذاب)، ويقول: يا ﴿ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ ﴾ الكافر ﴿ فُلَانًا خَلِيلًا ﴾ أي صديقًا أتَّبعه وأُحِبُّه، فـ ﴿ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ ﴾ أي عن القرآن وما فيه من الهدى ﴿ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ﴾ من ربي، ﴿ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ﴾ أي يَخذله عند حاجته إليه (والمقصود أنه يُوَرِّطه ثم يتخلى عنه)، (وفي هذه الآيات تحذير من مصاحبة صديق السوء، فإنه يؤدي بصاحبه إلى النار).
♦ واعلم أنّ في هذه الآيات دليل على أنّ العِبرة في القرآن بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لأن الآية نزلتْ في "عُقبة بن أبي مُعَيْط" عندما أسلم، ثم لامَهُ صديقه المُشرِك "أُبَيّ بن خَلَف" على إسلامه، فأطاعه "عُقبة" وارتد عن الإسلام، فهو النادم المتحسر في الآية، ومع هذا فإن الله قال: ﴿ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ﴾، ولم يَذكر اسم "أُبَيّ بن خَلَف"، لتَبقى الآية على عمومها في كل زمان.
الآية 30: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ ﴾ - شاكيًا لربه ما صَنَعَ قومه -: ﴿ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا ﴾ أي هَجَروا القرآن، وتركوا تدبُّره والعمل به وتبليغه، (وفي الآية تخويف عظيم لمن هَجَرَ القرآن ولم يَعمل به).
الآية 31: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ ﴾ يعني: وكما جعلنا لك - أيها الرسول - أعداءً مِن مُجرِمي قومك، فكذلك جعلنا لكل نبيٍّ عدوًّا مِن مُجرِمي قومه، فاصبر كما صَبَرَ هؤلاء الأنبياء ﴿ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا ﴾ إلى طريق الفوز والنجاة ﴿ وَنَصِيرًا ﴾ لك على أعدائك، (وفي هذا تصبير للنبي صلى الله عليه وسلم على ما يُلاقيه مِن أذى قومه).
الآية 32: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾: ﴿ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ﴾ يعني: هَلَّا أُنزِلَ القرآن على محمد دُفعةً واحدة (كما نَزَلت التوراة والإنجيل)، فرَدَّ اللهُ عليهم بقوله: ﴿ كَذَلِكَ ﴾ يعني كذلك أنزلناه آية بعد آية - بحسب الحوادث والأحوال - ﴿ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾: أي لنُقَوِّي به قلبك أيها الرسول، حتى تتحمل أعباء الرسالة، وتزداد به طمأنينةً أنت وأصحابك، (إذ كلما نَزَلَ قرآن: ازدادَ المؤمنون إيمانًا، فقلوبهم تحيا بالقرآن، كما تحيا الأرض بالمطر)، ﴿ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ﴾: أي قرأناه عليك في تمَهُّل، (ويُحتمَل أن يكون المعنى: أنّ اللهَ أنزله مُرَتَّلًا (أي شيئًا بعد شيء)، ليَتيَسَّر حِفظه وفَهمه والعمل به).
الآية 33، والآية 34: ﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ ﴾ أي: لا يأتيك المشركون بشُبهةٍ معينة أو اقتراح معين - كقولهم: (ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟)، وقولهم: (لولا نُزِّلَ عليه القرآن جُملةً واحدة) - ﴿ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾: يعني إلا جئناك بالجواب الحق - الذي يَقطع حُجَّتهم - وبأحسن بيان له، (وهذا أحد أسباب نزول القرآن شيئًا بعد شيء، أنهم كلما شَكَّكوا في شيء، يَنزل القرآن بإبطال شُبهتهم، وإقامة الحُجة عليهم).
♦ أولئك المشركون هم ﴿ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ ﴾ أي تَسحبهم الملائكة على وجوههم ﴿ إِلَى جَهَنَّمَ ﴾، و﴿ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا ﴾ أي: هُم شَرُّ الناسِ مَنزلةً ﴿ وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ يعني: وهُم أبعد الناس عن طريق الحق.
الآية 35، والآية 36: ﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ﴾ وهو التوراة ﴿ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ﴾ أي جَعَلناهُ مُعِينًا له على تبليغ الرسالة، (والمقصود مِن أنّ هارون وزير أي يَشُدّ أَزْر موسى (يعني يُقوِّيه ويَتحمل معه أعباء الدعوة))، ﴿ فَقُلْنَا ﴾ لهما: ﴿ اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا ﴾ (وهُم فرعون وقومه) الذين كذَّبوا بأدلة توحيد الله تعالى التي جاءهم بها يوسف عليه السلام، (كما قال تعالى - حِكايةً عن مؤمن آل فرعون -: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ ﴾، فذَهَب موسى وهارون إليهم فكذَّبوهما أيضًا ﴿ فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا ﴾ أي تدميرًا عظيمًا، حيثُ أغرقناهم جميعًا في البحر.
الآية 37: ﴿ وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ ﴾ أي لَمَّا كذبوا نوحًا عليه السلام؛ (لأن مَن كَذَّبَ رسولاً فقد كَذّبَ الرسُل جميعًا، إذ دعوتهم واحدة وهي التوحيد)، فحينئذٍ ﴿ أَغْرَقْنَاهُمْ ﴾ بالطوفان ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً ﴾ أي عِبرة عظيمة على إهلاك المشركين وإنجاء المُوَحِّدين، ﴿ وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ ﴾ أي أعَدَّ اللهُ للمشركينَ الظالمين ﴿ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ في جهنم.
الآية 38: ﴿ وَعَادًا وَثَمُودَ ﴾ أهلكناهم عندما كذَّبوا رُسُلهم ﴿ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ ﴾ (وهُم أصحاب البئر الذين قتلوا نَبِيَّهم وألقوه في البئر فأهلكناهم)، ﴿ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ﴾ يعني: وأهلكنا أممًا كثيرة - بين قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب البئر - لا يَعلمهم إلا الله.
الآية 39: ﴿ وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ ﴾ يعني: وكل الأمم قد وضَّحنا لهم الأدلة والبراهين، ومع ذلك لم يؤمنوا، ﴿ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ﴾: أي أهلكناهم بالعذاب إهلاكًا عظيمًا.
الآية 40: ﴿ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ ﴾: أي لقد كان مُشرِكو "مكة" يَمُرُّون في أسفارهم على قرية قوم لوط التي أُهلِكَت بالحجارة من السماء، ﴿ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا ﴾؟! (بلى لقد رأوها)، ﴿ بَلْ ﴾ مَنَعهم من الاعتبار بها أنهم ﴿ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا ﴾ أي كانوا لا يَنتظرون مَعادًا يوم القيامة يُجازون فيه على أعمالهم، فلذلك لم تنفعهم المواعظ ولم تؤثر فيهم العِبَر.
الآية 41، والآية 42: ﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا ﴾ يعني: إذا رآك هؤلاء المشركون - أيها الرسول - استهزؤوا بك قائلين: ﴿ أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا ﴾ يعني: أهذا الذي يَزعم أن الله بعثه رسولًا إلينا؟ ﴿ إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا ﴾ أي لقد قارَبَ أن يَصرفنا عن عبادة أصنامنا بقوة حُجَّته وبيانه ﴿ لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا ﴾ يعني: لولا أننا ثَبَتْنا على عبادتها، ﴿ وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ﴾ في الآخرة: ﴿ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ يعني مَن أضَلُّ دينًا؟ أهُم أم محمد صلى الله عليه وسلم؟
الآية 43، والآية 44: ﴿ أَرَأَيْتَ ﴾ أيها الرسول ﴿ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ﴾ أي جَعَل طاعته لهواه كطاعة المؤمن لله ﴿ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ﴾ حتى تردَّه إلى الإيمان؟! ﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ ﴾ القرآنَ سَماعَ تدبُّر ﴿ أَوْ يَعْقِلُونَ ﴾ أي يَتفكرونَ فيه ليَهتدوا؟! ﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ﴾ أي: ما هم إلا كالبهائم في عدم الانتفاع بما يسمعونه ﴿ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ يعني: بل هم أضَلُّ طريقًا منها؛ (لأن الأنعام تعرف طريق مَرعاها وتستجيب لنداء راعيها، أما هم فقد جَهلوا ربهم الحق، ولم يستجيبوا لنداء رسوله).
الآية 45، والآية 46: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ﴾ يعني ألم تَرَ إلى صَنِيعِ ربك ﴿ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ﴾ أي مَدَّهُ في الكون (منذ طلوع الفجر إلى شروق الشمس)؟ ﴿ وَلَوْ شَاءَ ﴾ سبحانه ﴿ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ﴾ أي ثابتًا مستقرًّا لا تزيله الشمس، ولكنه جعل أحواله متغيرة (لتُعرَف به ساعات النهار وأوقات الصلوات، وغير ذلك من مصالح العباد)، ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ﴾ أي جعلنا الشمس علامة على وجوده (إذ لولا الشمس: ما عُرِفَ الظل)، ﴿ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ﴾ أي أزَلنا الظل شيئًا فشيئًا بضوء الشمس (إذ كلما ازداد ارتفاع الشمس:ازداد نقصان الظل، حتى يَنتهي ويَحِل مَحَلَّه الظلام)، (وهذا من الأدلة على قدرة الله تعالى وحِكمته، وعنايته بمصالح خلقه، وأنه وحده الذي يَستحق أن يَعبدوه).
♦ واعلم أنّ قوله تعالى: ﴿ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا ﴾ فيه تشبيهٌ للظل بثوبٍ بَسَطَه صاحبه ثم طَواهُ، فسبحان الخَلاَّق القدير.
الآية 47: ﴿ وَهُوَ ﴾ سبحانه ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴾ أي ساترًا يَستركم بظلامه (كما تَستركم الثياب)، ﴿ وَالنَّوْمَ سُبَاتًا ﴾ أي جعل سبحانه النوم راحةً لأبدانكم ﴿ وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ﴾ أي جعل النهار لتنتشروا في الأرض، وتسعوا في طلب رزقكم.
♦ واعلم أنّ المقصود بوصف النهار بالنشور (وهو البَعث) - أنَّ الله جعل النهارَ حياةً بعد وفاة النوم (إذ النوم بالليل كالموت، والانتشار بالنهار كالبعث)، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا استيقظ مِن نومه: "الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور".
الآية 48، والآية 49: ﴿ وَهُوَ ﴾ سبحانه ﴿ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ ﴾ (التي تحمل السحاب)، لتكونَ ﴿ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾ أي لتُبَشِّر الناس بالمطر (رحمةً منه سبحانه)، ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ﴾، (والماء الطهور هو الماء الطاهر الذي يَتطهر به الناس من النجاسات)، وقد أنزلناهُ ﴿ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا ﴾: أي لنُخرج به النبات في مكانٍ يابس ميت، ﴿ وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ﴾ أي: ولِنُسْقي بذلك الماء كثيرًا مِمّن خَلَقنا من الحيوانات والناس، (ففي إنزال اللهِ للماء، وفي هداية خَلقه لتناوله، وفي إحياء الأرض المَيتة به، دليلٌ على استحقاق الله وحده للعبادة، وأنه القادرُ على بَعث الخلائق بعد موتهم).
الآية 50: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ ﴾ أي أنزلنا المطر على أرضٍ دونَ أخرى ﴿ لِيَذَّكَّرُوا ﴾ أي ليَتذكر الذين أنزلنا عليهم المطر نعمة الله عليهم فيشكروه، وليَتذكر الذين مُنِعوا المطر مَعصيتهم، فيُسارعوا بالتوبة إلى ربهم، ليَرحمهم ويَسقيهم، ﴿ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ﴾ أي فلم يَقبل أكثر الناس إلا الجحود بنعمنا عليهم، كقولهم: (مُطِرْنا بفضل كوكب كذا وكذا).
الآية 51، والآية 52: ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا ﴾ (يَدعوهم إلى توحيد ربهم ويُنذرهم عذابه)، ولكننا جعلناك - أيها الرسول - مَبعوثًا إلى جميع أهل الأرض، وأَمَرناك أن تُبلغهم هذا القرآن،﴿ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ ﴾ في ترْك شيءٍ مِمّا أرسلناك به، بل ابذل كل جهدك فيتبليغ الرسالة ﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ ﴾ أي بهذا القرآن وما فيه من الحُجَج والأدلة ﴿ جِهَادًا كَبِيرًا