أو

الدخول بواسطة حسابك بمواقع التواصل

#1

افتراضي تفسير سورة الفتح



تفسير سورة الفتح


الآية 1، والآية 2، والآية 3: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ أيها الرسول ﴿ فَتْحًا مُبِينًا أي فتحاً ظاهرًا واضحاً (يُظهر الله فيه دينك)، والراجح أنّ المقصود بهذا الفتح هو صًلح "الحُدَيْبِيَة"، الذي كانَ قبل فتح مكة، والذي كان من شروطه أن يأمن الناس فيه على دمائهم، وأن يعتنقوا الدين الذي يرغبونه بإرادتهم، فبذلك اتّسعت في تلك المدة دائرة الدعوة لدين الله، وتمَكَّنَ مَن يريد الوصول إلى الحق مِن معرفة الإسلام، والوقوف على حقيقته، فدخل الناس في دين الله أفواجًا؛ ولذلك سمَّاه الله فتحًا مبينًا.

♦ وقد فتَحنا لك ذلك الفتح - أيها الرسول - ويَسَّرناه لك﴿ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ بسبب الطاعات الكثيرة التي نَتَجَتْ من هذا الفتح، وبسبب ما تحَمَّلتَه من المتاعب والأذى في سبيل الدعوة ﴿ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ يعني: ولكي يُتِمّ نعمته عليك بإظهار دينك ﴿ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا: أي يوفقك سبحانه إلى الثبات على الطريق المستقيم الذي لا انحراف فيه (وهو الإسلام)، المُوَصِّل بمن اتّبعه إلى الجنة،﴿ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ على أعدائك ﴿ نَصْرًا عَزِيزًا أي نصرًا قويًّا لا يَغلبه غالب، ولا يَدفعه دافع (بسبب دخول الكثيرين في الإسلام - ومنهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص - واستعدادهم لقتال الأعداء).

الآية 4، والآية 5، والآية 6: ﴿ هُوَ سبحانه ﴿ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ: أي أنزل الطمأنينة ﴿ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ يوم الحُدَيْبِيَة فسكنَتْ قلوبهم، ورَسَخَ اليقين فيها ﴿ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ: أي ليزدادوا تصديقًا بدين الله واتّباعًا لرسوله (مع تصديقهم واتّباعهم)، ﴿ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (الذين يَنصر الله بهم عباده المؤمنين) - ومن هذه الجنود: السكينة التي يُنزلها سبحانه في القلوب فتهدأ وتطمئن - وما يَعلم جنود ربك إلا هو، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا بخلقه، ﴿ حَكِيمًا في تدبيره لأولياءه، (واعلم أنّ في قوله تعالى: (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) دليلٌ على أن الإيمان يزيد وينقص، فيزيد بالطاعة، ويَنقص بالمعصية).

♦ واعلم أنّمن الأسباب المؤدية إلى السكينة والطمأنينة: (طلب رضا الخالق، والاستغناء عن المخلوقين)، وكذلك الرضا بالقضاء والقدر، كما قال تعالى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)، قال "عَلقمة" رحمه الله في تفسير هذه الآية: (هو الرجلُ تصيبُه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله؛ فيَرضى ويسلِّم).

♦ وقد قدَّرَ اللهُ ذلك الفتح، وشَرَعَ لعباده الجهاد ﴿ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ - الطائعين لأوامر الله - ﴿ جَنَّاتٍ أي بساتين جميلة المنظر ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أي تجري الأنهارُ مِن تحت أشجارها المُتدلِّية﴿ خَالِدِينَ فِيهَا (فحياتهم فيها أبديةٌ، وفرْحَتهم فيها لا توصَف)،﴿ وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ أي يمحو عنهم ذنوبهم فلا يُعاقبهم عليها (بسبب توبتهم، وندمهم على ما مضى من ذنوبهم) ﴿ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (لأنّ فيه النجاة من كل خوف وغَمّ، وفيه الحصول على كل مطلوبٍ ومحبوب)، ﴿ وَيُعَذِّبَ سبحانه ﴿ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشرِكينَ وَالْمُشْرِكَاتِوهم ﴿ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ أي الذين يظنون أنّ الله لن يَنصر نبيّه والمؤمنين وأنه لن يُظهر دينه، أولئك ﴿ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ: يعني عليهم تدور دائرة العذاب والشقاء وكل ما يسُوءهم ﴿ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴿ وَلَعَنَهُمْ أي طَرَدهم من رحمته ﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا أي قبُحَت مصيراً يصيرون إليه بعد موتهم.

الآية 7: ﴿ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (الذين يؤيد بهم عباده المؤمنين)، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا في انتقامه من أعدائه، ﴿ حَكِيمًا في تدبيره لأوليائه المؤمنين، (واعلم أنّ الفعل (كان) إذا جاء مع صفة معينة، فإنه يدل على أنّ هذه الصفة مُلازِمة لصاحبها، كقوله تعالى - واصفاً نفسه بالرحمة والمغفرة -: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) أي كانَ - دائماً وأبَداً - غفوراً رحيماً).

- الآية 8، والآية 9: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ أيها النبي ﴿ شَاهِدًا على أمّتك بإبلاغهم الرسالة ﴿ وَمُبَشِّرًا للمؤمنين بالرحمة والجنة، ﴿ وَنَذِيرًا للعُصاة والمُكَذِّبين من النار﴿ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِبعد قيام الحُجَّة عليكم، ﴿ وَتُعَزِّرُوهُ: أي تنصروا الله بنَصركم لدينه وعباده المؤمنين، ﴿ وَتُوَقِّرُوهُ: أي تعظموه سبحانه فلا تعصوه، بل تؤدون عبادته كما ينبغي ﴿ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا بالصلاة وغيرها.

الآية 10: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ يعني إن المؤمنين الذين يُعاهدونك أيها النبي بوادي "الحُدَيْبِيَة" على قتال المُشرِكين في ديارهم بمكة﴿ فَمَنْ نَكَثَ أي نَقَضَ عهده - فلم يقاتل مع الرسول والمؤمنين - ﴿ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ لأنّ إثم ذلك سيعود عليه وحده، ﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ مِن نُصرة نبيّه والصبر عند لقاء أعداءه وعدم الفرار منهم: ﴿ فَسَيُؤْتِيهِ سبحانه ﴿ أَجْرًا عَظِيمًا وهو الجنة.

الآية 11، والآية 12: ﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ (وهم "البدو" الذين تخلَّفوا عن الخروج معك أيها الرسول إلى مكة للعمرة، عندما طلبتَ منهم ذلك تحسُّباً لقتال قريش لكم)، فهؤلاء سيقولون لك إذا عاتبتَهم على تخلفهم: ﴿ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا﴿ فَاسْتَغْفِرْ لَنَا أي اسأل ربك أن يغفر لنا تخلُّفنا، وهم ﴿ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ: أي يقولون ذلك بألسنتهم ولا حقيقة له في قلوبهم، ﴿ قُلْ لهم أيها الرسول: ﴿ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا؟! لا أحد، إذاً فاتقوا اللهَ وتوبوا من نفاقكم، ولا تتركوا القتال خوفاً من الموت، حتى لا يُهلككم سبحانه بعذابٍ من عنده، ﴿ بَلْ: يعني ليس الأمر كما ظننتم أيها المنافقون مِن أن الله لا يعلم ما في صدوركم من النفاق، ولكنْ ﴿ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا لا يَخفى عليه شيءٌ من أعمالكم (ظاهرها وباطنها)، وسيُجازيكم عليها إن لم تتوبوا، ﴿ بَلْ: يعني وليس الأمر كما زعمتم من انشغالكم بالأموال والأهل، ولكنْ ﴿ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا: أي ظننتم أنّ أهل قريش سوف يقتلون الرسول وأصحابه، وأنهم لن يَرْجعوا إليكم أبدًا ﴿ وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ: أي حَسَّن الشيطان ذلك في قلوبكم، ﴿ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ أي ظننتم ظنًا سيئًا أن الله لن ينصر نبيّه وأصحابه على أعدائهم ﴿ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا أي كنتم قومًا هَلْكى لا خيرَ فيكم عندما ظننتم ذلك الظن السيئ.

الآية 13، والآية 14: ﴿ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴿ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا أي أعددنا لهم نارًا حارة تُوقَد عليهم وتَغلي بهم (وهذا تخويفٌ لهم لَعَلّهم يَرجعون إلى ربهم)، ﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أي بيده سبحانه كل شيء، فـ ﴿ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ بفضله ورحمته ﴿ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ بعدله وحكمته ﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا لمن تاب إليه، ﴿ رَحِيمًا به، حيث جعل التوبة نجاةً له، (وقد كانت هذه دعوةً لهم إلى التوبة مِن نفاقهم وعدم الإصرار عليه، وبالفِعل، فقد تاب أكثرهم والحمد لله).

الآية 15: ﴿ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ (وهم الذين تخلَّفوا عن الخروج معكم أيها المؤمنون إلى مكة)، فسيقولون لكم ﴿ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا (وهي غنائم "خيبر" التي وعدكم الله بها وأنتم راجعون من "الحُدَيْبِيَة"): ﴿ ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ: أي اتركونا نذهب معكم إلى خيبر، ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ: أي يريدون بذلك أن يُغَيِّروا وَعْد الله لأهل الحُدَيبِيَة، إذ وعدهم سبحانه أن يجعل لهم غنائم خيبر عِوَضاً عن فتح مكة في هذا العام، ﴿ قُلْ لهم أيها الرسول: ﴿ لَنْ تَتَّبِعُونَا: يعني لن تخرجوا معنا إلى خيبر، ﴿ كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ: يعني إن الله قد قال لنا - قبل رجوعنا إلى "المدينة" -: (إن غنائم خيبر لمن حضر بَيعة الحُدَيْبِيَة فقط)، ﴿ فَسَيَقُولُونَ لكم: ﴿ بَلْ تَحْسُدُونَنَا: يعني ليس الأمر كما تقولون، فإن الله لم يأمركم بهذا، ولكنكم تمنعوننا من الخروج معكم حسدًا منكم؛ لكي لا نأخذ معكم من الغنيمة، ثم قال تعالى: ﴿ بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا: يعني ليس الأمر كما زعموا من أنكم تحسدونهم، ولكنهم لا يفهمون عن الله مِن أمْر الدين إلا شيئاً يسيرًا، فلذلك لم يَفهموا أن الله لن يُخلِف وعده ولو كرهوا ذلك.

الآية 16: ﴿ قُلْ أيها الرسول ﴿ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ - وهم الذين تخلَّفوا من "البدو" عن الخروج إلى مكة -: ﴿ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يعني سوف يعطيكم الله فرصةً أخرى لكي تُثبِتوا صِدق إيمانكم وتوبتكم، فسوف يأمركم سبحانه بقتال قومٍ يَمتلكونَ شجاعة وقوةشديدة في القتال، فـ ﴿ تُقَاتِلُونَهُمْ﴿ أَوْ يُسْلِمُونَ مِن غير قتال، ﴿ فَإِنْ تُطِيعُوا أمْرَ ربكم: ﴿ يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وهو الجنة ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يعني: وإن تعرضوا عن طاعة أمْره ﴿ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ حين تخلفتم عن السير مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة: ﴿ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا في نار جهنم، (هذا، وقد اختلف العلماء في المقصود بهؤلاء القوم: هل هم الفُرس أو الروم أو أصحاب مُسَيلمة الكذاب؟، واللهُ أعلم).

الآية 17: ﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ يعني ليس عليه إثم في أن يتخلَّف عن الجهاد مع المؤمنين لعدم استطاعته، ﴿ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ لأن هؤلاء جميعاً أصحاب أعذار، ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ - في الجهاد وغيره - ﴿ يُدْخِلْهُ سبحانه ﴿ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّ أي يُعرض عن طاعة الله تعالى، فيتخلَّف عن الجهاد مِن غير عُذر: ﴿ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا في نار جهنم.

الآية 18، والآية 19: ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ أي حين بايعوك أيها النبي ﴿ تَحْتَ الشَّجَرَةِ على قتال المُشرِكين في مكة، (وهذه البَيعة تسمى بيعة الرضوان في عام "الحُدَيْبِيَة") ﴿ فَعَلِمَ سبحانه ﴿ مَا فِي قُلُوبِهِمْ من الإيمان والصدق والوفاء ﴿ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ يعني أنزل الطمأنينة عليهم وثبَّت قلوبهم حتى لا يخافوا من المُشرِكين، ﴿ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا وهو فتح خيبر﴿ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا من أموال يهود خيبر ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا أي غالباً، لا يمنعه شيئٌ من فعل ما يريد، ﴿ حَكِيمًا في تدبيره وصُنعه.

الآية 20، والآية 21: ﴿ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا في أوقاتها التي قدَّرها لكم، ﴿ فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ: أي عجَّل لكم غنائم خيبر، ﴿ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ أي مَنَعَ اليهود أن يصيبوكم بالسوء الذي كانوا يُخفونه لكم (وهو قَتْل نسائكم وأولادكم وأخْذ أموالكم أثناء غيابكم عن "المدينة")، فصَرَفَ الله قلوبهم عن ذلك لتشكروه ﴿ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ يعني: ولتكون هذه الصَرفة (التي صَرَفهم بها عنكم)، ثم هزيمتهم على أيديكم في خيبر،وغنيمتكم بديارهم وأموالهم: علامة تستدلون بها على أن الله حافظكم وناصركم - في حضوركم وغيابكم - إن أطعتموه واتقيتموه، ﴿ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا: أي يوفقكم إلى الثبات على الطريق المستقيم (وهو الإسلام)، ومِن ذلك: طاعة الله تعالى والتوكل عليه وحده في جميع أموركم، ﴿ وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا يعني: وقد وعدكم الله بغنيمة أخرى لم تقدروا عليها (وهي غنائم فارس والروم) ﴿ قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا يعني ولكنه سبحانه قادرٌ عليها، فهي في ملكه وتحت تصرفه، وقد وعدكم بها ولا بد مِن وقوع ما وَعَدَ به، وقد حدث ذلك والحمد لله ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا.


الآية 22، والآية 23: ﴿ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا من قريش - في الحُدَيْبِيَة - ﴿ لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ: أي لأعطوكم ظهورهم فِراراً منكم ﴿ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا يُعينهم على قتالكم، ﴿ وَلَا نَصِيرًا يَنصرهم عليكم،وقد كانت هذه ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ أي هذه هي طريقته سبحانه التي قد مضت في الأمم السابقة (وهي نَصْر أوليائه وهزيمة أعدائه)، ﴿ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا يعني لن يستطيع أحد أن يُغيّر طريقة الله في خَلْقِهِ وكَوْنه.

الآية 24: ﴿ وَهُوَ سبحانه ﴿ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ أي صَرَفَ المُشرِكين عن إيذائكم ﴿ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ يعني: وصَرَفكم سبحانه عن قتلهم ﴿ بِبَطْنِ مَكَّةَ وهي الحُدَيْبِيَة﴿ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ يعني من بعد أنْ قَدَرْتم عليهم، فصاروا تحت سلطانكم (والمقصود بهؤلاء المُشرِكين: هم ثمانون رجلاً خرجوا من مكة ليقتلوا الرسول وصحابته بالحُدَيْبِيَة، فأوقعهم الله في أيدي الصحابة، فعفا عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يقتلهم، فكان ذلك سبب صلح الحُدَيْبِيَة) ﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا.


الآية 25، والآية 26: ﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: كفار قريش هم الذين جحدوا توحيد الله تعالى ﴿ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: أي منعوكم يوم الحُدَيْبِيَة عن دخول المسجد الحرام لأداء العمرة وأنتم مُحرِمون، ﴿ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ يعني: ومنعوا الهدي أن يبلغ مكانَ ذَبْحه وهو الحرم، فظل محبوساً في مكانه بالحُدَيْبِيَة، ﴿ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ مُستضعَفون ﴿ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ يعيشون بين هؤلاء الكافرين بمكة، ويكتمون إيمانهم خوفاً على أنفسهم ﴿ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أيها المؤمنون؛ فلَعَلّكم إنْ دخلتم مكة للحرب والقتال ﴿ أَنْ تَطَئُوهُمْ أي " تَدهَسُوهم" بجيشكم فتقتلوهم، ﴿ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ: أي فحينئذٍ يصيبكم عيبٌ وعار بسبب قتلكم لهم خطأً بغير علم، وما يَلزم لذلك من الكفارة ودفع الدِيَة لأهل المقتول.

♦ وقد رَضِيَ الله لكم بالصُلح مع المُشرِكين، ولم يأذن لكم بقتالهم ﴿ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ أي ليُنعِم على كثيرٍ منهم بالإيمان بعد الكفر - وذلك أثناء هُدنة الحُدَيْبِيَة، وبعد فتح مكة - ﴿ لَوْ تَزَيَّلُوايعني: لو تميَّز هؤلاء المؤمنون والمؤمنات عن مُشرِكي "مكة"، وخرجوا مِن بينهم: ﴿ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا بأيديكم (قتلاً وأسراً)، وذلك ﴿ إِذْ أي حينَ ﴿ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ (وهي الكِبر والتعاظم المانعَين لهم عن قبول الحق)، ومِن ذلك امتناعهم أن يدخل الرسول وأصحابه مكة، حين قالوا: (كيف يقتلون أبناءنا ويدخلون بلادنا؟، واللاتِ والعُزَّى ما دخلوها)، وحين رفضوا أن يكتبوا أثناء صُلح الحُدَيْبِيَة: "بسم الله الرحمن الرحيم"، ورفضوا أيضاً أن يكتبوا: "هذا ما قاضَى عليه محمد رسول الله"، فهَمَّ بعض الصحابة أن يرفضوا الصلح انتصاراً لدينهم، ولكنه سبحانه عَلِمَ أن المصلحة والخير في ذلك الصلح ﴿ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ يعني أنزل الطمأنينة والحِلم ﴿ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فوافقوا على عدم كتابة ذلك، فتَمَّ الصلح ﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى يعني: وجَعَلَهم مُلتزمين بما تقتضيه كلمة التقوى"لا إله إلا الله" من الثبات والسكون والحِلم والحكمة ﴿ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا يعني: وكان الرسول وأصحابه أحق بكلمة التوحيد من غيرهم، وكانوا أهلاً للتقوى، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (ومِن ذلك: عِلمه بأحقية أصحاب رسول الله بالإيمان والتقوى من غيرهم) ولَعَلَّ الله تعالى وَصَفَ كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" بأنها كلمة التقوى لأنها رأس كل تقوى، ولأنها الواقية مِن الشِرك والخلود في النار، واللهُ أعلم.

الآية 27، والآية 28: ﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ أي جَعَلَ الله الرؤيا التي أراها لرسوله عام الحُدَيْبِيَة حقاً، وكان مضمون هذه الرؤيا: ﴿ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - لأن الرؤيا لم تحدد العام الذي سيدخلون فيه مكة - ﴿ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ (وهذا كناية عن أداءكم للعمرة والحج باطمئنان)﴿ لَا تَخَافُونَ من المُشِركين (وهذا هو ماحدث في فتح مكة فيما بعد)، ﴿ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أي: فعَلِمَ سبحانه أنّ الخير والمصلحة في صَرْفكم عن "مكة" في عامكم ذلك، ودخولكم إليها فيما بعد، وأنتم لم تعلموا ذلك، لأنكم لا تعلمون الغيب، ولم تعلموا بأمر المؤمنين المستضعفين بمكة ﴿ فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا أي جعل لكم قبل أن تدخلوا مكة - كما وَعَدَكم في الرؤيا -: فتحاً قريباً (وهو هُدنة الحُدَيْبِيَة وفتح خيبر).





﴿ هُوَ سبحانه ﴿ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ أي بالقرآن العظيم ودين الإسلام الواضح ﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي لِيُعلِيَهُعلى الأديان الباطلة كلها ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا: أي يَكفيك أيها الرسول أن الله شاهدٌ على أنه سينصرك ويُظهر دينك على كل دين باطل، (وقد حَقَّقَ سبحانه وعده، فالإسلامُ ظاهرٌ في الأرض كلها، سَمِعَ به أهل الشرق والغرب، واعتنقه الناس في أنحاء المعمورة).

الآية 29: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أي على دينه (وفي مقدمتهم الصحابة الكرام): ﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴿ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ: أي يَرحم المؤمنون بعضهم بعضاً ﴿ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًاأي كأنهم دائماً في ركوع وسجود (وهذا كناية عن إكثارهم من النوافل)، ﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا أي يرجون ربهم أن يتفضل عليهم، فيُدخلهم الجنة ويَرضى عنهم، ﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ يعني: علامة طاعتهم ظاهرة في وجوههم من أثر السجود والعبادة، ﴿ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ يعني هذه هي صفتهم الموجودة في التوراة، ﴿ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ يعني: وأما صفتهم الموجودة في الإنجيل، فهي ﴿ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ يعني أخرج ساقه وفروعه ﴿ فَآَزَرَهُ: أي فتكاثرت فروعه بعد ذلك ﴿ فَاسْتَغْلَظَ أي قَوِيَ الزرع واشتد ﴿ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ أي صارَ قائمًا على سيقانه، فأصبح مَنظره جميلاً ﴿ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ،فبذلك قَوَّى الله الصحابة وكَثَّرهم ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ - أي من الصحابة بصفة خاصة -: ﴿ مَغْفِرَةً لذنوبهم ﴿ وَأَجْرًا عَظِيمًا وهو الجنة، (وللصحابة الفضل والسَبْق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمّة، إذ كانوا أفهم الناس لدين الله تعالى، وضَحُّوا بأرواحهم وبكل ما يملكون مِن أجل نُصرة هذا الدين وإبلاغه إلى جميع الخلق، فاللهم إنا نحبهم بحُبِّكَ لهم، فاجمعنا معهم في جنتك ودار كرامتك).



من سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرةمن (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي" ، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير. واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذاالأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.



رامى حنفى محمود
شبكة الألوكة


تفسير سورة الفتح







قد تكوني مهتمة بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى
فوائد سورة البقرة مع قصص واقعية ام عبد الاله الرقية الشرعية والسحر
القران الكريم كاملاً بصوت السديس .mp3 - استماع وتحميل Admin القرآن الكريم
القران الكريم كاملاً بصوت الحصري 2025 .mp3 - استماع وتحميل Admin القرآن الكريم
مصحف الشيخ ماهر المعيقلي كاملاً بجودة عالية mp3 عاشقة الفردوس القرآن الكريم
فوائد سور القران هبة الرحمان2 المنتدي الاسلامي العام


الساعة الآن 09:01 AM


جميع المشاركات تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع


التسجيل بواسطة حسابك بمواقع التواصل